ربما يكون أصعب تحدٍّ، من بين كلِّ التحديات، التي تواجه الإدارة الأمريكية الجديدة لـجو بايدن، يتمثَّل في تجديد روح وممارسة الدبلوماسية متعدِّدة الأطراف في المناطق التي تعلَّم فيها القادة فعل أي شيء دون الالتفات كثيراً إلى أي عواقب أو آثار ذلك على العلاقة مع الولايات المتحدة، ولعلَّ الشرق الأوسط مثالٌ على ذلك.
ويقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي إنه من المُرجَّح أن يستمر بعض القادة الدكتاتوريين، أو "الرجال الأقوياء" الذين يشكلون تحالفاً معهاً مثل وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووليّ عهد الإمارات محمد بن زايد، في ترتيب لوحة الشطرنج الجيو-استراتيجية بطرقٍ سوف تعرقل جهود الولايات المتحدة وأوروبا لإدخال حلولٍ لمشكلات المنطقة.
ما بين أوباما وترامب.. كيف سيتعامل بايدن مع قادة الشرق الأوسط؟
من المُرجَّح أن الإدارة الأمريكية الجديدة سوف تتبنَّى سياساتها إزاء حقائق المنطقة بطرقٍ لن تصل قطيعةً تامة مع نهج كلٍّ من إدارتيّ أوباما وترامب. ففي المقام الأول، كان الرئيس باراك أوباما، المؤمن بالتعدُّدية، واقعياً أيضاً. وفي الحقيقة، بدا أن قراره بعدم معاقبة الرئيس السوري بشَّار الأسد في العام 2013 لاستخدامه أسلحةٍ كيماوية -وبالتالي عدم احترامه "للخط الأحمر" الذي سَطَرَه قبل عامٍ من ذلك الحين- يشير إلى حدود القوة الأمريكية في المنطقة.
وهكذا فإنه بينما أشار موقف "أمريكا أولاً" للرئيس دونالد ترامب إلى توبيخٍ واضحٍ لأوباما، الذي كان يحتقره بشدة، فإنه قد حقَّق الكثير من المنطق المُحفِّز لسياسة سلفه إزاء الشرق الأوسط. وأوضح ترامب في الكثير من تغريداته على منصة تويتر، بنبرةٍ شوفينية، ما رفض أوباما قوله صراحةً وهو في منصبه، وهو أن المصالح والمخاوف تضع حدوداً أمام أي تحرُّكات أمريكية؛ دبلوماسية كانت أو عسكرية، بالخارج.
وبذلك، أهدَرَ ترامب التعدُّدية، ليس فقط لأنه آمن بأنها "فكرةٌ تناسب الضعفاء"، بل أيضاً لأن التعدُّدية كان تستلزم غالباً قيادةً قوية حتى تكون فاعلة. وهي تتطلَّب كذلك استعداداً موثوقاً كي تتمكَّن الدولة من استخدام قدرٍ من القوة أو الإكراه لتعبئة حلفائها في أيِّ مسعى جماعي.
وهكذا، بدلاً من القيادة من المقدمة أو من المؤخِّرة، وَعَدَ ترامب بتقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة بينما على الفور اتَّبَع ودَعَمَ مساعي الرجال الأقوياء في الشرق الأوسط مثل محمد بن سلمان. وليست الصفقات الأخيرة التي هندسها ترامب بين إسرائيل من جانب، والإمارات والبحرين والسودان والمغرب من جانبٍ آخر، استثناءً من هذا النمط.
وعليه، بات من الواضح هو أن النزاعات المتقاطعة في المنطقة لن تخضع بسهولةٍ لفكرة تعدُّدية جديدة بقيادة الولايات المتحدة.
بايدن أمام شبكة مُعقَّدة في سوريا
ليس هناك مسار واحد مُتعدِّد رسمي يتناوَرَ من خلاله الخصوم والأطراف المتقاتلة من أجل تشكيل ملامح سوريا ما بعد الصراع. في المقابل، هناك الكثير من المساحات والقنوات، وكلها تُدار من جانب لاعبين إقليميين وعالميين، وتُعَدُّ تركيا وروسيا أقواهم. كانت الأخيرة هي راعية محادثات السلام التي عُقِدَت من أجل حماية مصالح الأسد وإيران.
أما إدراج تركيا في عملية أستانا، فقد مَنَحَت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منافع مُتعدِّدة، ليس أقلها توفير مساحةٍ لعضوٍ بحلف الناتو لتمديد النفوذ الإستراتيجي لموسكو، ذلك النفوذ الذي استمرَّ رغم التوتُّرات شديدة العمق بين روسيا وتركيا فيما يتعلَّق بالمصير النهائي للأسد، علاوة على وقف إطلاق النار الهش بين البلدين في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سوريا.
وفي حين أن هناك الكثير من التصدُّعات في عملية أستانا، فإنها نتيجةٌ ثانوية لاستراتيجيةٍ روسية متماسكة دعمتها روسيا جواً وبراً.
وعلى النقيض من ذلك، لم تستند محادثات جينيف، برعاية الأمم المتحدة، إلى نفوذ أيِّ لاعبين إقليميين أو عالميين، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي أشارت منذ أمدٍ بعيد إلى أنها لن تقف في طريق روسيا. وهكذا، بينما قد يكون من الصحيح أن الآمال المُتعلِّقة بخفض التصعيد في سوريا سوف تستلزم ربطاً بين محادثات جينيف وأستانا، فإن هذين الطريقين سوف يستمرَّا في خطين متوازيين ما لم يكن لواشنطن رهانٌ في هذه اللعبة.
واشنطن والحلقة المفقودة في عملية السلام الليبية
سواء كان ذلك أفضل أم أسوأ، تلعب روسيا هنا أيضاًَ دوراً مهيمناً. كان وقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة في 23 أكتوبر/تشرين الأول، بين الحكومة المُعتَرَف بها دولياً بقيادة رئيس الوزراء الليبي فايز السراج، والجنرال المتقاعد خليفة حفتر، قد أسفرت عن جمودٍ بين هذين الخصمين المدعومين كليهما بقوى إقليمية مختلفة.
وأسَّسَ الاجتماع اللاحق لمنتدى الحوار السياسي الليبي، الذي انعقد في تونس من 7 إلى 9 نوفمبر/تشرين الثاني، خارطة طريقٍ وآلية لتدشين المزيد من المحادثات. لكن، كما يلاحَظَ، فإن منتدى الحوار السياسي الليبي قد فشل في تقديم آيةٍ رسمية لمحاسبة القوات الأجنبية في البلاد، وبإمكان الولايات المتحدة، بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، أن تقود مثل هذا الجهد مُتعدِّد الأطراف. لكن ذلك سوف يتطلَّب أن تحشد واشنطن الإرادة السياسية والنفوذ من أجل ضمان دعم مصر وتركيا والإمارات وقطر والمملكة السعودية لهذه المفاوضات، لا تقويضها.
وسيكون هذا صعباً لأن بعض هذه الدول، على مدار السنوات القليلة الماضية، قد سعت إلى مصالحها في ليبيا دون الالتفات إلى واشنطن. حيث ضرب حفتر المدعوم إماراتياً وروسياً جميع الاتفاقات للهدنة والسلام بعرض الحائط وأصل على احتلال طرابلس، لكنه فشل في النهاية، ومن ثم كان وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول الذي سبقه تهديدات مصرية بالتدخُّل عسكرياً لدعم حفتر، الذي تلقَّت قواته ضرباتٍ قوية من قوات حكومة الوفاق الوطني، المدعومة بطائراتٍ تركية مُسيَّرة.