قبل انقضاء أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، قرر الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، بشكل مفاجئ، منح عفو خاص، وقرارات أخرى بتخفيف أحكام، لعدد من المجرمين والمدانين الأمريكيين في قضايا مختلفة. وجاء البيان الذي أعلن عن مجموعة من قرارات العفو الرئاسية الأمريكية هذا الأسبوع منسوباً من الناحية الرسمية إلى السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، لكنه انطوى من ورائه على شكاوى راسخة الجذور في نفس الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، كما تقول صحيفة The New York Times الأمريكية.
إذ قال بيان العفو الرئاسي إن صديق ترامب ومستشاره منذ فترة طويلة، روجر جيه ستون جونيور، "عومِل بطريقة شديدة الظلم" من جانب المدَّعين، وإن رئيس حملته الانتخابية السابقة، بول مانافورت وقع ضحيةً لإحدى أشد حملات المطاردة السياسية وطأةً في التاريخ الأمريكي.
ترامب يريد "رد الضربات" لمؤسسات إنفاذ القانون
وفي شكواه "سوء سلوك الادعاء"، بدا أن ترامب يتحدث عن نفسه بقدر حديثه عن حلفائه. وهكذا، في سلسلة شملت 49 قرار عفو وتخفيف أحكام صدرت هذا الأسبوع، منح ترامب العفو لمجموعة من المدانين بالكذب والسياسيين المخادعين ومجرمي الحرب الذي يقتلون الأطفال، لكن الخط الناظم وراء كل ذلك كان رئيساً يعتبر نفسه ضحيةً لمؤسسات إنفاذ القانون ويستخدم سلطاته لردِّ الضربات إليها.
وحقيقة الأمر أن ترامب كان في حالة حرب مع نظام العدالة الجنائية، على الأقل عندما يتعلق الأمر به وبأصدقائه. وهكذا، في الأيام الأخيرة له في منصبه، اختار أن يستخدم السلطة الوحيدة المخولة للرئاسة على نحو مطلق لإعادة كتابة الحقائق الخاصة بفترة ولايته من خلال تشويه ووصم التحقيقات التي أجريت معه ومع مواليه المخلصين، وحتى العفو عن آخرين يبدو أن المصدر الوحيد لتعاطفه معهم هو سخطه على المؤسسات التي حاسبتهم.
"الرئيس المهزوم يشكو ما يراه ظلماً قد تعرض له"
بطبيعة الحال، يبدو استخدام ترامب لهذا الامتياز، من بعض النواحي، اعترافاً غير معلن بأنه قد خسر بالفعل انتخابات 3 نوفمبر/تشرين الثاني الرئاسية. وهذه هي "إجراءات الرأفة" التي قرر الرئيس المهزوم أن يتخذها قبل وقت قصير من رحيله عن منصبه.
لكن هذه القرارات تمثل أيضاً، في الوقت نفسه، محاولة أخيرة وساخطة لممارسة السلطة من قبل رئيس لا ينفك يفقد قدرته على تشكيل الأحداث مع مرور كل يوم، وهو بيان يتجلى معبراً عن الوقت الذي يواجه فيه ترامب نهاية هيمنته على عاصمة البلاد.
في الأسابيع السبعة التي تلت الانتخابات، صرخ مراراً وتكراراً بأنه فاز في الواقع، غير أن ذلك لم يمنع كل محكمة وسلطة انتخابية عليا في البلاد من اعتبار دعاواه باطلةً، وصولاً إلى رفض المدعي العام لها.
ثم طالب الكونغرس بإعادة كتابة مشروع قانون الإنفاق العسكري السنوي، للحفاظ على أسماء القواعد العسكرية التي تكرم جنرالات المعسكر الكونفدرالي الذين دافعوا عن العبودية في الحرب الأهلية الأمريكية، ليفاجأ بتجاهل دعواته من الحزبين ويُمرَّر مشروع القرار بأغلبية ساحقة، ما يتيح التجاوز الأول لحق النقض (الفيتو الرئاسي) خلال فترته الرئاسية.
ترامب ما يزال يحاول إحداث فوضى قبل خروجه من البيت الأبيض
وبالمثل، حاول ترامب متأخراً أن يجعل نفسه طرفاً رئيسياً في حزمة مساعدات الإنقاذ من آثار جائحة كورونا الاقتصادية، قبل أن يختار تجاهلها وتعطيل إقرار الحزمة حتى بعد أن تم تمريرها بالفعل في كلا المجلسين (النواب والشيوخ) بأغلبية كبيرة من الحزبين وبدعم من إدارته ومن القادة الجمهوريين. ومن خلال ذلك، أظهر أنه لا يزال بإمكانه إحداث الفوضى في الفترة الأخيرة من ولايته، على حساب الأمريكيين الذي قد يذهبون الآن دون مساعدة في موسم عيد الميلاد هذا، حتى وإن لم يكن من الواضح ما إذا كان سينجح في فرض إدارته في المحصلة النهائية أم لا.
من ثم، ومع زوال السلطة من قبضته، يجد الرئيس المهزوم ترامب أن سلطة العفو الرئاسية الخاصة به هي السلاح الوحيد الذي يمكنه استعماله دون قيود. إنها إحدى أكثر الصلاحيات التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية ملكيةً، فهي سلطة متروكة تماماً لتقديره، ولا تتطلب تصديقاً من الكونغرس أو المحاكم ولا يمكن إبطالها.
وعلى الرغم من أن رؤساء آخرين كانوا قد تعرضوا لانتقادات لاستخدام تلك السلطة في خدمة حلفائهم السياسيين، مثل جورج بوش الأب الذي عفا عن ستة من زملائه المتورطين في تحقيق "إيران كونترا" وبيل كلينتون الذي عفا عن أخيه غير الشقيق وشريكه التجاري، فإن قلةً نادرة من الرؤساء، إن وُجد شيء كذلك، من استخدمت سلطتها في العفو لتقويض النظام على النحو التي استخدمها ترامب بها.
"زعيم عصابة"
من الجدير بالذكر أنه بموجب إرشادات وزارة العدل الأمريكية، لا يُنظر في حالات العفو عادةً إلا بعد مرور خمس سنوات على خضوع مقدم الطلب للحكم عليه "لينظر في منحه العفو بعد الاعتراف بمسؤوليته عن جريمته المرتكبة وحسن والسلوك".
لكن الرئيس لا يتعين عليه اتباع هذه الإرشادات التوجيهية، ومن ثم فإن ترامب، المعروف برفضه الامتثال للمعايير أو جهله بها، قد تجاهل إلى حد كبير طرح طلبات العفو للفحص من قِبَل وزارة العدل، وتعامل معها في كثير من الحالات ليس على أنها عفو عن جرائم وإنما تأكيدات تبرئة.
وبالإضافة إلى مستشاره ستون ورئيس حملته السابق مانافورت، أصدر ترامب هذا الأسبوع عفواً عن ثلاث شخصيات أخرى أُدينت بالكذب في التحقيق الخاص بالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لعام 2016 الذي قاده المستشار الخاص، روبرت مولر.
في المقابل، اتهم المعارضون ترامب باستخدام سلطته لعرقلة العدالة من خلال مكافأة حلفائه الذين شاركوا في تعطيل التحقيقات ضده. وكتب أندرو وايزمان، أحد كبار مساعدي مولر، على موقع تويتر: "قرارات العفو من هذا الرئيس هي ما تتوقع الحصول عليه إذا أعطيت سلطة العفو لزعيم عصابة".
الجدل حول قرارات العفو الرئاسية يعود للواجهة مجدداً
وكان بعض واضعي الدستور الأمريكي قد أبدوا قلقهم من سيناريو كهذا، ومنهم جورج ماسون الذي كتب أن الرئيس "يجب ألا يتمتع بسلطة العفو، لأنه قد يعفو في كثير من الأحيان عن جرائم شارك هو نفسه في التحريض عليها" والاستفادة منها.
ومع ذلك، لم يكن مانافورت وستون المستفيدين الوحيدين من العفو الرئاسي لترامب لسابق علاقتهم الشخصية معه أو بأصدقائه. فقد أصدر ترامب عفواً عن تشارلز كوشنر، والد صهره ومستشاره جاريد كوشنر، وأبطل الإدانة التي لطالما ألحقت العار بالأسرة. وذلك رغم أن تشارلز كوشنر كان قد اعترف بأنه مذنب بارتكاب جريمة التهرب الضريبي وجمع تبرعات غير قانونية للحملة الانتخابية والتلاعب بالشهود وقضى بالفعل أكثر من عام في السجن.
وكان تشارلز كوشنر الأب قد أوقع بصهره، الذي أبدى تعاوناً مع التحقيقات في فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية، من خلال استئجار عاهرة لإغوائه ثم إرسال شريط فيديو لما فعله إلى زوجته، شقيقة تشارلز كوشنر نفسه. بعدها حوكم كوشنر الأب أمام المدعي العام في ذلك الوقت، كريس كريستي، الذي أصبح حاكم نيوجيرسي في وقت لاحق. وعلى الرغم من صداقته بترامب، وصف كريستي تصرفات كوشنر بأنها "كريهة تجلب الاحتقار" لمرتكبها و"مثيرة للاشمئزاز"، لكنه رفض التعليق على قرار العفو الصادر هذا الأسبوع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ترامب الذي كان قد وعد في حملته الرئاسية لعام 2016 بـ"تجفيف مستنقعات" المتاجرة بالنفوذ في واشنطن، أصدر عفواً عن أربعة أعضاء جمهوريين سابقين بالكونغرس، رغم إدانتهم بتهم الفساد.
كما أصدر ترامب عفواً عن أربعة متعاقدين أمنيين من شركة "بلاك ووتر" Blackwater، التي أسسها إريك دين برنس، شقيق وزيرته للتعليم، بيتسي ديفوس.
غضب عراقي بسبب عفو ترامب عن مجرمي "بلاك ووتر"
من جهة أخرى، يأتي العفو عن المتعاقدين الأمنيين الأربعة بشركة "بلاك ووتر" على الرغم من إقرار المحققين بارتكابهم مجزرة أفضت إلى مقتل 17 مدنياً عراقياً، منهم نساء وأطفال لا يستطيعون حمل السلاح، في عام 2007. ومع ذلك، جاءت رواية البيت الأبيض لما حدث متعمدةً إخفاء أحداث مروعة، فبحسب بيان العفو: "عندما كانت القافلة العسكرية تحاول تجاوز حصارٍ مفروض عليها خارج (المنطقة الخضراء)، انفلت الوضع وتحول إلى عنف أسفر مع الأسف عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف مدنيين عراقيين".
لكن بول آر ديكنسون جونيور، المحامي الذي مثّل 5 من عائلات الضحايا العراقيين في دعوى قضائية، قدّم رواية أشد بشاعة لكثير لما حدث، في سلسلة من منشورات تويتر التي أعرب فيها عن غضبه حيال قرار العفو، ومن بين ما وصفه، تحدث ديكنسون عن الطفل العراقي عليّ كناني، وهو صبي كان يبلغ من العمر 9 سنوات، أصيب برصاصة في رأسه أثناء سفره في سيارة. وكتب ديكنسون عن والد علي "الذي فتح باب السيارة بعد أن رأى الدم على النافذة، لتسقط دماغ ابنه على الرصيف بين قدمي والده".
وتسبب عفو ترامب الأخير هذا بإثارة احتجاجات واسعة ضد استخدام المرتزقة بالحرب، في غضب كبير بين العراقيين وصل صداه إلى البرلمان، الذي طالب بعدم التعامل مع شركات الأمن الأمريكية.
إذ قال عادل الخزعلي، الذي قُتِلَ والده في الهجوم، إنّه صُدِمَ فور تلقّيه الأنباء. وصرَّح لصحيفة The Guardian البريطانية، الأربعاء 23 ديسمبر/كانون الأول 2020، قائلاً: "العدالة غير موجودة. أطلب من الشعب الأمريكي أن يقف معنا".
كما أضاف: "لقد فقدت والدي، ومات العديد من النساء والأطفال الأبرياء. أُطالب الحكومة الأمريكية بإعادة النظر في الأمر، لأن هذا القرار يُفقِدُ المحاكم الأمريكية سمعتها. لا يحق لترامب أن يعفو عن قَتَلة الأبرياء".
ترامب يبحث العفو عن أفراد أسرته وعن نفسه
في تاريخ قرارات العفو الرئاسي الأمريكي، سيكون من الصعب أن تجد شبيهاً لتلك القرارات التي أصدرها ترامب. إذ يتجنب الرؤساء عادةً العفوَ عن قتلة الأطفال الخارجين عن أي سيطرة، ويكفي سبباً لعدم فعلهم ذلك ما تجلبه عليهم مثل تلك القرارات من فقدٍ للمصداقية وإساءةٍ للسمعة السياسية.
لكن ترامب اختطَّ لنفسه سياسةً تتحدى معايير الحكمة التقليدية ووضع تعريفاً جديداً لما يعتبره عدالة. فهو يحتج بأنه يصحح أخطاء إنفاذ القانون الذي يعتقد أنه ظلمه أيضاً، حتى إنه يبحث العفو عن أفراد أسرته وعن نفسه، كما تقول صحيفة نيويورك تايمز. ومع بقاء نحو أربعة أسابيع له في المنصب، فقد يكون لديه المزيد لقوله في هذه المسألة.