لسنوات فرضت أمريكا حظراً على تزويد إندونيسيا بالسلاح وتركت طائراتها الأمريكية الصنع بلا قطع غيار، واليوم وافقت واشنطن أن تبيع لجاكرتا نوعين من المقاتلات، في مؤشر لتصاعد التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم، خالقاً معادلة معقدة بين إندونيسيا والصين وأمريكا.
وفي ظل تصاعد التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا، فإن الدولتين العظميين تتسابقان في تقديم الإغراءات لجاكرتا، ويحاول كل طرف جذبها لناحيته، فمن ينتصر في معركة اجتذاب أكبر دولة إسلامية في العالم لصفه.
فبالنسبة للرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، فإن أي توتر بين إندونيسيا والصين سيمثل فرصةً لتجديد العلاقات الأمريكية مع إندونيسيا، والتي تعود جذورها إلى الحرب الباردة، خصوصاً في وقت توسِّع فيه الصين نفوذها في المنطقة.
جذور التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا
العلاقة بين إندونيسيا والصين وأمريكا معقدة، الأمر الذي يجعل التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا له طبيعة خاصة.
إذ كانت إندونيسيا موطن حركة عدم الانحياز في عهد زعيم الاستقلال أحمد سوكارنو الذي لم يلبث أن تقارب مع الاتحاد السوفييتي والصين، ثم تحولت لحليف للغرب في عهد سوهارتو الذي استولى على الحكم عام 1968، وبعد سقوطه انقلبت الولايات المتحدة على إندونيسيا وفرضت حظراً للسلاح عليها بدعوى ممارسة الجيش الإندونيسي لانتهاكات حقوقية في تيمور الشرقية الإقليم الذي ضمته جاكرتا بطلب من الغرب عام 1975، قبل أن يستقل بسبب الاضطرابات التي أعقبت سقوط سوهارتو عام 1999.
منذ ذلك الحين عادت إندونيسيا إلى حيادها وحاولت تنويع مصادر تسليحها وخاصة من روسيا، وإقامة علاقة جيدة مع الصين.
ولكن علاقة إندونيسيا مع الصين أكثر تعقيداً من علاقتها مع الولايات المتحدة.
إذ تولي الصين اهتماماً خاصاً بعلاقتها مع جاكرتا، إذا تعد العلاقات مع إندونيسيا إحدى أكبر الجوائز الدبلوماسية في آسيا، حيث تتمتع إندونيسيا برابع أكبر عدد من السكان في العالم، بالإضافة إلى كونها أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة، وتحظى بأرخبيل شاسع ذي ممرات بحرية استراتيجية تربط آسيا بالمحيطين الهادئ والهندي.
وبالفعل سارعت الصين لمنح إندونيسيا أولوية في الحصول على اللقاحات الصينية ضد فيروس كورونا، كما أعربت عن رغبتها في العمل مع إندونيسيا في مجال أبحاث اللقاح والإنتاج والتوزيع وخدمات الدعم بحيث تكون جاكرتا مركز إنتاج اللقاح في جنوب شرق آسيا وصولاً للعالم.
وأصبحت إندونيسيا أرضاً لاختبار لقاح فيروس صيني، إذ إن المتطوعين في مدينة باندونغ الإندونيسية، عاصمة مقاطعة جاوة الغربية، يشاركون بالفعل في تجارب لقاح تقوم بتطويره شركة Sinovac Biotech Ltd الصينية.
كما أصبحت الصين أيضاً أكبر شريك تجاري لإندونيسيا وثاني أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر. وتشمل مشاريعها مشروع سكة حديد عالية السرعة بقيمة 6 مليارات دولار في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية.
خلافات إندونيسيا والصين العميقة مفيدة لواشنطن
ولكن هذا لا يعني أن كل شيء على ما يرام بين العملاقين الآسيويين المتجاورين بحرياً، ولا أن التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا قد حسم لصالح بكين.
فبينما كان العالم مشتتاً بالانتخابات الرئاسية الأمريكية في الشهر الماضي، أعلنت إندونيسيا، بسرية، تحولاً ملحوظاً في استراتيجيتها الدفاعية المصممة لتوجيه رسالة لا لبس فيها إلى بكين، في مؤشر على شكل جديد للعلاقة بين إندونيسيا والصين.
ستنقل البحرية الإندونيسية إحدى مجموعاتها القتالية الرئيسية من العاصمة جاكرتا إلى جزر ناتونا على حافة بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، في أقصى شمال البلاد، في تطور لافت للعلاقة بين العملاقين الآسيويين إندونيسيا والصين.
تتمثل مهمة الأسطول في اعتراض السفن الأجنبية، وخاصة القوارب الصينية، التي تتعدى بشكل متزايد على المياه المحيطة بجزر ناتونا التي تطالب كلٌّ من إندونيسيا والصين بالحصول على حقوق الصيد فيها.
وتعتبر تلك البادرات العسكرية الصريحة أمراً غير معتاد من أكبر دولة في جنوب شرق آسيا، والتي سعت منذ استقلالها ألا تعادي القوى العظمى علناً ولا أن تتحالف معها بشكل واضح، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
العلاقة المركبة بين إندونيسيا والصين وأمريكا
فرغم حرص إندونيسيا على الحياد وإقامة علاقات جيدة مع الصين فإن قوة بكين المتنامية في بحر الصين الجنوبي وهو جسم مائي تتداخل فيه العديد من المطالبات الإقليمية وحيث أقامت الصين قواعد عسكرية.
ولأن إندونيسيا هي رابع أكبر دولة في العالم من حيث السكان، ولأن لديها اقتصاد متنامٍ، فيبدو أن واشنطن ترى فيها حليفاً محتملاً في إطار محاولتها خلق طوق آسيوي حول الصين، الأمر الذي عزز التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا، وجعل واشنطن تقدم على خطوات لافتة تجاه جاكرتا.
ولذا لم تكتفِ واشنطن بالموافقة المبدئية على تزويد إندونيسيا بنوعين من الطائرات الأمريكية بعدما كانت تفرض عليها حظراً للتسليح، بل إنها رفعت اسم وزير الدفاع الإندونيسي وزير الدفاع الإندونيسي برابوو سوبيانتو من قائمة عقوبات أمريكية بسبب مزاعم انتهاكات حقوقية ليستنى له زيارة واشنطن للتفاوض حول الصفقة.
وجاءت الموافقة الأمريكية على بيع طائرات مقاتلة من طراز F-15 و F-18 إلى إندونيسيا بعد أشهر من الاجتماعات بين كبار مسؤولي الدفاع من البلدين، وفقاً لما نقله Asia Aikkei عن مسؤول دفاعي في جاكرتا.
كان القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي كريستوفر ميللر في جاكرتا مؤخراً للقاء وزير الدفاع الإندونيسي برابوو سوبيانتو. خلال تلك الاجتماعات وافق ميلر على بيع طرازين من الطائرات المقاتلة إلى إندونيسيا، التي طالما أرادت الترقية من أسطولها القديم من طراز F-16.
كان على رأس جدول أعمال ميلر بحر الصين الجنوبي الذي يمثل محور النزاعات بين الصين وبين جيرانها الآسيويين.
لكن دفء العلاقات بين إندونيسيا والولايات المتحدة جعل بكين في حالة توتر، وفقاً لما قاله رودون بيدراسون، المدير العام لاستراتيجية الدفاع في وزارة الدفاع الإندونيسية.
ففي مؤشر واضح على تصاعد التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا سأل المسؤولون الصينيون نظرائهم الإندونيسيين بشأن لماذا قبلوا الصفقة.
وقال المدير العام لاستراتيجية الدفاع في وزارة الدفاع الإندونيسية في ندوة عبر الإنترنت: "ردنا عليه دبلوماسياً. لا نريد أن تشعر الصين أو الولايات المتحدة بالإهمال".
كما التقى القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي بالقائد العسكري الإندونيسي هادي تجيجانتو وناقش معه خطط تكثيف التدريب بين القوتين.
وقالت السفارة الأمريكية في بيان صحفي: "شدد الوزير على الأهمية التي توليها وزارة الدفاع (الأمريكية) للشراكة الثنائية وفي تأمين منطقة بحر الصين الجنوبي الحرة والمفتوحة ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ".
وقال بيدراسون إن هناك بعض المخاوف من أن السياسة الأمريكية قد تتغير في عهد جو بايدن، الذي سيؤدي اليمين الدستورية كرئيس الشهر المقبل، رغم أنه يعتقد أن واشنطن لن تتراجع عن الصفقات الموقعة.
وأضاف: في الوقت الحالي لم يتم التوقيع على أي اتفاق، ولكن تنفيذ الصفقة تتعلق الآن فقط مدى استعداد جاكرتا لتوفير الميزانية".
أمريكا رفضت تزويد إندونيسيا بطائرات إف 35، هذا لايمنع وجود تهافت غربي على جاكرتا
وقال بيدراسون إن إندونيسيا كانت تطالب الولايات المتحدة ببيعها مقاتلات إف 15 وإف18 وإف 35 ، لكنها وافقت أخيراً على طرازين فقط، لأن إنتاج إف 35 قد يستغرق ما يصل إلى 10 سنوات. يتم تصنيع طائرات F-15 و F-18 من قبل شركات الطيران الأمريكية McDonnell Douglas and Boeing.
كما اتصلت قوى كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وحلف شمال الأطلسي بإندونيسيا مؤخراً لمناقشة مسألة بحر الصين الجنوبي.
وقال بيدراسون إن وزير الدفاع الإندونيسي من المقرر أن يزور بريطانيا أوائل العام المقبل، بعد أن أجرى أكثر من 20 زيارة خلال العام الماضي بحثاً عن صفقات تسليح جيدة، بما في ذلك في فرنسا وروسيا وتركيا والصين.
ستكون مانيلا المحطة التالية لميلر، وبعد ذلك سيتوجه إلى هاواي، حيث سيحضر اجتماعاً افتراضياً لوزراء الدفاع في رابطة دول جنوب شرق آسيا وشركاء الكتلة.
قال بيدراسون إن وزارة الدفاع تحت قيادة سوبيانتو لديها خطة كبيرة لشراء أكثر من 100 طائرة مقاتلة متفوقة، لإضافتها إلى الأسطول الإندونيسي الحالي الذي يقل عن 60 طائرة، وهذا سيعني أنه سيكون لدى إندونيسيا نحو 170 طائرة مقاتلة في نهاية هذه الخطة.
ولم يذكر متى تأمل الوزارة في تحقيق هذا الهدف، لكنه أضاف أن إندونيسيا تأمل في توفير ما بين 9 مليارات دولار و11 مليار دولار لأسلحة ومعدات عسكرية جديدة على مدى السنوات العشرين المقبلة. وقال إن إندونيسيا تخطط أيضاً للحصول على عروض قروض ميسّرة من دول مثل فرنسا وتركيا والصين وروسيا.
نظراً لأن صفقة الطائرات المقاتلة الجديدة قد تستغرق سنوات حتى تؤتي ثمارها، تخطط إندونيسيا لشراء طائرات مستعملة مثل يوروفايتر تايفون، التي يمكن تسليمها في وقت أقرب بكثير. ذكرت تقارير سابقة أن سوبيانتو كانت مهتمة بشراء 15 طائرة من هذا النوع من النمسا.
لكن بيدراسون قال إن خطة شراء التايفون ليست سوى معالجة لفجوة مؤقتة.
الأمر الأكثر إلحاحاً بالنسبة لإندونيسيا الآن هو امتلاك أسلحة يمكنها موازنة [القوة] ضد دول النقطة الحمراء القريبة منا، يشير مدير عام وزارة الدفاع الإندونيسية ليس فقط إلى بحر الصين الجنوبي ولكن أيضاً إلى النزاعات الحدودية القديمة بين إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة المجاورتين.
رغم قلقها من سلوك بكين في بحر الصين الجنوبي، فإن جاكرتا لم تكن تريد الانسياق وراء تصعيد ترامب ضد الصين.
يقول محللون إنه بينما حافظت الولايات المتحدة على العلاقات مع إندونيسيا خلال رئاسة دونالد ترامب، وجدت جاكرتا أن سياسة ترامب الانعزالية التي تتبنى شعار "أمريكا أولاً"، وموقفه العدواني تجاه بكين غير مريح. إذ كان الهدف السياسي لإندونيسيا منذ نهاية الحرب الباردة هو موازنة العلاقات بعناية مع الولايات المتحدة والصين.
ولا يبدو التنافس الأمريكي الصيني على إندونيسيا سيحسم لصالح طرف معين، إذا جاكرتا على الحفاظ على إرثها الحيادي، واستغلت هذا التنافس لتعزيز مكانتها، وليس تحويلها إلى أداة في يد بكين أو واشنطن.
وبدا ذلك واضحاً في عدم استجابة إندونيسيا لإلحاح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عليهم لإدانة اضطهاد المسلمين الإيغور من قبل الصين، في المقابل فإن جاكرتا قاومت مطامع بكين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، حتى إن الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو زار جزر ناتونا في يناير/كانون الثاني أثناء مواجهة بين السفن الإندونيسية والصينية، إضافة إلى خطته لنقل المجموعة القتالية البحرية هناك.
تحاول إندونيسيا تنفيذ أصعب معادلة في السياسة أن تكون محايداً وصلباً إن تطلب الأمر وأن تكون على علاقة جيدة ومتوازنة مع القوى الكبرى.. فهل تنجح؟