من المرجح أن يكون للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا يوم الإثنين 14 ديسمبر/كانون الثاني 2020 بموجب قانون "مكافحة خصوم أمريكا" المعروف اختصاراً بـ"كاتسا" (CAATSA) تأثيرات عديدة، مما يسلط الضوء على الاختلاف المتزايد في التفكير الاستراتيجي بين الحليفين في الناتو ومستقبل حلف الشمال الأطلسي نفسه.
وفرضت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوبات على تركيا لشرائها نظام الدفاع الجوي الروسي S-400، والذي قالت الولايات المتحدة إنه لا يتوافق مع أسلحة ومعدات حلف الناتو ويشكل تهديداً محتملاً لأمن الحلفاء. حيث استهدفت العقوبات رئاسة الصناعات الدفاعية التركية ووكالة المشتريات العسكرية ورئيسها إسماعيل دمير وثلاثة مسؤولين كبار آخرين.
ويشير استثناء الولايات المتحدة لتركيا من برنامج الطائرات الشبح F-35 في يوليو/تكوز 2019، والعقوبات الآن- وهي الأولى من نوعها ضد حليف رئيسي- إلى أن الأزمة في العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين أصبحت الآن في خطر أن يتحول إلى صدع تتباين الاحتياجات الاستراتيجية لتركيا فيه مع احتياجات الولايات المتحدة الأمريكية، كما يقول تحليل في موقع aljazeera الإنجليزي.
ما مستقبل تركيا في الناتو بعد هذه العقوبات؟ وماذا سيحدث إذا انسحبت منه؟
مع تصاعد الخلافات بشكل متسارع بين واشنطن وأنقرة وتشديد المواقف، أصبح احتمال خروج تركيا من الناتو أمراً ممكناً الآن. إذ تغيرت الصورة الاستراتيجية لجميع أعضاء الناتو بشكل كبير منذ نهاية الحرب الباردة.
لقد سعى الناتو باستمرار- الذي أنشئ لاحتواء الاتحاد السوفييتي آنذاك- إلى تجديد نفسه ومهمته، لكن المبدأ التأسيسي الذي أدى إلى إنشائه، لم يغِب عن روسيا التي ستكون أكثر من سعيدة برؤية الحلف ينحل.
في حين أن خطر انهيار الناتو ضئيل، فلا شك في أن الحلف سيتلقى ضربة خطيرة إذا انسحبت تركيا. وهناك أسبقية للانشقاق عن الناتو، وذلك عندما انسحبت فرنسا من هيكل قيادة الحلف في عام 1967 ثم عاودت الانضمام بعد ذلك بسنوات في عام 2009.
لكن تركيا هي أكبر مساهم في الناتو بالعسكريين بعد الولايات المتحدة. وسيتعرض الحلف لضربة سيكون من الصعب عليه التعافي منها، خاصة أن تركيز الناتو قد تغير الآن.
العالم مكان مختلف تماماً عما كان عليه عندما انضمت تركيا في عام 1952 ومع انحسار خطر الغزو الروسي الواسع للغرب، تنظر تركيا بشكل متزايد إلى احتياجاتها ومخاوفها الاستراتيجية كقوة إقليمية.
كيف بدأ الخلاف الأمريكي التركي الذي أدى في النهاية لهذه العقوبات؟
كانت تركيا صريحة وأصرت على أنها لن تتسامح مع أي نوع من مناطق الحكم الذاتي الكردي على أعتابها. وبسبب الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية المسلحة الكردية التي تصنفها أنقرة كإرهابية، والتي ترى فيها واشنطن "أهم الوحدات العسكرية القليلة الفعالة في المعركة ضد داعش"، تعرضت العلاقات بين أنقرة ووشنطن لضربة قاسية وأخذت منعطفاً حاداً نحو الأسوأ خلال السنوات الأخيرة.
وتتكون "قوات سوريا الديمقراطية" في الغالب من مقاتلي "وحدات حماية الشعب الكردي" (YPG) المصنفة كجماعة "إرهابية" وهي مرتبطة بحزب العمال الكردستاني المحظور.
حذر نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس تركيا العام الماضي أمام أعضاء الناتو المجتمعين قائلاً: "على تركيا أن تختار.. هل تريد أن تظل شريكاً مهماً في أنجح تحالف عسكري في التاريخ، أم تريد المخاطرة بأمن تلك الشراكة من خلال اتخاذ مثل هذه القرارات المتهورة التي تقوض تحالفنا؟".
أثارت هذه الملاحظة الفظة تركيا، ورد نائب رئيسها، فؤاد أوقطاي، بالتغريد: "على الولايات المتحدة أن تختار.. هل تريد أن تظل حليفاً لتركيا أم تخاطر بصداقتنا من خلال الانضمام إلى دعم الإرهابيين لتقويض دفاع حليفها في الناتو ضد أعدائها؟".
في هذا الجو المشحون على نحو متزايد، تسلمت تركيا بطارياتها من طراز S-400 واختبرتها لاحقاً، الأمر الذي أثار غضب واشنطن. وعلى الرغم من الثبات القتالي لنظام الدفاع الجوي الأمريكي باتريوت، إلا أنه أدنى بشكل ملحوظ من S-400 الروسي، الذي يمكنه تعقب ثلاثة أضعاف عدد الأهداف التي يتعقبها باتريوت وإسقاطها على مسافة خمسة أضعاف المسافة من منافسه الأمريكي.
هذا يعني أنه يمكن أن يكون دفاعياً ولكن أيضاً يفرض منطقة حظر طيران ضد طائرات العدو وإلى حد محدود، الصواريخ الباليستية قصيرة المدى.
هذه المرونة التشغيلية، بالإضافة إلى حقيقة أن المنظومة الواحدة من S-400 التي تبلغ 500 مليون دولار هي جزء بسيط من تكلفة باتريوت، هو ما يجعلها شائعة جداً، لتشتريها دول مثل الهند- حليفة واشنطن- لقواتها المسلحة.
ما التأثير الفعلي للعقوبات على تركيا؟
تستهدف العقوبات صناعة الدفاع الحكومية في تركيا وستخنق جزئياً مجمعها الصناعي العسكري سريع التطور. وعلى الأقل سيتم تعليق التعاون بين شركات الدفاع الأمريكية والتركية.
قد يدفع هذا تركيا إلى تشكيل مبادرات تعاون مع القوى الدفاعية الأخرى عالية التقنية، والاعتماد بشكل أقل على المعدات العسكرية الأمريكية الصنع، وتنويع مصادر الدعم لقواتها المسلحة وتعزيز إنتاجها المحلي من الأسلحة.
على المدى القصير ستؤثر العقوبات على القوات الجوية التركية. وتتطلع تركيا، التي تمتلك طائرات أمريكية قديمة مثل F-4 وF-16، إلى التحديث. كانت صفقة طائرات F-35 جزءاً لا يتجزأ من هذه الاستراتيجية، حيث يتم بناء أجزاء من الطائرة في تركيا.
لكن بعد أن تم منعها الآن من الاشتراك في البرنامج، تتطلع أنقرة إلى تصميم طائرتها المتقدمة الخاصة بها، ولكن ما زال الطريق طويلاً قبل تصنيعها. وسيحتاج أسطولها المتقادم من الطائرات المقاتلة من طراز F-16، وهو العمود الفقري لسلاحها الجوي، إلى قطع غيار لكنها الآن لن تكون قادرة على شرائها.
وتحتاج الطائرات الأقدم، على الرغم من التحديثات، إلى مزيد من الصيانة، وهذا ينطبق على الغالبية العظمى من القوات الجوية التركية، وناقلات التزود بالوقود وطائرات النقل وطائرات الإنذار المبكر التي تم شراؤها من الولايات المتحدة.
ويرى خبراء أتراك يعملون بمجال الصناعات الدفاعية، أن تركيا ستخرج أكثر قوة من مرحلة العقوبات الأمريكية، المفروضة عليها مؤخراً. إذ يقول الباحث في سياسات الدفاع، أردا مولود أوغلو، لوكالة الأناضول، إنه "برغم أن العقوبات تضمنت إلغاء رخصة التصدير لرئاسة الصناعات الدفاعية التركية، يجب على أنقرة البحث عن حلول بديلة".
مضيفاً أن ذلك "سيشكل عبئاً مالياً وسياسياً على تركيا، لكن القطاع الصناعي العسكري التركي، سيخرج من تلك المرحلة أقوى على المدى المتوسط".
كيف ستستفيد روسيا من أزمة العقوبات على تركيا؟
وتتطلب القوة الجوية في العمل الصيانة وقطع الغيار وإعادة التسليح بشكل مستمر. وسيتعين على تركيا الآن التفكير في شراء طائرات متقدمة من دول أخرى.
هناك خلاف متزايد بين فرنسا وتركيا. تساعد فرنسا اليونان- جارة تركيا ومنافسها الإقليمي- في إعادة تسليح نفسها بطائرات رافال المقاتلة المتطورة، والمسلحة بصواريخ ميتيور بعيدة المدى وذات القدرة العالية.
لذا ستكون روسيا هي المستفيد الأول الآن، إذ إنها الدولة الوحيدة القادرة عملياً على مساعدة تركيا في هذا النقص في احتياجات سلاحها الجوي في المستقبل. على الأقل حتى تؤتي تصاميم تركيا الخاصة للطائرات المقاتلة المحلية المتقدمة ثمارها.