"خسارة عالم مسلم كالعالم النووي الإيراني البارز محسن فخري زادة، خسارة للأمة الإسلامية بأكملها"، لم تكن هذه الجملة صادرة من الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله التابع لإيران، ولكنها كانت صادرة من المملكة العربية السعودية، الخصم الأول لإيران بالمنطقة، في مؤشر واضح على رغبة سعودية في التهدئة مع إيران.
ففي تعليقه على العالِم الذي يوصف بأنه "أبو القنبلة النووية الإيرانية" المحتملة، قال مندوب السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير عبدالله المعلمي مستدركاً: "لكن في الوقت ذاته نطالب بعدم التصعيد، لأن التصعيد أو ردود الفعل العفوية لا تؤدي إلى نتائج إيجابية"، وتابع: "كما أننا نطالب إيران بأن تثبت للمجتمع الدولي حسن نواياها فيما يتعلق ببرنامجها النووي؛ حتى لا يتعرض أبناؤها وعلماؤها للخطر سواء عن طريق مثل هذه الأحداث أو أحداث أخرى".
مؤشرات تكشف عن رغبة سعودية في التهدئة مع إيران
مما يؤشر إلى رغبة السعودية في التهدئة مع إيران، أن موقف المملكة كان مختلفاً عند اغتيال الأمريكيين لقاسم سليماني، وهو عمل أكثر تأثيراً على إيران،
فآنذاك لم تدن السعودية العملية، وقالت: "إن الحادثة جاءت نتيجة لتصاعد التوتر والأعمال الإرهابية التي نددت بها المملكة العربية السعودية وحذَّرت في الماضي، من تداعياتها"، بحسب بيان للخارجية السعودية.
واللافت أن التصريح السعودي الذي انتقد العالِم النووي، جاء بعد وقت قليل من تصريح مشابه لدولة الإمارات العربية المتحدة انتقدت فيه اغتيال العالم الإيراني، الذي لم تتبنَّه أي جهة، ولكن هناك شكوك قوية في إسرائيل، تعززت بتقارير إعلامية عبرية تشير إلى ذلك.
إذ أدانت أبوظبي العملية في وقت تمضي قدماً بخطوات متسارعة تجاه التطبيع مع إسرائيل، وقالت الإمارات إنها "تدين جريمة الاغتيال المشينة التي طالت السيد محسن فخري زادة، والتي من شأنها أن تقود إلى حالة من تأجيج الصراع في المنطقة… وتدعو جميع الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس؛ لتجنب انجراف المنطقة إلى مستويات جديدة من عدم الاستقرار وتهديد السلم".
يمكن تفهُّم موقف الإمارات التي تحتفظ دوماً بشعرة معاوية مع إيران واتصالات علنية وسرية، إضافة إلى علاقات اقتصادية، ولكن موقف الرياض كانت أكثر تصلباً تجاه طهران؛ ومن ثم تُظهر نبرة خطاب إدانة مقتل زادة التصالحية رغبة سعودية في التهدئة مع إيران.
لماذا مالت السعودية والإمارات إلى التهدئة؟
يشير الموقفان إلى أن الدولتين المعروفتين بعدائهما للنظام الإيراني تخشيان دفع ثمن أي تصعيد من قِبل إدارة ترامب في أيامها الأخيرة ضد إيران.
إذ يبدو أن الإمارات والسعودية تخشيان أن تتورطا في نزاع مع إيران أو أن يكون الرد الإيراني على أي هجوم إسرائيلي أو أمريكي موجَّهاً لهما بدلاً من واشنطن أو تل أبيب، في وقت لا توجد فيه ضمانات بأن الولايات المتحدة الأمريكي حليفتهما قد تحميهما في عهد الرئيس الجديد جو بايدن، الذي يأتي بمقاربة جديدة للتعامل مع إيران.
إضافة إلى ذلك تخشى الدولتان أن يأتي الرد عبر هجمات يشنها الحوثيون الموالون لإيران، خاصةً أنهم يصعدون بالفعل ضد السعودية.
لماذا لا تردُّ إيران على من اغتال محسن فخري زادة؟
هذا السيناريو للرد الإيراني المحتمل يتفق مع الطبيعة الجيواستراتيجية لقدرات النظام الإيراني، بصرف النظر عن ادعاءاته المبالغ فيها عن قدراته العسكرية.
ففي الأغلب يصعب على إيران استهداف إسرائيل عسكرياً بشكل مؤثر، في ظل تفوق الأخيرة العسكري الواضح، لاسيما الجوي، وبُعد المسافة (إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي أدخلت طائرات إف-35 الشبحية إلى طور العمليات)، كما أن إسرائيل لديها دفاع ضد الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي تزداد فرص إسقاطها مع بُعد المسافة بين إيران وإسرائيل.
وقد يصل الرد الإسرائيلي إلى استهداف المنشآت النووية الإيرانية.
كما أن القدرات العسكرية الإسرائيلية تستطيع استهداف أهداف إيرانية أو أهداف لأتباع إيران في العراق ولبنان وسوريا، وهي تقوم بذلك بالفعل، خاصة في سوريا.
وبطبيعة الحال فإن قدرة إيران على مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية عبر استهداف القواعد الأمريكية أو القطع
البحرية بالمنطقة، أدني من قدرتها على مواجهة إسرائيل.
والأخطر بالنسبة لطهران أن تتورط في حرب مع أمريكا في الأيام الأخيرة لترامب، الرجل الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته وقد يكون بالنسبة له أمر جيد أن يترك حرباً مشتعلة مع إيران لسلفه القادم بايدن، في ظل تقارير إعلامية تفيد بأن ترامب قال لوزير خارجيته مايك بومبيو: "انطلِق في مواجهة إيران، فقط لا تخاطِر بحرب عالمية ثالثة)"، حسبما نقل موقع The Daily Beast عن مسؤول بالإدارة الأمريكية الحالية.
كما أن هناك تقارير تفيد بأن إدارة بايدن تواصلت مع الإيرانيين سراً وطلبت منهم ضبط النفس ضد أي استفزاز من ترامب وإسرائيل إلى أن تتسلم السلطة، وتبدأ التفاوض حول الملف النووي وبحث سبل إحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي يعتبر أكبر إنجازات إدارة أوباما ونائبه بايدن في السياسة الخارجية.
لا يعني ذلك أن إدارة بايدن ستصبح صديقة لإيران أو ستعيد الاتفاق النووي إلى سيرته الأولى من النقطة التي وصل إليها أوباما.
ولكن ستكون أقل حماسة لتفجير الأوضاع مع إيران أو حتى الدفاع عن حلفاء تراهم شركاء في عملية إفساد الاتفاق النووي الإيراني على يد ترامب.
تجدر الإشارة إلى أنه رغم أن ترامب قد يكون أقرب رئيس إلى الرياض وأبوظبي في تاريخ أمريكا، فإن إدارته لم ترد على الهجمات التي يُعتقد أن الإيرانيين قد نفذوها على أهداف إماراتية وسعودية، وأشهرها استهداف مرافق بحرية وسفن إماراتية، إضافة إلى الهجوم المعقد الذي استهدف منشأة شركة أرامكو السعودية العملاقة وأدى إلى وقف جزء من إنتاج النفط السعودي، واكتفت بدعم سياسي وإرسال بعض القوات للسعودية.
ويُعتقد أن مواقف إدارة بايدن ستكون أضعف في حال أي هجوم إيراني مماثل، خاصةً أنها تنظر إلى الإمارات والسعودية باعتبارهما شريكتين في خطة ترامب ونتنياهو في التصعيد ضد إيران وإفساد خطتها لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
وتؤشر الرغبة السعودية في التهدئة مع إيران ليس فقط إلى خوف سعودي من الاشتباك في نزاع مع إيران وحدها، ولكنها قد تؤشر أيضاً إلى تراجع سعودي محتمل في الملفات الإقليمية التي تتواجه فيها مع إيران، والتي شهدت بالفعل تراجعاً سعودياً مثلما حدث في لبنان وسوريا والعراق، إضافة إلى المأزق السعودي في اليمن.
من جانبها، فإن من الواضح أن إيران في ظل محدودية قدرتها على الانتقام من إسرائيل والولايات المتحدة، فإنها تفضل استهداف الطرف الأضعف في التحالف المضاد لها.
والمفارقة أن الموقف السعودي الإماراتي نتيجة هذا التطور قد يصبح هو المثبط لأي مغامرة مشتركة لترامب ونتنياهو لضرب إيران أكثر من بايدن.