أكثر من 5 ملايين فقير جديد بسبب كورونا.. ما أخفاه مدبولي عن الأوضاع الاقتصادية في مصر

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/09 الساعة 10:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/09 الساعة 14:07 بتوقيت غرينتش
كثير من المصريين يخشون الفقر أكبر من قلقهم من الفيروس / رويترز

"ثمة أكاذيب، وأكاذيب بغيضة، وإحصائيات".

نُسبت تلك العبارة إلى عديد من الكُتاب، أبرزهم: الكاتب الساخر الأمريكي مارك توين، والسياسي البريطاني بينجامين دزرائيلي. وسواء جاءت على لسان أحد المذكورين أو غيرهما؛ فالعبارة تحمل جزءاً كبيراً من الحقيقة، توحي بالقدرة الهائلة للإحصائيات، الكفيلة بإضفاء مصداقية وزيادة انتشار أكبر الحجج هزلاً، كما تنفي أكبر الحجج صدقاً وإقناعاً. ما يجعلها فضاءً واسعاً للتلاعب بالرأي العام وتغييب الناس عن رؤية الواقع أمامهم.

الأرقام الصادرة من رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، خلال مؤتمر نتائج بحث الدخل والإنفاق لعام 2019/2020، تبدو مثالاً للبصيرة التي تحلى بها قائل العبارة المذكورة في أول الفقرة، حيث عبر رئيس الوزراء خلال كلمته التي امتدت لعشرين دقيقة عن تفاؤله الشديد إزاء نمو الاقتصاد المصري، مدللاً على ذلك بانخفاض معدل الفقر إلى 29.7%، مقارنة بـ 32.5% للعام المالي 2017/2018.

والحقيقة، لا أنوي بأي حال التشكيك من علم الإحصاء أو تطبيقاته ومساهماته العملية. كما أود من القارئ التركيز على أن العصب الفقري لعلم الإحصاء هو البيانات، تلك المادة الخام التي يحدد على أساسها جودة أو رداءة المنتج النهائي؛ كما في سائر مجالات الحياة. إذا حدث قصور في عملية جمع البيانات، باعتبارها تعتمد على العنصر البشري، القادر على التلاعب، الاستسهال، التخمين (1). في أكثر الأحيان يحدث الخطأ في المؤشر المستهدف من الدراسة، بالتركيز على جانب معين على حساب جوانب أخرى. مثل، الحديث عن انخفاض نسبة البطالة، قياساً على عدد المشاريع الصغرى الجديدة، أو ازدياد عدد العاملين في مجال الخدمات العامة السلعية، واتخاذ ذلك كمقياس للتحسن العام. في حين أنه نمو على نحو غير متكافئ، يتجاهل جوانب أخرى؛ فيصبح بلا جدوى لرصد كفاءة النظام. (2)

إذن تكمن المشكلة في توظيف الإحصائيات، والطريقة التي أنتجت بها. فالتشكيك يرتبط بالمعنى من الأرقام ولا يمسّ الفائدة التي تعود علينا من العلم في حد ذاته.

مصر في أرقام

أشار رئيس الوزراء إلى أن عملية الاستقصاء توقفت نتيجة للإجراءات المتبعة للحد من تفشي فيروس كورونا (3)، ما يعني أن هناك قصوراً في عملية جمع البيانات؛ حيث لم تشمل الإحصائية جميع الأسر المستهدفة. كما حدد الإطار الزمني للإحصائيات، الفترة من أكتوبر 2019 حتى مارس 2020 (بداية الإغلاق بسبب كورونا) (4). بالتالي، لم ترصد التغيرات الاقتصادية الناتجة من تفشي الفيروس على معدل الفقر في مصر ضمن الدراسة. والمفارقة أن معهد التخطيط القومي، التابع للحكومة، توقع في دراسة بأن تداعيات الجائحة ستؤدي إلى ارتفاع عدد الفقراء بين 5.6 إلى 12.5 مليون فرد خلال العام المالي 2020/2021. وضع المعهد ثلاثة توقعات، أحلاها مر؛ إذ حالت إلى زيادة عدد الفقر في مصر بنحو 5.6 إلى 12.7 مليون شخص. ما يعني أن نسبة الفقر ستزداد في العام المالي الجديد لتتراوح بين 37.5% إلى 44.7% نتيجة للوباء. وليس كما لمّح رئيس الوزراء إلى أنها انخفضت إلى 29.7%، استناداً إلى دراسة مشوهة بطريقة ما. وفيما يتعلق بأثر الجائحة على زيادة عدد الأفراد تحت خط الفقر، توقعت الدراسة زيادة تتراوح بين 5 و15 مليون شخص.

في الدراسة التي أصدرها معهد التخطيط القومي في مايو الماضي، ذكر تعرض 73.5% من الأفراد لانخفاض في الدخول، كما لجأ نحو 50% من الأسر للاقتراض؛ محاولة منهم لسد الاحتياج، ومجابهة تحديات الحياة القاسية، التي فرضتها إجراءات الحكومة منذ عام 2016، وعمقها الوباء في 2020. وعلى الرغم من مرور 6 أشهر منذ تلك الدراسة، تزامناً مع الفتح التدريجي، قدم المعهد دراسة توضح لجوء بعض الأسر لسياسات تقشف، خفضت على إثرها من استهلاك اللحوم بنسبة 18.3% والفاكهة بنسبة 5% والطيور بنسبة 14.4%. ما يتنافى تماماً مع أي إحصائيات تشير لعائد نفعي على المواطنين، نتيجة للإصلاحات الاقتصادية المزعومة.

استند دكتور مصطفى مدبولي إلى إحصائية اعتمد فيها الجهاز المركزي على نسب لخط الفقر أقل من النسب العالمية. حدد البنك الدولي خط الفقر عند كل من يعيش بأقل من 3.2 دولار يومياً، وخط الفقر المدقع 1.9 دولار يومياً، في حين حدد الجهاز المركزي للإحصاء خط الفقر في مصر لكل من يعيش بأقل من 1.8 دولار يومياً، حوالي 857 جنيهاً شهرياً. لذلك، يبدو البيان تجسيداً لعبارة الروائي الأمريكي آرثر هيلي: "الإجراءات القانونية مثل الإحصائيات؛ إذا تلاعبتَ بها، يمكنك أن تثبت أيَّ شيء".

تمثَّل البيانات أدلة؛ فبدونها، تصبح الأفكار والرؤى المستقبلية محض تكهنات لا أكثر. والرابط بين معارفنا النظرية والواقع، هي البيانات في أيدينا، والتي على أساسها نختبر صحة فهمنا. في حالة عدم حدوث توافق بين الأفكار والأرقام المستخلصة من الواقع، يجدر إعادة التفكير وتقييم وصياغة أفكار جديدة؛ لكي تطبق بشكل يلائم الواقع الفعلي. ومع ذلك، اختارت الحكومة طوي الحقائق. لتمرر سياساتها البعيدة عن صالح الفقراء، بدلاً من الاعتراف بالخطأ وفشلها في إدارة ملف الاقتصاد.

في حين تتحدث التقارير الدولية عن أداء قوي للاقتصاد الكلي في مصر، كفل نمواً بنسبة 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي العام الحالي، متجاوزاً أداء معظم أقرانه الإقليميين في ظل جائحة كورونا. جاءت الإشارة لأن النمو، لن يعالج مستويات الفقر المرتفعة في البلاد. (5) غالباً ما تستند تلك الرؤى لمؤشر الناتج المحلي، العائد للتقديس الأعمى للنمو، تلك النظرة المشتقة من التوجه النيوليبرالي، حيث يعتبر المراقبون أي زيادة في أرقام الخدمات والمنتجات دليلاً يعتبر بشكل تلقائي تقدماً للدولة. إلا أنه عاجز عن التفرقة بين النمو والتنمية، بينما قد يجادل أحد بأن نمو إجمالي الناتج المحلي، سيؤول في النهاية لتعزيز نوعية الحياة للطبقات المهمشة. فثمة أدلة تاريخية كثيرة على فشل تلك النظرية في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء. (6)

بينما تتراقص الحكومة بين الحديث عن الأزمة التي تمر بها مصر، وقدرتها على تحويل الخراب لجنة عدن؛ تثار أسئلة عديدة حول قدرة البلاد على الاستمرار في طريق (النمو) مع تراجع عائدات السياحة، عائدات قناة السويس، وتصدير مواد الطاقة، التي تشكل معاً الشق الأعظم من واردات العملات الأجنبية. مع عودة المغتربين، التي ارتكزت خزينة الدولة على تحويلاتهم النقدية، كيف تكون الإجابة عندما تسوء الأوضاع أكثر.

قد يكون حينها الاعتراف، بكلمات إدواردو غاليانو، في رواية "أبناء الأيام" طوق النجاة حين يتضح زيف الإصلاحات المزعومة "عن الفقراء نعرف كل شيء: ما لا يعلمون، وما لا يأكلون، وكم لا يزنون، وكم لا طول لقامتهم، وما لا يملكون، وما لا يفكرون، وأنهم لا يصوتون، وبماذا لا يؤمنون. ما تنقصنا معرفته فقط هو لماذ الفقراء فقراء. أيكون السبب في أن عريهم يكسونا وجوعهم يطعمنا؟".

الهوامش

(1) يمكن الاطلاع على قصة الاقتصادي المصري اللبناني شارل عسوي، حين كلف على وجه عاجل أثناء عمله في الأمم المتحدة، بإعداد تقديرات لمتوسط الدخل في جميع البلدان العربية. ونظراً لعدم وجود تقديرات يعتد بها، قام بالتخمين. بعد بضعة أشهر نُشر جدوله في تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية، كما فوجئ بعد سنوات بطالب يحضر الدكتوراه من طلبته، يستخدم الجدول نفسه. (كتاب مكتوب على الجبين، جلال أمين).

(2) "قانون جودهارت". تيمُّناً بتشارلز جودهارت، وهو كبير مستشارين سابقاً في مصرف إنجلترا.

(3) "لولا جائحة كورونا كنا هنبدأ نشوف المنحنى ده بينزل بأرقام كبيرة بنسب أعلى في الفترات القادمة، لكن جاءت طبعاً الجائحة على مستوى العالم من الوارد أنها تعمل تباطؤ شوية في تحسن الأرقام". مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء.

(4) راجع تصريحات هبة الليثي، مستشار رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء وأحد المشرفين على البحث، لموقع "مدى مصر".

(5) وفقاً لموقع ستراتفور الأمريكي، الذي أشار إلى أن النمو الاقتصادي المصري تجاوز التوقعات السابقة لوزارة المالية عام 2020، كما أشادت وكالة فيتش (Fitch Ratings) للتصنيف الائتماني ودويتشه بنك (Deutsche Bank)، وصندوق النقد الدولي بأداء الاقتصاد المصري.

(6) تعرف النظرية عند الاقتصاديين باسم "تسرب الثروة إلى أسفل". حيث تترك الحكومة يدها تماماً، سامحة للأغنياء بزيادة ثروتهم، والفقراء يغرقون في بؤسهم -لفترة- حتى يُعيد أصحاب رأس المال تدويره في استثمارات جديدة، ما يخلق فرص عمل أكثر، تعود بالفائدة على الطبقات الدنيا.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد