في ظل الهجوم السيبراني الأكبر والأخطر من نوعه الذي لا تزال تتعرض له الحكومة الفيدرالية الأمريكية والذي وصفه أعضاء بالكونغرس الأمريكي بأنه "يرقى إلى إعلان حرب"، يبدو أن أكبر صداع سيصيب جو بايدن في مجال السياسة الخارجية، إلى جانب جائحة كورونا، هو روسيا. إذ سيتعين على الرئيس الأمريكي المنتخب التعامل مع هذه المشكلة المألوفة. وقد ألقى تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016 بظلاله على السياسة الأمريكية لأربعة أعوامٍ طوالٍ تجاهل فيها ترامب التصرفات الروسية، فكيف سيتعامل بايدن مع هذه المشكلة؟
الهجوم السيبراني الأخطر الذي تتعرض له أمريكا
يبدو أن الكرملين الآن ضرب ضربته الجديدة، إذ لا تزال تتحدث التقارير هذا الأسبوع عن الهجوم السيبراني وعملية الاختراق غير المسبوقة التي تعرضت لها الوزارات والوكالات الأمريكية المختلفة على مدار 9 أشهر. بدايةً من مارس/آذار الماضي، نجح مخترقون روس يُشتبه في وقوف الاستخبارات الروسية وراءهم، في اختراق مؤسسات رفيعة في واشنطن.
تضمنت المؤسسات المخترقة وزارات التجارة والخزانة والأمن الداخلي والمفاعلات النووية والبنتاغون، وكذلك شركاتٍ كبرى بقوائم Fortune. ولأشهر عاث المخترقون الروس فساداً، ولم يتم رصدهم. والآن فقط يُحاول المسؤولون المصدومون استيعاب الأضرار، وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد التحدي أمام المحققين الفيدراليين وهم يحاولون تقييم الضرر وفهم ما تمت سرقته.
وبعد صمت طويل، وجَّه وزير الخارجيّة الأمريكي مايك بومبيو السبت 19 ديسمبر/كانون الأول 2020، الاتهام المباشر لروسيا، عن الهجوم السيبراني الذي طال وكالات حكوميّة أمريكيّة عدّة وأهدافاً في كلّ أنحاء العالم أيضاً، فيما لا يزال الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب ملتزماً الصمت عن "الهجوم الكبير" الذي لا يزال يتم اكتشاف مدى اتساعه وآثاره.
وعند سؤاله عن سبب صمت ترامب حيال الأمر، نوّه بومبيو إلى أن هناك عملاً يجري في الكواليس، قائلاً: "هناك الكثير من الأمور التي يجب التحدث عنها، ولكن التصرف الأكثر حكمة لحماية الشعب الأمريكي يكمن في العمل بسرية وحماية الحرية"، حسب قوله.
كيف سيتعامل بايدن مع صداع روسيا الذي تجاهله ترامب طيلة 4 سنوات؟
هذا الاختراق تذكرة قاسية بنظرة فلاديمير بوتين وعملاء الاستخبارات الروسية المحيطين به للعالم من حولهم. فهم يتعاملون مع الولايات المتحدة باعتبارها "العدو اللدود". وهذه العقلية العدائية مستمرة من أيام الحرب الباردة، بغض النظر عن وجود ترامب أو بايدن في البيت الأبيض.
وهذا الهجوم السيبراني الأخير يمكن تفسيره ضمن ما يوشك أن يكون حرباً من موسكو ضد الغرب كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية. إنه نزاع غير متماثل، يحارب فيه عملاء خفيون إلى جانب موسكو، بعضهم "محترفو اغتيالات"، استعملتهم روسيا في سالزبري وسيبيريا. وبعضهم خبراء في الحواسيب أو المواد الكيميائية في الخطوط الخلفية، كما تقول الصحيفة.
وفي الأعوام الماضية، استعمل الكرملين هجمات الاختراق استعمالاً موسعاً. إنها قليلة التكلفة، ويمكن إنكارها بسهولة، وأثرها النفسي بالغ يثير الذعر في النفوس. ورغم إنفاق الولايات المتحدة مليارات الدولارات على الدفاع السيبراني، تمكن المخترقون من اكتشاف ثغرة في تحديث برمجي، واخترقوا عشرات الأنظمة الحاسوبية التابعة للحكومة الفيدرالية.
ومن المسائل المركزية التي سيتعين على رئاسة بايدن حلها هي كيفية احتواء هذا السلوك الروسي بالغ العدوانية. والإجابة لم يجدها باراك أوباما، الذي حاول أن يبدأ صفحة جديدة مع بوتين، لكنه لم ينجح. ومن قاد هذه المهمة الفاشلة كان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، التي تعرضت في نفسها لاختراق روسي في 2016.
ويوم الخميس، 17 ديسمبر/كانون الأول، تعهد بايدن بـ"زعزعة خصومنا وردهم عن تنفيذ هجمات سيبرانية كبرى في المقام الأول". لكن ما يعنيه هذا التصريح ليس واضحاً. وفي الوقت الحالي، تُنفق المليارات في محاولة لتعزيز الدفاعات السيبرانية الأمريكية ضد الهجوم القادم لا محالة من موسكو.
ليست المرة الأولى للاستخبارات العسكرية الروسية
من جانبه، يرى أندري سولداتوف، الخبير بوكالات التجسس الروسية ومؤلف كتاب "الشبكة الحمراء" The Red Web، أن فرقة عمل مشتركة بين الاستخبارات الخارجية وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) شاركت في الهجوم السيبراني على الوكالات الأمريكية.
وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي هو جهاز التجسس الداخلي الذي كان بوتين رئيساً له قبل أن يصعد إلى رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية. ومخترقوه، المعروفون باسم مجموعة Cozy Bear أو APT29، تمكنوا من ولوج خوادم الحزب الديمقراطي في صيف 2015. وقد وصلوا إليها قبل عدة أشهر من مجموعة اختراق روسية منافسة، وهي Fancy Bear، التي تعمل لحساب الاستخبارات العسكرية الروسية.
وأنشطة مجموعة Cozy Bear لها نطاق عالمي مبهر. فقد اخترقت في السابق أنظمة بالغة السرية تابعة للبيت الأبيض ووزارة الخارجية وهيئة الأركان الأمريكية، إلى جانب منظمات وجامعات ومراكز بحثية أخرى. ولها ضحايا في غرب أوروبا والبرازيل والصين واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا.
وأعطى تقرير المستشار الخاص روبرت مولر، المنشور في العام الماضي، تفاصيل صادمة عن عملية الاختراق التي نفذتها الاستخبارات العسكرية الروسية في 2016. لكنها لم تقل الكثير عن Cozy Bear. وفي صيف 2014، رصدت الاستخبارات الهولندية مخترقي FSB منهم 10 يعملون من مبنى حكومي مجهول في الساحة الحمراء.
أعطى الهولنديون هويات الجواسيس لوكالة الأمن الوطني الأمريكية، أكبر الأجهزة السيبرانية في العالم. ويُقال إن هذه المعلومات هي ما قادت وكالة الأمن الوطني إلى اختراق وزارة الخارجية، التي نجحت في ولوج شبكات بالغة السرية. والمحرج أن هذا الهجوم السيبراني الأخير قد مرّ تحت أنف وكالة الأمن القومي على ما يبدو.
وفي مؤتمر صحفي سنوي يوم الخميس، 17 ديسمبر/كانون الأول، أنكر بوتين أي علاقة بهذا الاختراق الخبيث. وقال إن الاتهامات الأمريكية لا محل لها من الصحة، وإن موسكو ضحية للسياسة الأمريكية الداخلية. لكن قليلين يصدقونه، باستثناء الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، الذي ما زال صامتاً بشأن الاختراق.
لكن معرفة من يقف بالضبط وراء الاختراق ستكون عملية بالغة الصعوبة. يقول سولداتوف: "لم أسمع أي شيءٍ عن مخترقي الاستخبارات الخارجية الروسية، وهذا له دلالته في موسكو، التي يتسرب فيها كل شيء". لكن في مكانٍ ما داخل موسكو، "سيشرب العملاء بفرقة المخترقين نخب عملية ناجحة أخرى"، كما تقول الغارديان.