كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضيف شرف في عرض عسكري أقامته أذربيجان يوم الخميس 10 ديسمبر/كانون الأوّل، احتفاءً بانتصارها على أرمينيا، حليفة موسكو، بمساعدة أنقرة. وإن كان بوتين غاضباً بشأن التوغّل في هذا البلد الذي كان جزءاً من الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، فإنه لم يُبدِ غضبه.
كان ذلك آخر تحدٍّ تحمّله الرئيس الحازم عادةً بوتين من الزعيم التركي. فبينما يسعى أردوغان لإصلاح العلاقات مع إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، يثق الكرملين في أن تركيا ستظل شوكة في حلق رفاقها أعضاء الناتو، ما يؤجج الانقسامات التي تروق لموسكو، كما تقول شبكة Bloomberg الأمريكية.
أزمة منظومة S-400 لا تزال سبباً كبيراً للصدام بين تركيا والغرب
بجانب أن ما وافق عليه الرئيس ترامب -الذي سبق أن تفاخر بعلاقته الطيّبة مع أردوغان- من خطط أمريكية رامية إلى فرض العقوبات على تركيا إثر الصفقة التي أبرمتها مع روسيا لشراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400، لن ينتج عنه سوى زيادة تعقيد جهود الزعيم التركي على صعيد إعادة بناء العلاقات مع واشنطن.
على أصعدة أذربيجان وسوريا وصولاً إلى ليبيا، أدت مساعي أردوغان لإعادة تأسيس النفوذ التركي، بوصفه قوّة إقليمية، إلى إرغام روسيا على العدول عن مطامحها. وحتّى في الوقت الذي يجسّد فيه أردوغان تهديداً لنفوذ الكرملين جغرافياً وسياسياً لم يتفوّه بوتين على الملأ سوى بالكلمات الودودة إزاء جارته المطلّة على البحر الأسود.
صدع في الناتو تستفيد منه روسيا
يعكس الرد الروسي المدروس الرغبة في تعزيز العلاقات مع أردوغان، بعد ما أثير خلاف غير مسبوق داخل حلف شمال الأطلسي بسبب الصفقة التي أبرمتها أنقرة في عام 2017 مع روسيا، للحصول على نظام الدفاع الصاروخي S-400.
فلطالما تمتّعت روسيا بخبرة في إدارة العلاقة الاقتصادية والسياسية مع تركيا، حتى حين أرسل أردوغان القوات التركية والوكلاء للتصدّي لبوتين في ساحات الصراع الإقليمية.
وتابع أردوغان نحو 200 فرد من قواته ينضمون إلى قوات أذربيجان في وسط العاصمة باكو، إذ استعرضوا الطائرات بدون طيار تركية الصنع ذات الدور الجوهري في هزيمة أرمينيا خلال حرب استمرّت 44 يوماً على منطقة ناغورني قره باغ المتنازع عليها.
وبحسب ثلاثة أشخاص مطلعين على الوضع في موسكو، صرحوا لبلومبيرغ، أن أردوغان قوّض فعلياً الجهود التي تدعمها موسكو للقضاء على آخر معقل للمعارضة في سوريا، وذلك بعد مواجهة الكرملين كذلك في ليبيا.
ويقول أندري كورتونوف، رئيس مجلس الشؤون الدولية الروسي الذي أسسه الكرملين، إنه بينما تقول أنقرة للغرب إن تأثيرها المتنامي على الساحة السوفييتية السابقة والشرق الأوسط يحول دون التوسّع الروسي، فهذا لا يعني أن تركيا على وئام مع الغرب، وأضاف أنه "في عهد بايدن، من المرجّح أن تتصاعد مشكلات أردوغان".
المنافسة القديمة بين تركيا وروسيا
مع ذلك، تُحيي التوتّرات بين موسكو وأنقرة ذكرى قرون من التنافس بين قوّتين إمبراطوريتين سابقتين؛ ففي عام 2015 فرضت روسيا عقوبات ساحقة على تركيا بعدما أسقطت الثانية طائرة مقاتلة روسية على الحدود مع سوريا. ويوم الأربعاء الماضي، منعت روسيا استيراد محاصيل الطماطم من أذربيجان، وهي أكبر صادرات البلاد بعد النفط والغاز.
لطالما كان الزعيم الروسي مدافعاً عن عالم متعدد الأقطاب تتحدّى فيه القوى الإقليمية قيادة واشنطن المعهودة، غير أن أردوغان يبرهن على ما هو أكثر من مباراة على النفوذ.
يقول أندريه باكلانوف، الدبلوماسي الروسي السابق الذي شغل عدّة مناصب من بينها سفير لدى المملكة العربية السعودية: "نحن حلفاء في بعض النواحي، لكن مصالحنا تتعارض تماماً في جوانب أخرى، علينا أن نتعلم سبل التعايش مع هذا الوضع".
وفي الوقت الذي توصّل فيه بوتين إلى وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا، الأمر الذي مكّنه من إرسال قوات حفظ سلام روسية إلى ناغورني قره باغ، فإن إصرار أردوغان على دعم باكو خلال الحرب أكسب تركيا دوراً في الإشراف على اتفاقية الهدنة.
وفي سوريا، حيث استعاد بشار الأسد حليف بوتين السيطرة على معظم أنحاء البلاد بفضل الدعم الروسي والإيراني، أعاقت تركيا جهود النظام الرامية إلى السيطرة على معقل المعارضة الرئيسي في إدلب. وقالت المصادر الثلاثة المطلعة على الأمر إن روسيا، التي أرسلت مرتزقة في وقت سابق من هذا العام لشنّ هجوم على المدينة قد أوقفت العملية بسبب المعارضة التركية.
في ليبيا الغنية بالنفط أيضاً، يتقهقر حليف روسيا خليفة حفتر في ظل جهود متجددة للتفاوض على تسوية سياسية مع الحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة في طرابلس، التي تحظى كذلك بالدعم من تركيا.
علاقات ما زالت محفوفة بالمخاطر
كانت تركيا كذلك من بين أكبر مستهلكي الطاقة الروسية، لكن المشكلات تجلّت حتّى على هذا الصعيد، إذ قلصت تركيا، التي كانت ذات يوم أكبر مستهلك لطاقة موسكو خارج الاتحاد السوفييتي السابق، مشترياتها من الغاز في السنوات الأخيرة وتحوّلت إلى موردين منافسين مثل أذربيجان.
وأشاد بوتين علناً بأردوغان لاستقلاليته في إبرام صفقات الطاقة والأسلحة مع روسيا، رغم معارضة حلفائه في الناتو. وقال الرئيس الروسي في أكتوبر/تشرين الأول: "إن العمل مع هذا النوع من الشركاء ليس جيداً فحسب، بل هو موثوق أيضاً". وفيما يتعلق بالخلافات بين روسيا وتركيا قال بوتين إن روسيا بحاجة إلى "التحلي بالصبر… والسعي إلى حل وسط".
لكن في الوقت الحالي، تُبقي روسيا وتركيا على علاقتهما المحفوفة بالقلق، "رغم خلافاتهما المتبادلة في الرأي" حسبما يشير سنان أولجن، الرئيس التنفيذي لمركز الأبحاث EDAM، في إسطنبول والباحث الزائر في مؤسسة كارنيغي أوروبا في بروكسل.
فيما تقول إيرينا زفياغلسكايا، خبيرة شؤون الشرق الأوسط في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية الذي تديره الدولة في روسيا: "بالنسبة لروسيا فإن أردوغان ليس شريكًا سهلاً، وليس جهة فاعلة يسهل التعامل معها".