يبدو من شبه المؤكد أن الاختراق الواسع للأنظمة الإلكترونية التابعة للحكومة الأمريكية، والذي لا تزال التحقيقات جارية حول مدى اتساعه وخطورته وتأثيراته كان مُدبراً من الكرملين، وهو يسلط الضوء على التحدي الهائل الذي يفرضه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على السياسة الخارجية لإدارة بايدن القادمة، كما تقول صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
وحتى يوم الثلاثاء 15 ديسمبر/كانون الأول 2020، لم يعترف الزعيم الروسي بعدُ بفوز بايدن، ولأسابيع قامت وسائل الإعلام المدعومة من الكرملين بتضخيم مزاعم الرئيس ترامب التي لا أساس لها بشأن تزوير الانتخابات. وقال بوتين في رسالة تهنئة للرئيس المنتخب جو بايدن، وفقاً لبيان أصدره الكرملين يوم الثلاثاء: "أنا مستعد للتواصل والتفاعل معكم" .
بوتين "غير سعيد" برحيل ترامب وقدوم بايدن
ومع ذلك، ليس هناك شك كبير في أن بوتين غير سعيد لأن نهج ترامب الذي لا يرى شراً تجاه روسيا يقترب من نهايته، ما يُشير إلى بروز علاقة متوترة إن لم تكن عدائية مع بايدن.
سيتطلّب الأمر من بايدن إحياء العديد من الأهداف الرئيسية، والحد من التسلح ومكافحة تغير المناخ وإنهاء جائحة فيروس كورونا، وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى التعاون مع زعيم روسي معادٍ صريح للمصالح الأمريكية والغربية.
ويجب على بايدن وفريقه للأمن القومي إيجاد طريقة للقيام بذلك، حتى أثناء عملهم على التحقق من الكرملين الذي تُضايق قواته القوات الأمريكية في مناطق النزاع في الخارج، والذي تدخَّل قراصنته الذين ترعاهم الدولة في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة سابقاً.
رغم ظهور بوتين كمنافس واضح خلال حقبة أوباما، عندما كان بايدن نائباً للرئيس، سيواجه الرئيس الأمريكي القادم زعيماً روسياً أكثر جرأة يعمل على تعزيز مصالح بلاده -ويتحدى المصالح الأمريكية- في أوروبا الغربية وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والقطب الشمالي.
وتقول نيويورك تايمز إن بوتين أصبح أيضاً يمثل تهديداً في الولايات المتحدة، حيث ظهر كلاعب "خبيث" في السياسة الداخلية الأمريكية، يغمر وكلاؤه وسائل التواصل الاجتماعي بالمعلومات المضللة، ويسعون للتدخل في الانتخابات، مع تحيز واضح ضد الديمقراطيين مثل بايدن.
تقول فيونا هيل، التي أمضت أكثر من عامين كمساعدة لترامب في مجلس الأمن القومي لشؤون روسيا: "لقد انتقلت روسيا من قوة نووية تقليدية إلى تهديد هجين خبيث". تضيف هيل: "في عهد أوباما لم ترغب الإدارة الأمريكية في التفكير في روسيا كثيراً، لكن العالم تغير بالكامل، بايدن لا يستطيع أن يصنع نسخة أخرى من أوباما في تعامله مع روسيا، سيتعين عليهم التفكير بشكل مختلف".
كيف ينظر بايدن لبوتين؟
كان بايدن قد وصف روسيا خلال أحد تجمعاته الانتخابية، الشهر الماضي، بأنها "خصم"، في حين قال إن الصين "منافسة". وخلال الحملة عمل بايدن على تمييز نفسه عن منافسه ترامب، فيما يتعلق بروسيا، فقد اتَّهمه بالتساهل معها، وقال إنه "التزم الصمت" إزاء قضية تسميم زعيم المعارضة الروسي، أليكسي نافالني.
ويبدو أن رسالة بوتين إلى بايدن الأخيرة لم تحمل أي عداء، وعلى حد تعبير الكرملين "فإن موسكو أعربت عن ثقتها في أن روسيا والولايات المتحدة، اللتين تتحملان مسؤولية خاصة عن الأمن والاستقرار العالميين، يمكنهما على الرغم من خلافاتهما المساهمة بشكل فعال في حل العديد من المشاكل ومواجهة التحديات التي يواجهها العالم اليوم".
ولم تتسم علاقة بايدن وبوتين بالكثير من الود، بل كانت مثيرة للجدل خلال اللقاء الشخصي الوحيد فقط بين الرجلين، خلال رحلة بايدن إلى موسكو في عام 2011، عندما كان بوتين رئيساً للوزراء، يقول بايدن في مذكراته حول ذلك إنه قال لبوتين في أحد الاجتماعات "أنا أنظر في عينيك، ولا أعتقد أن لديك روحاً"، فنظر إليه بوتين "وابتسم وقال: نحن نفهم بعضنا البعض".
وبعيداً عن عدم وجود علاقات شخصية جيدة بينهما، يستبعد نجاح أي محاولة من بايدن لإعادة إحياء العلاقات بين البلدين، لأنها سوف تصطدم بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من قبل إدارتي أوباما وترامب.
وستترك هذه الإجراءات أمام بايدن مساحة صغيرة للمناورة، ومن غير المرجح أن يقوم برفع هذه العقوبات، في حين تقول القوى الغربية إن روسيا تشن هجمات إلكترونية ضدها، وها هي أمريكا نفسها تتعرض لذلك الآن من قبل موسكو، كما تقول تقارير أمريكية.
ولا يزال العديد من كبار مستشاري بايدن يشعرون بالمرارة حيال تدخل الكرملين في انتخابات عام 2016، والتي يرون أنها ساعدت في تخريب نقل السلطة من أوباما إلى هيلاري كلينتون، وأفشلت الإبقاء على العديد من كبار مسؤولي بايدن في إدارة مدتها أربع سنوات.
ويبدو أن بوتين ليس سعيداً بانتصار بايدن على ترامب، حيث أظهر الأخير الإعجاب والاحترام تجاه الزعيم الروسي بطرق حيّرت وأغضبت مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن.
لا مفرّ من التعاون بين إدارة بايدن والكرملين
ومع ذلك، يرى الخبراء بالشأن الروسي الذين عمل بعضهم مع بايدن، أنه لا مفر من مسار مزدوج مع روسيا، حيث تحاول الولايات المتحدة إبقاء طموحات الكرملين تحت السيطرة أثناء العمل معها أيضاً بشأن المخاوف الدولية.
ومن المرجح أن يكون مسؤولو إدارة بايدن على اتصال فوري تقريباً مع الكرملين، في محاولة لتمديد معاهدة "ستارت 3" التي تم توقيعها في العام 2010 بين الرئيسين السابقين، الأمريكي باراك أوباما والروسي ديمتري ميدفيديف في العاصمة التشيكية براغ، وكان الهدف منها تحديد عدد الرؤوس النووية بـ1550 رأساً نووياً. إذ تنتهي الاتفاقية في 5 فبراير/شباط القادم، لكنها تحتوي على بند لتمديدها لمدة 5 سنوات إذا وافق الطرفان على ذلك.
وقال كل من بايدن وبوتين إنهما يرغبان في تمديد المعاهدة، التي رفض مسؤولو إدارة ترامب تجديدها ما لم يتم توسيعها لتشمل قيوداً على الترسانة النووية الصينية، حيث قالت بكين إن هذا مطلب غير مقبول على قوتها الأصغر بكثير.
تقول أنجيلا ستينت، مديرة مركز الدراسات الأوروبية الآسيوية والروسية بجامعة جورج تاون: "لا أعتقد أن إدارة بايدن تريد الشروع في سباق تسلح مكلف عندما يكون لديها العديد من الأولويات الأخرى. وبمجرد أن يتم ذلك أتوقع أنهم سيشاركون في مفاوضات أسلحة جديدة، وقد يؤدي ذلك إلى تواصل أكثر استقراراً مع الحكومة الروسية".
وكانت روسيا أيضاً طرفاً في الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، الذي تم التفاوض عليه في ظل إدارة أوباما، والذي انسحب منه ترامب في عام 2018، ويقول بايدن إنه يريد العودة إليه مرة أخرى.
لكن من المرجح أن يتطلب القيام بذلك مزيداً من المفاوضات مع طهران، ومع موسكو، التي قبلت أطناناً من اليورانيوم منخفض التخصيب من إيران بموجب الاتفاقية الأخيرة، وقد يُطلب منها فعل الشيء نفسه مرة أخرى.
بايدن ومحاولات كبح جماح بوتين
وفي حين أن بايدن كان ينتقد بشدة القمع السياسي لبوتين، وهو موضوع تجاهله ترامب إلى حد كبير، إلا أن النهج العقابي البحت قد لا يحقق الكثير، كما تقول الصحيفة الأمريكية.
ويقول ديميتري سايمز، رئيس "مركز المصلحة الوطنية" للدراسات الاستراتيجية: "تكمن المشكلة بالنسبة لهم في أنه من السهل انتقاد الممارسات الاستبدادية الروسية، لكن من الصعب جداً التأثير عليهم من الخارج إذا لم يكن لديك أي إغراءات إيجابية."
من المرجح أن يجد بايدن نفسه تحت ضغط مبكر من الديمقراطيين والجمهوريين لكبح جماح بوتين بعد أربع سنوات من إيماءات ترامب التصالحية.
يقول السناتور جاك ريد، أكبر ديمقراطي في لجنة القوات المسلحة: "تتمثل أهداف بوتين الثلاثة في الحفاظ على سلطته، واستعادة مجال نفوذه حول روسيا، والعودة إلى كونه قوة عظمى ذات مكانة عالمية". يضيف: "لقد كانت إدارة ترامب أكثر تصالحية مع بوتين من أي أحد آخر، ولذا فإن بايدن سيحتاج إلى العمل مع الحلفاء الدوليين لكبح جماح بوتين".
رغم تقارب ترامب الشخصي مع بوتين، فإن إدارته -في كثير من الأحيان بإصرار من الكونغرس- استمرت في الضغط على روسيا من خلال العقوبات الاقتصادية، وتسليح أوكرانيا، وعمليات الانتشار العسكرية.
يقول ماكفول، السفير السابق في موسكو: "كان لدى ترامب نفسه سياسته الشخصية التي حاول اتباعها مع بوتين، لكنه فشل. هو حرفياً لم يُنجز أي شيء". لطالما اشتكى ترامب من أن القوى المناهضة لروسيا في واشنطن، والتي يغذيها ما يسميه "خدعة روسيا"، منعته من العمل بفاعلية مع بوتين لصالح الأمة الأمريكية.
في النهاية، يرجّح دبلوماسيون سابقون "استمرار حالة العداء بين واشنطن وموسكو، ما دام الكرملين يسعى لتقويض المؤسسات الديمقراطية الغربية".
وتتوقع هيذر ويليامز، من مؤسسة "تشاتام هاوس" البريطانية، أن تُركز إدارة بايدن على قضيتين، هما: "استعادة جهود الحد من السلاح، وتعزيز قوة حلف الناتو في مواجهة المغامرات الروسية". وقالت: "يجب على الولايات المتحدة الحفاظ على رادع قوي واستعادة المصداقية مع حلفائها".
ويتمحور الصراع بين الولايات المتحدة والقوى الغربية من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، حول مجموعة من القضايا، من بينها قضية ضم روسيا إقليم القرم، عام 2014، والاضطرابات في شرق أوكرانيا، ودعم روسيا لبشار الأسد رئيس النظام السوري.