ذات يوم مُشرِق في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني، اقتحم نحو 12 فرداً من ضباط الشرطة مدججين بالبنادق الآلية، منزل ليسانيورك ديستا، عالم اللاهوت الذي يدير قسم المكتبات والمتاحف بالكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، وشرعوا في عملهم، كان نموذجاً يكشف إلى مدى وصل اضطهاد التيغراي في إثيوبيا.
يقول ليسانيورك إن الرجال، الذين لم تكن بحوزتهم مذكرة توقيف، سكبوا الأغذية المجففة في مطبخ منزله على الأرض، وفرّغوا أدراج الملابس من محتوياتها، حتّى إنهم فتّشوا قدر القهوة الفخاري، إذ بدا أنهم يبحثون عن شيء يُجرّم الرجل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
وفي نهاية المطاف لم يصادروا إلا شيئاً واحداً، حسبما يقول ليسانيورك، هو بطاقة هويّته الإثيوبية التي تبيّن انتماءه إلى عِرق تيغراي بالبلاد.
اضطهاد التيغراي في إثيوبيا.. انحدروا من قمة هرم السلطة للمعتقلات
تعدّ مجموعة التيغراي، التي تمثّل نحو 6% من سكان إثيوبيا البالغ عددهم 110 ملايين نسمة، واحدة بين ثماني مجموعات إثنية في البلاد. وقد هيمنت تلك الطائفة لقرابة ثلاثة عقود على مقاليد السياسة في البلاد.
إلا أن أحوالها قد تغيّرت منذ مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، بعدما شنّ رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، عملية عسكرية في منطقة تيغراي شمالي البلاد، والتي اعترض زعماؤها على حِراك آبي الهادف إلى تمركز السلطة في الحكومة الفيدرالية.
منذ بدء تلك الحملة، فرّ نحو 50 ألف شخصٍ من البلاد، في نزوح جماعي للاجئين وصفته الأمم المتحدة بأنه الأسوأ بين ما شهدته إثيوبيا منذ أكثر من عِقدين.
ومن مؤشرات اضطهاد التيغراي في إثيوبيا، ما أفاد به العديد من أفراد هذا العِرق تيغراي الذين يعيشون في العاصمة ومناطق أخرى من البلاد أنهم يتعرضون للاعتقال دون توجيه اتهامات، وتُفرض عليهم الإقامة الجبرية، ويُحرمون السفر داخل البلاد. كما قال بعض أفرادهم إن أعمالهم التجارية قد أُغلقت، ونُهبت منازلهم وأموالهم على يد مسؤولي الأمن.
وقال العديد من التيغرايين الذين يعيشون خارج إثيوبيا إنهم لم يعرفوا شيئاً عن أفراد عائلاتهم الذين نُقلوا فجأة إلى مراكز الشرطة والسجون. كما قالت عائلات بعض التيغرايين المنتمين إلى القوات العسكرية الإثيوبية إن ذويهم يقبعون في مراكز الاعتقال بأنحاء البلاد.
الحكومة تعترف ببعض الأخطاء
وأقر المدعى العام الإثيوبي، جيديون تيموثيوس، الشهر الماضي، بوقوع ما وصفه بـ"حوادث متفرقة" تنطوي على "مخالفات" من الشرطة. لكنه قال إن الحكومة تتعامل مع قضية التنميط العِرقي بمنتهى الجديّة، وإنها ستُخصص خطاً ساخناً يُبلغ الجمهور عن شكاواهم من خلاله.
وبينما اقتصر النزاع في منطقة تيغراي الواقعة شمالي البلاد، يقول مدنيون منتمون إلى عِرق تيغراي في أنحاء متفرقة من البلاد إنهم يشعرون بأن بأصداء النزاع قد امتدّت إليهم، وأن اضطهاد التيغراي في إثيوبيا أصبح سياسة رسمية.
إذ قال مدير إحدى شركات المحاسبة، يبلغ من العمر 35 عاماً- وقد طلب عدم الكشف عن هويّته خوفاً من انتقام الحكومة، بل أشار فقط إلى اسمه الأوّل شارون الذي يستخدمه أيضاً العديد من الإثيوبيين- إن رجال أمن بملابس مدنية قد داهموا منزله في العاصمة أديس أبابا، خلال الشهر الماضي، ومزّقوا فراشه وأريكته وحطّموا غسالة الملابس خاصته.
وحاول شارون مساعدة أخته التي داهمت قوات الأمن منزلها أيضاً. وبعد أيام قليلة، أفادت عائلته وأصدقاؤه المقرّبون بأنه قد اختفى قسراً ولم يُعرف عنه شيء منذ ذلك الحين.
على مدى نحو ثلاثة عقود، كان التيغراي في صدارة السلطة بإثيوبيا، بعدما قادوا حرب العصابات التي أطاحت بالنظام الماركسي الذي تولّى مقاليد البلاد بين منتصف السبعينيات وحتّى عام 1991.
لكن بعدما أطاحت الاحتجاجات المناهضة للحكومة بآبي في عام 2018، ألقي القبض على زعماء مجموعة التيغراي العِرقية، وطُردوا من مناصب مهمّة، مما شق صدعاً كبيراً بين الحكومة الوطنية ومنطقة تيغراي التي تحكمها جبهة تحرير شعب تيغراي، ذاك الحزب الذي كان يمسك بمقاليد السلطة المركزية سابقاً.
ليسوا معارضين
أخطر مظاهر اضطهاد التيغراي في إثيوبيا أن الأمر لا يقتصر على أعضاء جبهة التحرير التيغراي.
ورغم توجّس الحكومة بشأن دعم أتباع عِرق التيغراي في جميع أنحاء إثيوبيا لجبهة التحرير، قال الكثيرون ممن التقتهم صحيفة The Times إنهم لا ينتمون إلى الحزب. وقال آخرون إنهم كانوا أعضاء سابقين أو حاليين، ومع ذلك، فهم ليسوا معارضين للحكومة.
واستهدفت السلطات الصحفيين أيضاً، فمنذ بدء النزاع، اعتقل بيكالو ألمرو، مراسل مركز Awlo الإعلامي، الذي يملكه تيغراييون، أكثر من أسبوعين دون توجيه اتهامات رسمية.
ومن بين الاتهامات التي وجهتها الشرطة إلي بيكالو تواصله مع جبهة التحرير، حسب موثوكي مومو، ممثل لجنة حماية الصحفيين في إفريقيا جنوب الصحراء. وعلّق أن ذلك "مزعم غريب، بالنظر إلى ضرورة تواصل الصحفيين مع أطراف سياسية فاعلة مختلفة من أجل إنجاز عملهم"، وأُطلق سراح بيكالو منذ ذلك الحين.
وألقت السلطات مؤخراً كذلك القبض على صحفيين آخرين (معظمهم من عرق تيغراي، وبينهم صحفي لم يتناول قضايا العِرق بالتغطية الإعلامية)، وطردت أيضاً محللاً بارزاً في مجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة سياسية تتخذ من بروكسل مقراً لها.
ممنوعون من السفر
ويثير اضطهاد التيغراي في إثيوبيا قلق عائلاتهم التي تعيش خارج البلاد.
وقالت ماهليت جبريميدين، 26 عاماً، والتي تعيش في مدينة التيمور بولاية ميريلاند الأمريكية، إن السلطات قد اعتقلت ابن عمها الذي يملك شركة مراتب بالعاصمة أديس أبابا، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، ولم يعرف عنه أحد شيئاً منذ ذلك الحين. وأخبرت السلطات أحد أفراد عائلته أن حسابات شركته تخضع للتحقيق لمعرفة ما إذا كان يدعم جبهة تحرير شعب تيغراي.
وقد مسّ الصراع كذلك بالمنتمين لعرق تيغراي الذين يريدون مغادرة البلاد. فحسبما جاء في رسالة من لجنة حقوق الإنسان الإثيوبية اطّلعت عليها صحيفة The Times الأمريكية، بدأت سلطات الطيران المدني مطالبة الركاب الإثيوبيين الذين يغادرون البلاد بإظهار بطاقات هويّتهم التي تبيّن انتماءهم العِرقي، ولم تعد تكتفي بجوازات السفر.
لسنا إثيوبيين
وأشارت تقارير أيضاً إلى أن السلطات تجري عملية تطهير لعرق التيغراي من القوات المسلحة الإثيوبية.
يقول يارد، الذي ذكر اسمه الأول خوفاً من الانتقام، إن والده- وهو ضابط اتصالات بالجيش الفيدرالي- سافر شمالاً إلى حدود تيغراي بصحبة وحدته العسكرية في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني. لكن بحلول 9 نوفمبر/تشرين الثاني، أرسل لعائلته رسالة قال فيها إن هاتفه قد صودر وإنه قابع في السجن. ولم يسمع يارد بشأن والده شيئاً منذ ذلك الحين.
أما ليسانيورك، عالم اللاهوت، فقال إن التجربة التي شهدها مؤخراً قد أضعفت ثقته في بلده. وقال إن والده حارب من أجل بلاده ضد النظام العسكري الذي أطاح به عام 1991، أما اليوم، فيعامل أبناء وطنه طائفته ككيان أجنبي.
وأضاف قائلاً: "صِدقاً، أنا لست إثيوبياً، لقد صرت الآن تيغراي".
ونتيجة لعملية اضطهاد التيغراي في إثيوبيا، فإن الأمر قد يؤدي إلى ظهور نزعة انفصالية في الإقليم الواقع في أقصى شمال البلاد.