مع استعداد الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن لتسلّم مقاليد الحكم رسمياً 20 يناير/كانون الثاني المقبل، بعد تغلّبه في الانتخابات على الرئيس دونالد ترامب، تعززت فرضية عودة الإدارة الجديدة إلى مسار التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي، وربما العودة للالتزام بالاتفاق النووي (5+1) الذي أبرمته إدارة أوباما 2015.
ومما يزيد من فرص تلك الفرضية هو موقف الإدارة الجديدة، الذي تبدّت معالمه في شعار "عودة أمريكا" من خلال الالتفات بشكل أكبر إلى الداخل، وإعادة ترتيب البيت الأمريكي، ومواجهة المشكلات الكبيرة وفي مقدمتها الاقتصاد، وجائحة كورونا، الأمر الذي ورد على لسان بايدن وأعضاء إدارته المحتملين منذ حملته الانتخابية، وبعد إعلانه خطاب النصر.
خلال السنوات الأربع من حكم إدارة ترامب بُنيت الاستراتيجية الأمريكية على حالة الضغط الأقصى على إيران، وأفضت إلى إعلان ترامب، في مايو/أيار 2018، التنصل من الاتفاق النووي، وفرض مزيد من العقوبات التي خلّفت آثاراً اقتصادية كبيرة على طهران.
إسرائيل المحرِّض الأكبر
وبطبيعة الحال فقد كانت إسرائيل المُحرض الأكبر وراء دفع ترامب لإعلان الانسحاب من الاتفاق النووي، الذي كانت أشد المعارضين له، واعتبرته تهديداً مباشراً لنظرية التفوق الإقليمي.
واعتبرت تل أبيب أن الاتفاق النووي سيمنح إيران فرصاً أكبر لامتلاك القنبلة النووية مستقبلاً، فضلاً عن أن الاتفاق حدّ نسبياً من قدرة يد الموساد الإسرائيلي (الاستخبارات الخارجية) على التحرك واغتيال عدد من العلماء الإيرانيين العاملين في المشروع النووي.
ولم تُخفِ إيران، وعلى لسان أكثر من مسؤول فيها، استبشارها بتوجهات إدارة بايدن نحو ملفها النووي، بل لا نبالغ بالقول إنها تنفست الصعداء بعد تجلّي تلك التوجهات، كيف لا وقد بلغت العقوبات الاقتصادية مبلغاً كبيراً في الاقتصاد الإيراني، الذي يواجه تحديات مزدوجة بفعل تلك العقوبات وجائحة كورونا.
صدمة اغتيال زادة
لكنّ التحولات الجديدة دقّت ناقوس الخطر لدى إسرائيل والحلفاء العرب لأمريكا في الشرق الأوسط، على حد سواء، وفي خضم ذلك تلقّت إيران ضربة استراتيجية على صعيد مشروعها النووي، تمثلت في اغتيال إسرائيل -على الأرجح- للعالم النووي محسن فخري زادة، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني.
تلك الضربة جاءت في توقيت حساس من شأنه أن يُربك حسابات المشهد من جديد.
لكنّ إيران تعاملت بحكمة وذكاء مع تلك الضربة المُحرجة، سعياً لتحقيق مكاسب كبيرة في اتجاهات متعددة، بدلاً من الانجرار نحو فخ إسرائيلي نُصب لها بعناية، وهو ما دفعها للتروي في الرد على حادثة الاغتيال، برغم تأكيدات المسؤولين فيها على حتمية الرد، ولكن في الوقت والكيفية المناسبين.
ومما شجع إيران على موقفها تأكيد عدد من الأطراف الأخرى، وخاصة شركاء الاتفاق النووي: روسيا، والصين، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا- التزامهم بذلك الاتفاق، وحثها على عدم اتخاذ خطوات تصعيدية، لاسيما مع قرب مغادرة الرئيس "غير المرغوب فيه" دونالد ترامب، البيض الأبيض.
آثرت إيران تحويل الأمور إلى معطيات عملية رجّحت فيها انتظار تسلم بايدن مقاليد الحكم رسمياً، لكنها عملت على تدعيم موقفها الميداني والسياسي عقب اغتيال "زادة"، وسعت لتعزيز موقفها على طاولة المفاوضات المحتملة مع إدارة "بايدن"، وامتلاك أوراق قوة جديدة تخدمها كثيراً في حال العودة للاتفاق النووي السابق، أو حتى إعادة التفاوض من أجل إبرام اتفاق جديد.
مطلع ديسمبر/كانون الثاني الحالي، صادق البرلمان الإيراني بالإجماع على قرار رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20%، وبما قيمته 120 كيلوغراماً من اليورانيوم، ما يُسهم في تسريع وتيرة التخصيب. كما أعلنت إيران "بشكل طوعي" السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بدخول الأراضي الإيرانية وزيارة عدد من المواقع النووية.
وتحرص إيران على إعلان رفضها العودة إلى التفاوض بشأن البرنامج النووي، والتمسك بخطاب "المظلومية"، باعتبار أن اغتيال فخري زادة يُعدّ خرقاً كبيراً للاتفاق، ما دفعها لاتخاذ الخطوات السابقة كرد فعل على حادثة الاغتيال، والتي من شأنها -أي الخطوات- سحب البساط من تحت قدم إسرائيل، وحرمانها من حصد ثمار اغتيالها للعالم "زادة".
احتمالات العودة للاتفاق
وفي هذا السياق فإن احتمالات العودة للاتفاق النووي وفرص ذلك تخضع للاعتبارات الآتية:
أولاً: تحاول إسرائيل الضغط بشكل كبير على الإدارة الأمريكية الجديدة لعدم التوجّه نحو العودة للاتفاق بأي شكل من الأشكال، وهو الأمر الذي يصعب حسمه، حيث ستزيد إسرائيل من وضع العراقيل في طريق أي خطوات أمريكية محتملة بهذا الاتجاه.
ثانياً: ترى إيران أن التفاوض على هذا الملف قد أُقفل بشكل كامل، وأن العودة إلى الاتفاق يجب أن تكون بناء على ما سبق الاتفاق عليه، ويُرجّح أن الأمر -كما أسلفنا- ما هو إلا رفع إيراني لسقفها السياسي قبل الخوض في عملية التفاوض للعودة للاتفاق أو إبرام اتفاق جديد.
ولحين تحقيق ذلك، فإن إيران ستستفيد عملياً بمنحها فرصة تسريع وتيرة التخصيب، والتقدم بخطوات أكبر في برنامجها الاستراتيجي.
ثالثاً: إن هذا الملف الملغوم ينتظر بايدن للتعامل مع مُعطياته بشكل يحافظ على الاستراتيجية الأمريكية شرق أوسطياً، ضمن "التركة الثقيلة" لإدارة ترامب في المنطقة التي أكثر ما يعنيها فيها "أمن إسرائيل".
ورغم تعقيدات هذا الملف فإنه كان أحد الملفات الدعائية في حقيبة حملة بايدن، وحلولها لمشكلات التوسع الأمريكي، وإصلاح أعطاب السياسة الخارجية، التي أفرزت إدارة ترامب مجموعة من الملفات المتشابكة فيها.
خلاصة القول: من المرجح العودة إلى الاتفاق النووي على شكله السابق، إلى جانب مراجعة إيران قراراتها الأخيرة والتنازل عنها من أجل ضمان استمرار الاتفاق.
كل ذلك ما لم تطرأ متغيرات جديدة قبيل تسلم بايدن مقاليد الحكم، لكن ثمة ملفات أخرى ستتفاعل معها الولايات المتحدة تجاه إيران بخلاف برنامجها النووي، ومنها محاولة تطويقها وإبعادها عن التنين الصيني، والتي تجلّت في فرض الولايات المتحدة عقوبات تجاه عدد من الشركات الصينية التي تتعامل مع إيران.