كيف تحوَّلت تركيا لقوة صلبة أكثر استقلالاً وتنافسية خلال 10 أعوام؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/12/17 الساعة 13:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/19 الساعة 13:18 بتوقيت غرينتش
جانب من احتفال النصر في أذربيجان الذي شارك فيه الجيش التركي بحضور الرئيسين التركي والأذربيجاني، ديسمبر 2020/ الأناضول

كتبت "مجموعة الأزمات الدولية" في عام 2011، أنَّه في حال نشوب حرب بين أرمينيا وأذربيجان ستخاطر تركيا بـ"الانجرار" إلى الصراع، وكتبت المجموعة أنَّ "الضغط الجماهيري" قد يجبر أنقرة على التدخل دعماً لأذربيجان "على النقيض من مصالح سياستها الخارجية الأكبر". ونتيجة لذلك كان المسؤولون الأتراك "يقومون بكل ما بوسعهم لإقناع باكو بأنَّ الحرب ستكون (سيناريو كارثياً)"، بحسب التقرير ذاته، فما الذي تغير الآن؟

ما الذي تغير خلال 10 أعوام بالنسبة إلى تركيا ومصالحها الإقليمية؟

حين بدأ القتال بين أذربيجان وأرمينيا أعلن أردوغان أنَّ تركيا ستواصل دعم أذربيجان "بكل مواردها وقلبها"/ الرئيس التركي خلال احتفالات باكو، الأناضول

بالعودة سريعاً إلى 2020، بات واضحاً مدى التغيُّر الذي طرأ على السياسة الخارجية التركية في العقد المنصرم. فخلال الحرب الأخيرة التي استمرت 44 يوماً، والتي انتهت باستعادة أذربيجان أراضيها من أرمينيا بعد احتلال دام 30 عاماً، كانت تركيا بعيدة كل البعد عن كونها مُشارِكاً متردداً، وتدخَّلت بحماس على نحوٍ بدا متواكباً للغاية مع مصالحها التي حددتها حديثاً.

فحين بدأ القتال أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أنَّ تركيا ستواصل دعم أذربيجان "بكل مواردها وقلبها". شمل هذا ارتفاعاً في مبيعات السلاح: 77.1 مليون دولار في سبتمبر/أيلول وحده، بحسب وكالة رويترز. كانت أهم الأسلحة التي بِيعت هي الطائرات بدون طيار التركية المُنتَجة محلياً، والتي جنباً إلى جنب مع التدريب والتكتيكات التركية، عزَّزت قدرة أذربيجان على إلحاق الضرر بالقوات الأرمينية. 

يقول نيكولاس دانفورث، الباحث لدى المؤسسة الهيلينية للسياسة الأوروبية والخارجية، في تحليل منشور بموقع Responsible Statecraft الأمريكي، إن ذلك كله يتماشى مع التحول الأوسع في السياسة الخارجية التركية، التي راحت تعطي الأولوية أكثر فأكثر لاستخدام "القوة الصلبة"، غالباً بالاقتران مع الشركاء المحليين، من أجل تغيير الديناميات الإقليمية لصالحها. فأكَّدت أنقرة، التي باتت مقتنعة بأنَّ العالم يصبح أكثر تعددية قطبية، استعدادها للتحرك باستقلالية، أو حتى بشكل يتعارض مباشرةً مع حلفائها الغربيين السابقين، فيما تبني علاقة تتسم بالتعاون والتنافس في آنٍ واحد مع روسيا.

المكاسب التركية من دعم أذربيجان في حربها واستعادة أراضيها

سعت أنقرة إلى تكرار صيغتها من التدخلات منخفضة الكلفة عالية التأثير، التي كانت قد طبَّقتها بالفعل في شمال سوريا وليبيا، في القوقاز. لكنَّ أحد الفوارق الرئيسية هو أنَّ أذربيجان كانت شريكاً أقوى بكثير من الشركاء في ليبيا وسوريا، لذا تمكنت أنقرة من تحقيق مكاسب أكثر دراماتيكية في المدى القصير. مع ذلك لا تزال تواجه نفس الأسئلة غير المُجابة والمخاطر العالقة التي تثيرها تدخلاتها السابقة.

لطالما تمتعت أذربيجان بتعاطف عميق في تركيا، لاسيما بين القومية التركية. وهي تتصدر بشكل روتيني استطلاعات الرأي التي تسأل الأتراك عن الدول التي يعتبرونها صديقة، وكثيراً ما تُوصَف العلاقة باعتبارها "دولتين وأمة واحدة"، لكن حتى عقد مضى تقريباً كان الاصطفاف القومي مع أذربيجان يُوازَن من خلال دوافع استراتيجية منافسة.

الرئيس التركي أردوغان مع نظيره الأذربيجاني علييف في باكو، الأناضول

فمباشرةً عقب الحرب الباردة، استمر الحذر الدائم في تشكيل نهج تركيا تجاه روسيا والمنطقة التي كانت تسيطر عليها سابقاً. وفضَّلت أنقرة التحرُّك بتحفَّظ، بالتنسيق مع حلفائها بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ودفاعاً عن الوضع القائم. لذا حين اندلع القتال بين أذربيجان وأرمينيا في 1990، رفضت أنقرة الانخراط بشكل مباشر. وحتى حين تحوَّلت الحرب لصالح أرمينيا قصرت تركيا تحركاتها على إغلاق حدودها مع أرمينيا، وتدريب الضباط الأذريين، في حين واصلت دعم الجهود الدبلوماسية لحل الصراع.

نهج تركيا أصبح أكثر استقلالاً وقوة

في العقد التالي أصبح نهج أنقرة تجاه القوقاز أكثر نشاطاً واستقلالية وقوة، لكنَّ هذا خلق مجموعةً جديدةً من الحوافز الاقتصادية التي منحت تركيا مصلحة في وجود السلام والاستقرار. وعزَّز تدشين خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان في عام 2005 الآمال في أن يؤدي التكامل الإقليمي ومسارات خطوط الأنابيب الجديدة إلى إكمال تحول تركيا إلى مركز حيوي ومُربِح للطاقة.

بلغت ذروة هذه الرؤية الحيوية، التي ارتبطت على نحوٍ شهير بسياسة وزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو "صفر مشكلات مع الجيران"، في مسعى تركيا عام 2009 لتطبيع العلاقات مع يريفان. وحين أحبطت أذربيجان بالتنسيق مع القوميين الأتراك هذه المبادرة، نظر الكثيرون في أنقرة إلى ذلك باعتباره "انتصاراً مؤسفاً لقومية القرن العشرين على حساب المصلحة الذاتية المستنيرة للقرن الحادي والعشرين".

الجيش التركي في إدلب شمال سوريا، فبراير 2020/ الأناضول

لكنَّ عدداً من التطورات غير ذات الصلة في السنوات اللاحقة أخذت تفكير السياسة الخارجية التركية في اتجاه مختلف، إذ ساهم كلٌّ من اندلاع الحرب في سوريا على حدوها، والعودة العنيفة للصراع مع الميليشيات الكردية في تركيا، والمحاولة الانقلابية عام 2016، في تصوُّر أنقرة بأنَّها تتحرك في بيئة أكثر عدائية تستدعي رداً أكثر حزماً وقوة.

دفع هذا التصوُّر أنقرة إلى القيام بسلسلة من التدخلات العسكرية المركزة، فشنَّت تركيا مراراً عمليات كبرى عبر الحدود، لوقف ثُمَّ دحر المجموعات الكردية المسلحة في سوريا، والتي تهدد حدودها. وذهبت أنقرة في 2019 لمساعدة حكومة الوفاق الوطني في ليبيا المعترف بها دولياً، وساعدتها على صد هجوم على طرابلس من جانب قوات حفتر ومرتزقته الأجانب، المدعومين من روسيا ومصر والإمارات. لاحقاً، في مطلع 2020، حين هاجمت قوات النظام السوري بمساعدة روسيا آخر الجيوب الخاضعة لسيطرة المعارضة في إدلب، تدخلت تركيا بسرعة وغمرت تركيا المنطقة بالجنود والمدرعات في محاولة ناجحة لإبطاء تقدُّمها.

"التنافس التعاوني" التركي الروسي بعيداً عن الغرب

أدَّت هذه التدخلات، بدورها، إلى خلق دينامية "التنافس التعاوني" التي تُميِّز العلاقات التركية الروسية حالياً. فمن خلال دعم أطراف متعارضة في صراعات بالوكالة، ثم العمل معاً للتفاوض على حلول لها، جنت موسكو وأنقرة نفوذاً على حساب الفاعلين الغربيين.

لذا، حتى حين قوَّضت مكاسب أنقرة حلفاء روسيا، قبلت موسكو، بل ورحَّبت بالتدخل التركي بغرض إضعاف النفوذ الأمريكي والأوروبي في سوريا وليبيا. علاوة على ذلك، تستفيد موسكو لأنَّها بقدر ما ستتواجه مباشرةً مع أنقرة، فإنَّها ستملك دوماً اليد الطولى عسكرياً.  

الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلادمير بوتين، أرشيفية/ الأناضول

على هذه الخلفية، وفَّر الصراع الأرميني الأذري لأنقرة فرصةً لتوسيع علاقتها مع روسيا إلى مسرح جديد تملك فيه اليد الطولى. فمن خلال تغيير ما يوصف بـ"توازن الضعف"، كانت أنقرة تأمل في كسب نفوذ ضد روسيا ربما يمكنها استخدامه لصالحها في سوريا أو شرقي المتوسط.

في النهاية، في حين أنَّ أذربيجان مدينة بانتصارها لتركيا، تحتفظ روسيا بدورها باعتبارها وسيط القوة الإقليمي. ونتيجة لذلك يبقى أن نرى ما إن كانت موسكو ستصبح أكثر استيعاباً للمصالح التركية في سوريا أم لا، أو كيف يمكن لأنقرة الاستفادة من نجاحها للمضي قدماً. وتُعَد تركيا، التي تواجه أزمة اقتصادية عمقتها أزمة كورونا، في موقعٍ يُخوِّلها الاستفادة مالياً، سواء من عقود إعادة الإعمار أو المزيد من مشتريات الطاقة التفضيلية.    

تحميل المزيد