بقدر ما يمثل سلاح الغواصات أهمية بالغة للقوى العظمى، بقدر ما يمكن أن تكون سبباً في هزيمتها أو انهيارها، ومن هنا فإن قائمة أسوأ الغواصات في التاريخ لا تكشف فقط عن أخطاء صناعها بل أيضاً حددت في بعض الأحيان مسار التاريخ نفسه.
بالنسبة إلى الغواصات، فإن حساب السرعة، وتحمّل الغمر، والخصائص الصوتية، وإحصاءات البدائل المُقابلة تمنحنا وسيلةً جيدة لتقييم الغواصات لكنها لا تروي سوى جزء صغير من القصة.
فقائمة أسوأ الغواصات في التاريخ تضم قطعاً كانت تعتبر فخراً لبحريات عظمى، ولكنها تحولت لشاهد على ترديها أو سقوطها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The National Interest الأمريكية.
فالغواصة غير الفعّالة تنتقص واقعياً من الفاعلية الاستراتيجية لقواتها البحرية. فالعدو الذي يشك في قدرة الآخر المادية أو تصميمه على تنفيذ تهديده لن يرتدع. وينطبق الأمر نفسه على الإكراه. فلا أحد سيقتنع بتهديدات الخصم المُمسك بالسلاح إذا كان السلاح صدئاً أو كانت يده ترتجف.
وأخيراً، فإنّ بناء الغواصات -خاصةً النووية- يفرض تكاليف فرصة باهظة على القوات البحرية لأي دولة.
فالأموال التي يُكلّفها الغواصات التي تحمّل صواريخ باليستية تفوق تلك التي تُنفق على المقاتلين البريين وسفن الهجوم البرمائي ومنصات الهجوم الأخرى. وربما تُعاني الأعداد الإجمالية للأسطول بسبب التركيز على الحرب تحت سطح البحر.
ومع أخذ كل العوامل السابقة بعين الاعتبار، إليكم تقييم لمجموعة من أسوأ الغواصات في التاريخ التي كان بعضها وبالاً على دولها بدلاً من أن تكون مدعاة للفخر الوطني:
قائمة أسوأ غواصات في التاريخ
5- الغواصات ثريشر، وسكوربيون، وكورسك
ثلاث غواصات تنتمي لأكبر قوتين عسكريتين في العالم تمثل بداية قائمة أسوأ الغواصات في التاريخ (وهذا يعني أنها الأقل سوءاً).
هذه الغواصات غرقت في ظروفٍ غامضة، مُدمّرةً معها سُمعة قوى بحرية عظمى معروفة بالتميّز، في وقتٍ كانت فيه السمعة هي أهم شيء على الإطلاق. ونظراً لصعوبة معرفة ما حدث تحديداً -وما إذا كانت فشل المعدات أو البشر هو المسؤول الأول- فإن هذه الغواصات سيضم وضعها في فئةٍ خاصة بها في قائمة أسوأ غواصات في التاريخ رغم أنها ثلاثة غواصات مختلفة.
الغواصة ثريشر: كارثة ما زالت أسبابها غامضة
إذ كانت ثريشر هي الغواصة الرئيسية في فئة SSN الأمريكية الجديدة، التي عانت من فيضانات كارثية في أبريل/نيسان عام 1963 أثناء عملها على مقربةٍ من أقصى عمقٍ تشغيلي لها. والمياه العميقة تعني قدراً هائلاً من الضغط. لدرجة أن أصغر تسرّب في نظام الأنابيب يُمكن بسهولة أن يفوق جهود فرق التحكم في الإضرار وقدرتهم على إصلاحه.
وتُشير التكهّنات إلى أنّ أحد أماكن اللحام كان السبب وراء حدوث التسرب في حالة الغواصة ثريشر، ما أدى إلى دائرة قصر في المعدات الكهربائية وإطفاء سريع للمفاعل. وحالت الإخفاقات المتتالية دون قدرة الغواص على الصعود إلى سطح الماء.
ولكن كما قال الأب الروحي للدفع النووي في البحرية الأمريكية الأميرال هايمان ريكوفر أمام الكونغرس؛ فإن "الحقائق المعروفة عن الكارثة محدودةٌ للغاية بدرجةٍ تجعل من شبه المستحيل معرفة ما كان يحدُث فعلاً على متن ثريشر".
سكوربيون: تكهنات بأنها أغرقت نفسها
أما الغواصة الأخرى، فهي سكوربيون من طراز سكيبجاك، التي غرقت في مايو/أيار من عام 1968. ومرةً أخرى، عجزت محاكم التحقيق عن تحديد سبب حدوث ذلك على وجه التحديد. لكن قيادة التاريخ والتراث البحري قالت إن "الحدث الأكثر احتمالية هو التنشيط غير المقصود للطوربيد مارك 37 أثناء عملية فحص".
إذ انطلق الطوربيد داخل أنبوبه، أو أُطلِق ودار حول نفسه ليضرب سكوربيون. وفي الحالتين، فقد وجهّت الكارثة ضربةً موجعة أخرى لهيبة قوة الغواصات الأمريكية. ومالت موازين القوى المعنوية مرةً أخرى في صالح موسكو.
كورسك: الغواصة التي ضربت سمعة بوتين وأفسدت عطلته
أما الغواصة الروسية كورسك فقد بُنِيت بعد الحرب الباردة، وهي من طراز أوسكار-2، وصارت بمثابةٍ استعارةٍ عن الأوجاع الاقتصادية والسياسية التي عانت منها روسيا في أعقاب المرحلة السوفييتية.
وقد أعرب العديد من الروس، وبينهم الرئيس فلاديمير بوتين عن حزنهم على سقوط الاتحاد السوفييتي. إذ كانوا يتطلعون إلى الأيام التي كانت فيها بلادهم قوةً عظمى. وحقيقة أن البحرية الروسية لا تزال تمتلك أسطولاً قوياً تحت البحر هي بمثابة رمز للكرامة الماضية وآمال استعادتها.
وتعرّضت تلك الآمال لضربةٍ مُبرحة في عام 2000 حين تعطّل طوربيد ما أدّى إلى إطلاق سلسلةٍ من الانفجارات التي تركت فخر الأسطول الشمالي الروسي في قاع بحر البلطيق.
غرقت الغواصة الروسية كورسك التي تعمل بالطاقة النووية خلال التدريبات البحرية للأسطول الشمالي في بحر بارنتس، ما أدى إلى مقتل جميع أفراد الطاقم البالغ عددهم 118 فرداً، وأثارت الكارثة انتقادات علنية شديدة للحكومة والبحرية وشكلت وصمة عار على فترة ولاية الرئيس فلاديمير بوتين الأولى.
ففي 12 أغسطس/آب 2000، أدى انفجار طوربيد بصورة عرضية إلى غرق الغواصة النووية كورسك وحبس الروس أنفاسهم بانتظار معرفة مصير الرجال الـ118 الذين علقوا على عمق 108 أمتار في بحر بارينتس شمال غرب روسيا إلى أن كشف، بعد تسعة أيام، ما يبقى أسوأ كارثة لحقت بالبحرية الروسية بعد العهد السوفييتي.
وعلى الرغم من القلق على مصير البحارة، رفض الروس عروض مساعدة من البريطانيين والنرويجيين ثم من الأميركيين، وواصل الروس بمفردهم ووسط العاصفة عمليات الإنقاذ باستخدام وسائل قديمة أو غير ملائمة، مسجلين الفشل تلو الآخر.
واصل الرئيس فلاديمير بوتين إجازته في منتجع ساحلي بعد علمه بوقوع الكارثة، وأذن للبحرية الروسية بقبول عروض المساعدة البريطانية والنرويجية بعد مرور خمسة أيام على الحادث. بعد سبعة أيام من الغرق، فتح الغواصون البريطانيون والنرويجي أخيراً فتحة في صندوق الهروب في المقصورة التاسعة التي غمرتها المياه، لكنهم لم يعثروا على ناجين. تعرضت الحكومة الروسية والبحرية الروسية لانتقادات شديدة بسبب الحادث وردودهما.
وتعرض فلاديمير بوتين لانتقادات زوجات البحارة، وبعد يوم حداد وطني في 23 أغسطس/آب رفضت عائلات البحارة المشاركة فيه، قال إنه "يشعر بالذنب حيال هذه الفاجعة".
4- الغواصة الصينية 092 شيا: لم تغرق ولكنها أحرجت صناعها
يُمكنك أن تقول أمراً جيداً وحيداً عن الغواصة التالية على القائمة: وهو أنها لم تغرق.
على الجانب الآخر، ولكن هذه الغواصة التي تعد أوّل غواصة صواريخ باليستية صينية لم تفعل الكثير لتعزيز مهمتها الأساسية وهي: الردع النووي.
إذ دخلت الغواصة شيا الخدمة بمفردها عام 1983. وتمكّن أسطولها أخيراً من اختبار إطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى من طراز JL-1 في عام 198، متغلباً على مشاكل السيطرة على النيران المُنهِكة.
لكن الغواصة لم تُؤد أي دورية ردع على الإطلاق تقريباً، ونادراً ما غادرت الرصيف البحري. ووصفها قائد الغواصات الأمريكي المتقاعد ويليام موراي بأنّها "عجوزة، وصاخبة، وعفا عليها الزمن".
3- غواصات الفئة K: العدو لم يحتج إلى إغراقها
كانت غواصة البحرية الملكية البريطانية من الفئة K -أو كاف- بمثابة تجربة فاشلة، وخير دليل على ذلك هو اللقب الذي أُطلِقَ عليها من سياق اسمها: كارثة.
إذ صُمِّمت عام 1913، وكان الغرض منها أن تتقدّم الأسطول السطحي لفحص بوارج الأسطول وطرادات المعارك ومقارنتها بأسلحة الطوربيد المُعادية. أو بإمكانها استغلال الفرصة لشن الهجوم، والضغط على الصفوف الأمامية للعدو قبل مواجهته مع الأسطول الحاسم.
وهي فكرةٌ رائعة، ولكن من أجل مواكبة سرعة الأسطول السطحي، سيتعيّن على هذه الغواصة التحرك بسرعة 21 عقدة، أي أسرع من أيّ غواصة بريطانية سبقتها على الإطلاق. ولم تكُن محركات الديزل قادرةً على دفع غواصة في الماء بهذه السرعة. لذا تطلّبت هذه السرعة دفعاً بخارياً.
وليس من المفاجئ أنّ الغواصة قد عانت من التسرّب. إذ كانت الحرارة مرتفعةً للغاية تحت الماء. لذا غرقت في البحار الهائجة، وأظهرت عجزاً كبيراً عن العودة إلى السطح. ومن بين 18 غواصة من هذا النوع، لم تغرق أيٌ منها بسبب نيران العدو. لكن ستةً منها -أي ثُلث الفئة- فُقِدَت بسبب الحوادث.
وحتى الطواقم الأكثر شجاعةً وفطنة لن تستطيع تحقيق الكثير باستخدام معداتٍ رجعية. ولم تُفكّر البحرية الملكية من جديد في إطلاق غواصة تقليدية بمحرك بخاري إلى المياه العميقة البريطانية.
2- الغواصة K-219: استقرت في القاع بأسلحتها النووية
عانت غواصة الصواريخ الباليستية السوفييتية من طراز يانكي انفجاراً وحريقاً في إحدى أنابيب الصواريخ عام 1986، أثناء حركتها في البحر على بُعد نحو 965 كيلومتراً شرق برمودا.
وتحتل الغواصة مكانةً مخزية بالقرب من أسفل الترتيب نتيجة تداعيات فقدان غواصة صواريخ بالستية -أو مركبة مُحمّلة بقوةٍ نارية نووية- وهذا لأنّ الحادث المؤسف لم يكُن مستحباً بالنسبة لصناعة الغواصات السوفييتية وفقاً للعديد من الروايات. وهنا، كما كان الحال مع غواصات الفئة K، فإنّ اللوم يقع على عاتق القادة الكبار. فالإخفاقات من هذا النوع قادرةٌ على إبطال قدرة أكثر المنصات قدرة.
ونتيجةً لذلك تعرّض الاتحاد السوفييتي إلى ضربةٍ مُوجعة، وصار قوةً عظمى في حالة تراجع. ومرةً أخرى، فإنّ إهمال الأساسيات كانت له مضمونٌ ونتائج سياسية كبيرة.
1- قوة الغواصات اليابانية: غيرت مسار الحرب العالمية
صحيحٌ أنه من غير العادل توجيه الاتهام إلى قوةٍ بحرية كاملة على القائمة. ولكن السؤال ما الذي حقّقته البحرية الإمبراطورية اليابانية ضد الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية، حين كانت جهود الحرب الأمريكية تعتمد على الممرات البحرية الطويلة والمعرضة للهجمات من تحت سطح البحر؟ ليس الكثير.
إذ نتج الأداء الأقل من المتوسط لقوة الغواصات اليابانية عن نقص المرونة والخيال بين كبار القادة، وليس نقص الغواصات القادرة أو البحارة المهرة والحازمين.
إذ تُشير غالبية الشهادات إلى أن غواصات الأسطول الياباني كانت مساوية للغواصات من فئة Gato التي كانت رؤوس حربة حملة الغواصات الأمريكية.
وقد زاد تقاعس قوة الغواصات اليابانية عن العمل من الفرص الضائعة التي فوّتتها الإمبراطورية اليابانية. إذ أتقنت البحرية الإمبراطورية اليابانية إلى حدٍّ كبير البُعد الجوي للحرب البحرية، ووضعت في البحر قوات مهمات مثيرة للإعجاب على متن حاملات الطائرات.
ويظل هجوم بيرل هاربر خير شاهد ودليل على براعة الطيارين اليابانيين. فلماذا كان نهجها المتعلق بالغواصات رجعياً؟ لسببٍ وحيد، هو أنه لم يكُن لديهم إيسوروكو ياماموتو (القائد الذي قاد الأسطول الياباني المشترك الذي شن الهجوم الشهير على ميناء بيرل هاربر الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية) في المعارك تحت سطح البحر.
إذ راهن الأميرال ياماموتو بمكانته الشخصية الهائلة على الهجوم على أواهو، مُهدّداً بالاستقالة في حال رفض كبار القادة الاستراتيجية المتمحورة حول الطيران التي تقدّم بها لصالح الاشتباكات بالسفن الحربية.
ولم يكُن لدى قوة الغواصات هذا النوع من الأبطال لتحدّي التفكير التقليدي. وبالتالي تمسّكت البحرية الإمبراطورية اليابانية بعقيدتها شبه الماهانية طوال حرب المحيط الهادئ. وانتهى الأمر بقوة الغواصات القادرة لتصير من الأصول المهدورة، التي استهلكت الموارد دون تحقيق الكثير.
ويشعر الكثير من قدامى محاربي الجيش الأمريكي بالامتنان لذلك. فحين تخرج إلى ساحات المعارك في المحيطات، يُستحسن بك أن تُواجه أسوأ الغواصات في التاريخ. لهذا تُصنّف قوة الغواصات في البحرية الإمبراطورية اليابانية على أنها الأسوأ في التاريخ، بعدما تسبب أداؤها في اختفاء الإمبراطورية اليابانية التي احتلت معظم شرقي آسيا.