هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها وحدها أمام روسيا أو أي خطر أم أنها أدمنت الاعتماد على الدرع الأمريكية بسبب مصالح النخب الأوروبية التي تعرقل سياسة دفاعية أوروبية مستقلة.
إن محاولة إدارة بايدن والنخب الأوروبية ذات التفكير المماثل لاستعادة الوضع المثالي الذي كان قائماً سابقاً والذي تميز بالحديث السعيد المستمر عن التضامن عبر الأطلسي لن يؤدي إلى اختفاء هذه الاختلافات الجوهرية. سوف يغذي مجرد وهم غير صحي.
لقد حان الوقت لكي يكبر الأوروبيون ويأخذ الاتحاد الأوروبي مكانه الصحيح في العالم كلاعب سياسي وعسكري ذي مغزى، وليس مجرد لاعب اقتصادي، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
إن الشعور بالارتياح بين النخب السياسية الأوروبية رداً على انتخاب جو بايدن يكاد يكون واضحاً. وكذلك أيضاً رغبتهم في العودة إلى الوضع السابق لما قبل ترامب فيما يتعلق بسياسة واشنطن تجاه الناتو.
دور ماكرون في محاولة تشكيل سياسة دفاعية أوروبية مستقلة
هناك بعض المعارضين، وخاصة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي دعا إلى "السيادة" الدفاعية الأوروبية بغض النظر عمن سيحتل المكتب البيضاوي، الآن أو في المستقبل.
ولكن هناك أيضاً معارضة شديدة لدعوته لأعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين لأخذ القضايا الأمنية بجدية أكبر وتطوير قدرة دفاعية أوروبية مستقلة وذات مصداقية. يبدو أن الدول الأقرب لواشنطن في أوروبا الشرقية مستعدة تماماً لإدامة النظام الحالي القائم على الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة من أجل أمنها.
والأسوأ من ذلك يبدو أن العضو البارز في الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، مقتنع بفعل الشيء نفسه.
يخلق هذا الموقف خطراً حقيقياً للغاية يتمثل في أن عادة أوروبا الطويلة الأمد المتمثلة في الاستفادة من الجهود الأمنية الأمريكية سوف تستأنف بعد فاصل قصير (وجزئي) الذي ظهر خلال سنوات ترامب.
فريق السياسة الخارجية الذي يعمل الرئيس المنتخب بايدن على تجميعه لديه سجل حافل، ليس فقط في التسامح مع مثل هذا السلوك ولكن بتشجيعه بشغف. ومع ذلك، فإن مثل هذا التطور سيكون غير صحي للأمريكيين، ومن المفارقات، بالنسبة للأوروبيين أيضاً.
كان رد فعل برلين على موقف ماكرون مثيراً للشفقة، رغم أنه غير مفاجئ.
أكدت وزيرة الدفاع الألمانية أنجريت كرامب كارينباور: "بدون القدرات النووية والتقليدية الأمريكية، لا تستطيع ألمانيا وأوروبا حماية أنفسهما. هذه هي الحقائق الواضحة".
هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها وحدها؟
من الناحية النظرية فإن أوروبا تستطيع الدفاع عن نفسها وحدها ضد روسيا دون مساعدة أمريكية ذات مغزى.
ولكن هناك عدة افتراضات تمنع تحقيق ذلك.
الأول: الاتحاد الأوروبي، الذي يضم تعداداً سكانياً أكبر من نظيره في أمريكا واقتصاداً متطوراً للغاية لا يمكنه بناء دفاع قاري قادر.
والسبب الآخر هو أن روسيا، على الرغم من كونها ظلاً شاحباً للاتحاد السوفييتي المنحل باقتصاد لا يكاد يبلغ عُشر حجم اقتصاد الاتحاد الأوروبي، فإنها تشكل تهديداً خطيراً لا يأمل الاتحاد الأوروبي في ردعه.
الافتراض الخاطئ الثالث هو أن روسيا عازمة بشدة على الانغماس في التوسع على الرغم من خفض نفقاتها العسكرية في كل من 2017 و2018 وزيادتها بالكاد في عام 2019. علاوة على ذلك، حتى رقم 2019 (65.1 مليار دولار) أقل بكثير من النفقات الدفاعية السنوية للدول الأوروبية أعضاء الناتو (ما يقرب من 300 مليار دولار).
هناك افتراض ضمني بأن قوى الاتحاد الأوروبي لا يمكنها التعامل بمفردها مع التهديدات التي يشكلها الإرهابيون عديمو الجنسية ودول الشرق الأوسط الضعيفة.
لماذا يصر الأوروبيون على الاعتماد على أمريكا؟
هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها وحدها؟، يبدو أن هذا سؤال خاطئ، فالسؤال الأدق، هو لماذا لا تريد أوروبا الاعتماد على نفسها في سياساتها الدفاعية؟
الحقيقة هي أن الاستمرار في الاعتماد على الولايات المتحدة هو مجرد غطاء أمني مناسب لأوروبا، يتميز بأنه رخيص.
إن استعداد واشنطن لتحمل مثل هذا التوجه الأوروبي يعفي دافعي الضرائب الأوروبيين من احتمال قبول أعباء مالية أكبر لخلق دفاعات أكثر قوة. لكن الأهم من ذلك، أنه يعفي النخب السياسية الأوروبية من الاضطرار إلى معالجة القضايا الأمنية المزعجة في منطقتهم وتحمل مسؤولية إدارتها.
في الوقت نفسه، يغذي الترتيب الحالي غرور نخبة السياسة الأمريكية الذين يؤمنون، بتعبير مادلين أولبرايت السيئ السمعة عن النرجسية الوطنية، بأن الولايات المتحدة هي "الأمة التي لا غنى عنها".
حتى توجيه الرئيس ترامب المتكرر لأعضاء الناتو الأوروبيين للوفاء بالتعهد الذي قطعوه قبل سنوات بتخصيص ما لا يقل عن 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي السنوي للدفاع كان له تأثير محدود.
في الوقت الحالي، تلبي عشر دول فقط من دول الناتو الثلاثين هدف الإنفاق هذا. على الرغم من أن هذا أكثر من ضعف الرقم الذي حدث عندما تولى ترامب منصبه، إلا أنه تغيير متواضع في أحسن الأحوال.
علاوة على ذلك، على الرغم من ضغوط إدارة ترامب على الحلفاء على مدى السنوات الأربع الماضية لإنفاق المزيد على جيوشهم، لم يقلل قادة الولايات المتحدة من التزام واشنطن بالتحالف- أو إصرارهم على هيمنة الولايات المتحدة على شؤون الحلف- إلى أي حد ذي مغزى.
إن دعوة ماكرون إلى السيادة الأمنية الأوروبية هي جرعة منعشة من الواقعية التي يجب مراعاتها على جانبي المحيط الأطلسي. فهي تدرك أن العلاقة الأمنية عبر الأطلسي تشهد توترات شديدة لن تختفي مع نهاية رئاسة دونالد ترامب.
في الواقع، يوجد تباين المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الأساسية بين القارتين.
فعلى الرغم من تداخل المصالح الأمريكية والأوروبية، إلا أنهما لم يعودا قريبين من التطابق. ما يحدث في البلقان، على سبيل المثال، قد يكون ذا أهمية كبيرة لأعضاء الاتحاد الأوروبي، ولكن لا ينبغي أن يكون مهماً لأمريكا. على العكس من ذلك، فإن ما يحدث في المكسيك أو أمريكا الوسطى مهم لواشنطن ولكنه ليس له صلة كبيرة بالدول الأوروبية. تجد الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى نفسها على نحو متزايد في صفحات مختلفة عند التعامل مع القضايا العالمية الكبرى مثل العلاقات مع الصين.
إن محاولة إدارة بايدن والنخب الأوروبية ذات التفكير المماثل لاستعادة الوضع المثالي الذي كان قائماً سابقاً والذي تميز بالحديث السعيد المستمر عن التضامن عبر الأطلسي لن يجعل تلك الاختلافات الأساسية تختفي. سوف يغذي مجرد وهم غير صحي. لقد حان الوقت لكي يكبر الأوروبيون ويأخذ الاتحاد الأوروبي مكانه الصحيح في العالم كلاعب سياسي وعسكري ذي مغزى، وليس مجرد لاعب اقتصادي.
رغم ترويجه لتشكيل سياسة دفاعية أوروبية مستقلة، فإن ماكرون أكبر عائق أمامها
المشكلة الخاصة ببناء سياسة دفاعية أوروبية مستقلة لا تتعلق فقط ببخل الساسة الأوروبيين، بل اختلافات مصالح الدول الأوروبية.
فدعوة فرنسا لسياسة عسكرية دفاعية أوروبية ليست بجديدة، بل فكرة الاستقلال العسكري عن أمريكا ظهرت واضحة في عهد الرئيس الراحل شارل ديجول.
ولكن المشكلة أن مصالح فرنسا تبدو مختلفة، عن مصالح المنطقة الأكثر هشاشة وتعرضاً للتهديدات في أوروبا، أي أوروبا الشرقية.
كانت روسيا بعيدة دوماً عن فرنسا، ولم تمثل لها أي تهديد عكس ألمانيا أو دول أوروبا الشرقية التي خضعت جميعها لدرجات متفاوتة من الإمبريالية الروسية سواء في عهد القياصرة أو العهد الشيوعي.
فلم تشعر باريس يوماً بوطأة أحذية الجنود الروس الملطخة بالطين والثلج
على عكس كثيراً ما كانت فرنسا البلد الغرب أوروبي المتوسطي حليفاً لروسيا في مواجهة ألمانيا.
بل إن سبب دخول فرنسا الحرب العالمية الأولى كان بسبب إعلان محاربة روسيا مع ألمانيا.
اليوم يواصل ماكرون هذه السياسة مع رفع شعار السيادة الأوروبية.
ففرنسا تتقرب لروسيا البوتينية التي تجاهر بعدائها للاتحاد الأوروبي وقيمه، وبعد أن تحدثت تقارير أوروبية عدة عن دور روسي في تشجيع البريكسيت (انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، والذي قد تكون باريس سعيدة به لأنها تخلصت من إنجلترا منافستها التاريخية).
واليوم فعلياً فإن ممارسات تضر مصالح الناتو أوروبا في كثير من المناطق أبرزها ليبيا عبر دعمها للجنرال الليبي خليفة حفتر، الرجل الصديق لروسيا الذي مكنها من السيطرة على قواعد في خاصرة أوروبا الجنوبية ويحارب حكومة الوفاق التي تلعب دوراً مهماً باعتراف الدول الأوروبية خاصة إيطاليا في وقت الهجرة غير الشرعية.
وتدخل فرنسا في سجال مع تركيا الحليف الطبيعي لأوروبا في مواجهة روسيا، والتي تحولت جراء السياسات الغربية إلى صديق لموسكو رغم ما بينهما من صراعات وخلافات تاريخية، وكل ذلك بسبب عناد يبدو شخصياً لماكرون مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وزاد ماكرون أزمات أوروبا عبر مواجهته مع الأقلية المسلمة الضخمة عبر قوانين تمييزية ضدهم، وحاول إصدار بيان أوروبي يؤثر على حريات ذوي الأصول المهاجرة، وهو ما اعترضت عليه العديد من الدول أبرزها إيطاليا.
كل ذلك يقدم ماكرون مصالح فرنسا ومصالحه الانتخابية على أنها مصالح أوروبية جامعة، والسؤال: لو تعرضت دولة أوروبية شرقية إلى تحرش روسي، هل يرسل ماكرون قواته للتصدي للروس أم يكتفي بمطالبتهم بضبط النفس؟