يبدو أن حالة الوئام التي بدت عليها العلاقة بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحليفه في الحكومة الحالية بيني غانتس خلال الأشهر الماضية قد انتهت، ومن ثَم يُتوقع أن تصل الأمور إلى مرحلة الخصام وتفكك الحكومة، بعد التصريحات الأخيرة لزعيم حزب أزرق-أبيض.
وقبل أيام نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية في صفحتها الرئيسية مقالاً بعنوان "الدولة اليوم في مأزق، لأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مشغولٌ بقضايا أخرى. يفكِّر نتنياهو أولاً وقبل أيِّ شيء في محاكمته. مرحباً بالفوضى!". كان هذا هو العنوان وكان هذا العنوان اقتباساً مباشراً من وزير الدفاع ورئيس الوزراء المناوب بيني غانتس، بحسب تقرير لموقع Al-Monitor الأمريكي.
"الفوضى" مصطلح يعبِّر عن حرب غانتس!
لم يكُن من قبيل المصادفة أن رئيس الأركان السابق قد اختار استخدام مصطلح "فوضى" (وهو أيضاً اسم أنجح مسلسل تلفزيوني إسرائيلي "Fauda"). كانت كلمة "فوضى" هي كلمة السر التي استخدمتها وحدة مستعارف التابعة للجيش الإسرائيلي التي تعمل في الضفة الغربية حين اكتشفها السكان المحليون. وبناءً على نصيحة مستشاريه الإعلاميين، استخدم غانتس المصطلح في محاولةٍ لإظهار موقفٍ أكثر عدوانية إزاء نتنياهو، معتقداً أن هذا قد يساعده في استعادة الناخبين الذين تخلوا عنه للانحياز إلى نتنياهو في المقام الأول.
وحتى لو كان هذا مجرد تكتيك يستهدف وسائل الإعلام، فإن حقيقة أن وزير الدفاع يقول شيئاً قاسياً عن رئيس الوزراء ويقارن عمله بساحة معركةٍ مميتة هو أمرٌ غير طبيعي. في هذه الحالة، كان مصطلح "فوضى" إعلاناً سياسياً من غانتس للحرب، وإشارةً إلى أنه توصَّل إلى قبول فكرة أن انتخاباتٍ جديدة أمرٌ لا مفرَّ منه. يبدو أن كلَّ الدلائل تشير إلى أن إسرائيل ستتجه إلى جولةٍ رابعةٍ من الانتخابات في مارس/آذار المقبل، ولا شيء أقل من معجزةٍ يمكنه منع ذلك من الحدوث.
يمكن لنظرةٍ فاحصةٍ على حياة غانتس ونتنياهو خلال اليومين الأوَّلَين من هذا الأسبوع أن تقدِّم صورةً كئيبةً لطريقة عمل الحكومة. علاوة على أنه يبدو أن هناك أزمةً غير مسبوقة في الحكومة. لم يحدث شيءٌ من هذا القبيل من قبل.
"فضيحة الغواصة"
بدأ كلُّ شيءٍ في 21 نوفمبر/تشرين الثاني. فجأة، ودون أيِّ إنذارٍ مُسبق، أعلن مكتب رئيس الوزراء أن اجتماع مجلس الوزراء بشأن جائحة فيروس كورونا المُستجَد، المُقرَّر عقده يوم الأحد الماضي لاتِّخاذ قرارٍ بشأن رفع بعض القيود، تقرَّرَ تأجيله ليومٍ واحد. والسبب في ذلك هو أن الوزراء المشاركين لم ينتهوا من استعداداتهم لذلك الاجتماع.
وفي ظهيرة يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني وفي حفل التأبين السنوي لأول رئيس وزراء لإسرائيل، ديفيد بن غوريون. وفي نهاية الحفل، ذهب غانتس إلى نتنياهو وطلب التحدُّث معه على انفراد. وعُلِمَ لاحقاً أنه أبلغ نتنياهو بقراره بتشكيل وزارة الدفاع لجنة تحقيق للنظر في فضيحة الغواصة.
ومع هذه المعلومات المُتقلِّبة، عاد نتنياهو إلى القدس ليقوم باستعداداته النهائية لرحلته السرية إلى المملكة السعودية للقاء وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان. لم يخبر نتنياهو غانتس قط عن هذا اللقاء، رغم أنهما أمضيا بضع لحظاتٍ على انفراد. لم يلمح قط إلى رحلته أو ألمَحَ إلى أنه قد يكون هناك سببٌ آخر وراء قراره تأجيل اجتماع مجلس الوزراء بشأن الجائحة. وعُلِمَ لاحقاً أيضاً أن نتنياهو أبقى هذه الرحلة الحسَّاسة سراً عن وزير الخارجية غابي أشكنازي، ورئيس الأركان أيضاً، بزعم الحدِّ من عدد الأشخاص الذين كانوا فيها. وبهذه الطريقة، حسب اعتقاده، يمكنه منع وصول المعلومات إلى وزير الدفاع. وليس سراً أن نتنياهو لا يثق برئيسيّ الأركان السابقين غانتس وأشكنازي، واختار استبعادهما مراراً من الشؤون الدبلوماسية والأمنية.
وبعد فترةٍ وجيزةٍ من عودة نتنياهو إلى القدس، أعلنت الصحافة تشكيل لجنة تحقيق برئاسة قاضٍ. أثار هذا على الفور ضجيجاً سياسياً كبيراً. ستكون لمثل هذه اللجنة آثارٌ سياسية وعامة هائلة. ففي حين أن القاضي لن يُسمَح له باستدعاء الشهود أو تحديد مصائر أشخاص، فإنه، بعبارةٍ مُلطَّفة، يضع نتنياهو في موقفٍ غير مريح في نظر الجمهور. كانت الشكوك في قضية الغواصة تحوم حول نتنياهو لسنوات. ولا يهم هنا أن المُدَّعي العام أصدر تقريباً مُفصَّلاً قبل شهرٍ فقط بأنه لا يوجد سببٌ معقول يبرِّر التحقيق في تورُّط رئيس الوزراء في القضية.
قرار موضوعي لكنه مغلف بالسياسة!
الآن يدرك غانتس أن نتنياهو ليس لديه خططٌ للحفاظ على اتفاق حكومة الوحدة بينهما. هناك انتخاباتٌ جديدةٌ تلوح في الأفق في ظلِّ ظروفٍ صعبة، مع وجود حزبٍ مُمَزَّق -حزب "أزرق وأبيض"- وينهار في استطلاعات الرأي. لهذا السبب، قرَّرَ غانتس ضرب أخيل في كعبه بإثارة قضية الغواصة. وحتى لو كان التحقيق مُبرَّراً، فلا شك في أن هذا كان قراراً سياسياً اتُّخِذَ في حالة محنة. وبالمثل، فإن حقيقة أن غانتس حدَّد الوقت الذي تستغرقه اللجنة لإنهاء التحقيق بأربعة أشهر -أي حين يحلُّ موعد إجراء الانتخابات المقبلة على الأرجح- دليلٌ إضافي على ما يمكن وراء قراره.
كان غانتس قد ألقى قنبلةً، ولكن ما فاجأ وزراء الليكود أن نتنياهو لم يكن موجوداً في الأرجاء. ففي صباح اليوم التالي ذيعت الأخبار بأن نتنياهو استقلَّ طائرةً في الليلة نفسها وتوجَّه إلى مدينة نيوم الساحلية السعودية، على بُعدِ حوالي 90 دقيقة من إسرائيل. وبعد أربع ساعات طار عائداً إلى إسرائيل، وظَهَرَ في الكنيست في اليوم التالي.
كان ذلك صباح يومٍ بعد ليلةٍ دون نوم حين رأى نتنياهو العنوان الدرامي في صحيفة يديعوت أحرونوت. وبعد ساعات قليلة فقط، بدأت المواقع الإخبارية على الإنترنت في الإفادة بلقائه التاريخي في المملكة السعودية. وبما أن القصة لم تخضع للرقابة، يمكن الافتراض أن نتنياهو وافَقَ عليها. كانت رحلته السريعة إلى المملكة السعودية، من أجل لقاء بن سلمان مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، ذات قيمةٍ سياسية هائلة بالنسبة له، خاصةً في يومٍ كهذا. لقد كان أكثر من مجرد التفاف حول الأمر، بل كانت هناك رسالةٌ أكبر وراء ذلك، يمكن لنتنياهو أن يستخدمها لتقديم نفسه باعتباره رجل دولةٍ بامتياز، بينما يُزعَم أن غانتس مشغولٌ بالتركيز على الخلافات السياسية الصغيرة.