يبدو أنَّ الرئيس إيمانويل ماكرون عازم على المضي قدماً في خططه لمكافحة ما يراه نزعات انفصالية في بلاده، وعلى رأسها ما يُسمى "الانفصالية الإسلامية" بعد تعرّض فرنسا لعدد من الهجمات الإرهابية خلال الفترة الأخيرة.
كانت البداية مع المدارس، إذ أعلنت فرنسا عن مشروع قانون جديد في 18 نوفمبر/تشرين الثاني يلغي وخيارات التعليم المنزلي للأطفال بدايةً من عمر 3 سنوات وما فوق باستثناء حالات محدودة للغاية متعلقة بالصحة. يقضي مشروع القانون أيضاً بتشديد الرقابة على المدارس المستقلة ورصد أرقام الهوية الوطنية للأطفال في عمر المدرسة لتسهيل تتبع الحضور، بحسب تقرير لموقع The Conversation الأسترالي.
على الرغم من أنَّ أحكام مشروع القانون هذا أحيطت بإطار "تعزيز العلمانية وترسيخ المبادئ الجمهورية" في فرنسا، يرى كثيرون أنَّه وسيلة لدفع الشباب للالتحاق بالمدارس العامة في وقتٍ مبكر من أجل "المساعدة في إنقاذ أطفال فرنسا من براثن التطرف الإسلامي"، على حد تعبير وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان.
استهداف المدارس الإسلامية
لا يعتبر هذا التركيز على المدارس أمراً جديداً. أدخلت الحكومة الفرنسية في عام 2018 ما يُعرف بـ" قانون غاتيل" (Gatel law)، الذي غيّر عمر التعليم الإلزامي من 6 سنوات إلى 3 سنوات، وزاد كثيراً من صعوبة فتح مدرسة خاصة مستقلة وتشغيلها. ينص مشروع القانون الجديد أيضاً على ضرورة أن يكون مديرو ومعلمو المدارس الإعدادية والثانوية من حاملي الجنسية الفرنسية– وهو بند يقول البعض إنَّه يؤثر على المدارس الإسلامية على نحو غير متناسب.
يبدو أنَّ تلك الإصلاحات المقررة تفترض أنَّ نظام المدارس العامة الفرنسي شديد المركزية هو الخيار الصحيح لجميع الفرنسيين، وأنَّ الحد من خيارات التعليم البديلة– لاسيما المدارس الإسلامية- سَيُشكّل حائط صد ضد التطرف والنزعات الانفصالية والتعاليم التي تتعارض مع مبادئ الجمهورية الفرنسية العلمانية. ويشير بحث- يستند إلى دراسة دامت 10 سنوات للمدارس الإسلامية الفرنسية، بالإضافة إلى مقابلات مع مديري مدارس ومعلمين وأولياء أمور وطلاب- إلى أنَّ هذا النهج قد يكون خاطئاً. قد تساعد المناهج الدراسية المُتخصّصة، التي تقدمها بعض المدارس الإسلامية، في الحماية من التطرّف والقضاء على أحد أسبابه الجذرية– الذي يتمثّل في التعارض المُتصوّر بين كونك مسلماً وفرنسياً.
المدارس الخاصة الفرنسية
تعمل الغالبية العظمى من المدارس الخاصة الفرنسية، التي يزيد عددها عن 9 آلاف مدرسة، بموجب عقود مبرمة مع الدولة. هذا يعني أنَّ ميزانيات التشغيل ورواتب المعلمين ممولة من الدولة بعد فترة انتظار مدتها 5 سنوات. تعتمد هذه المدارس نفس المنهج الدراسي، لكن على عكس المدارس العامة التي يغيب فيها تدريس التعليم الديني تماماً، تستطيع المدارس الخاصة الممولة من الدولة تقديم التعليم الديني باعتباره خياراً متاحاً.
في المقابل، يُسمح للمدارس الخاصة الممولة تمويلاً مستقلاً والبالغ عددها حوالي 1500 مدرسة بقدر كبير من الحرية الأكاديمية، على الرغم من أنَّهم لا يزالون ملزمين بتدريس المواد الأساسية مثل الرياضيات والعلوم واللغة الفرنسية والتاريخ.
وبينما حوالي 70% من جميع المدارس المستقلة هي غير دينية، فإنَّ 17% فقط من تلك المدارس كاثوليكية. في الوقت نفسه، تبلغ نسبة المدارس الإسلامية حوالي 5%.
هل نمط واحد يناسب الجميع؟
بالنسبة لمعظم العائلات التي تحدثت معها، يعكس اختيار المدرسة القيم الشخصية والأولويات التعليمية للأسرة. وصفت العديد من العائلات المدارس الكاثوليكية المستقلة بأنَّها امتداد طبيعي للتعليم الأسري، بالإضافة إلى أنَّها تُعد بديلاً عملياً للتعليم المنزلي بالنسبة لبعض العائلات.
أوضح لي عدد من أولياء الأمور ومديري المدارس أنَّ تفضيلهم للمدارس المستقلة ينبع من مجموعة أسباب مختلفة، بدايةً من النقص المتصور في الاهتمام الفردي الموجه للطلاب الاستثنائيين وأولئك الذين يعانون من تحديات تعليمية أو سلوكية إلى المعايير الأكاديمية المتدنية والافتقار إلى التعليم الديني. أعرب العديد من المعلمين وأولياء الأمور في المدارس المستقلة عن قلقهم بشأن ما اعتبروه تجاوزاً حكومياً يتعلق بالسيطرة على تعليم الأطفال.
قد تكون الإصلاحات المدرسية التي اقترحها ماكرون حسنة النية، لكنها ستحد كثيراً من خيارات الوالدين من خلال إلغاء خيار التعليم المنزلي. في الوقت نفسه، تُقيّد تلك الإصلاحات- على نحو متناقض نوعاً ما- الخيار البديل للمدارس المستقلة وتشوه سمعته.
المدارس الإسلامية في فرنسا
اُفتتحت أول مدرستين ابتدائيتين إسلاميتين في فرنسا عام 2001. يوجد حالياً حوالي 70 مدرسة من هذا القبيل. على غرار نظرائها، أي ما يزيد عن 7500 مدرسة كاثوليكية و200 مدرسة يهودية و30 مدرسة بروتستانتية، تدرس المدارس الإسلامية في فرنسا المواد الدراسية الأساسية بالإضافة إلى توفير التعليم الديني.
الغالبية العظمى من المدارس الإسلامية غير ممولة من الدولة. لا يحدث هذا الوضع عادةً بمحض اختيار المدارس، لكن لأنَّها إما لم تكمل بعد فترة الانتظار المطلوبة التي مدتها 5 سنوات حتى تتقدم بطلب للحصول على تمويل الدولة أو لم تستوفِ بعد الشروط الأكاديمية اللازمة. بدلاً من ذلك، تعتمد هذه المدارس في تمويلها على الرسوم الدراسية والتبرعات الخاصة– التي تأتي عادةً من المجتمعات المحلية.
تنطبق الإصلاحات المدرسية المقترحة على جميع المدارس التي تحاول أن تفتح أبوابها أو تتقدم بطلب للحصول على تمويل حكومي. ومع ذلك، رُبطت تلك الإصلاحات بأهداف سياسية تتعلّق على وجه التحديد بمكافحة التطرف الإسلامي أو الانفصالية الإسلامية، الأمر الذي أدَّى إلى وصم مسلمي فرنسا، فضلاً عن تزايد عدم الثقة والريبة في المدارس الإسلامية.
مصدر استقرار
عند مناقشة مصادر التطرف في فرنسا، يشير الباحثون في كثير من الأحيان إلى الإقصاء الاجتماعي للشباب المسلم، لاسيما أولئك الموجودين في ضواحي المدن. أخبرني بعض مديري المدارس الإسلامية أنَّهم فتحوا تلك المدارس من أجل توفير تعليم عالي الجودة وبيئة تعليمية أكثر أماناً للشباب الذين كانوا سيضطرون إلى الالتحاق ببعض المدارس العامة ذات المستوى المتدني الموجودة في ضواحي المدينة.
فتحت مدارس إسلامية أخرى بهدف واضح صريح يتمثّل في توفير مساحة للفتيات المسلمات الراغبات في متابعة طموحاتهن الأكاديمية بدون خلع الحجاب بعد صدور قانون عام 2004 يحظر ارتداء أي رمز ديني في المدارس العامة. أظهرت أبحاثي ودراسات أخرى أنَّ قرار حظر الحجاب كان له تأثير سلبي على الفتيات المسلمات تجاوز نطاق التعليم.
علاوة على ذلك، كشفت مقابلات أجريت مع مدرسين وطلاب سابقين في مدارس إسلامية عن وجود برامج متعمّدة لتثقيف الطلاب بشأن تماسك الهوية الفرنسية والإسلامية، وعن المواطنة والعلمانية الفرنسية، بالإضافة إلى تعليم الطلاب أساساً واضحاً ومرناً للدين الإسلامي. يشير بعض الباحثون إلى أنَّ هذه الاستراتيجيات من شأنها المساعدة في الحماية من الاستجابة لإغراء التطرف.
في استطلاع رأي محدود النطاق أجريته عبر الإنترنت عام 2014 وشارك فيه 225 طالباً من أحدث خريجي المدارس الثانوية، قال جميع الطلاب السابقين في المدارس الثانوية الإسلامية الخاصة الممولة من الدولة إنَّهم درسوا مفهوم المواطنة الفرنسية، في مقابل 30% فقط من نظرائهم في المدارس الإسلامية العامة و48% فقط من أقرانهم في المدارس العامة غير الإسلامية. وبينما قال حوالي 70% من خريجي المدارس الإسلامية الخاصة إنَّهم فخورون لكونهم فرنسيين، فإن نفس الإجابة صدرت عن 45% فقط من أقرانهم في المدارس العامة الإسلامية.
أشار طلاب سابقون أيضاً إلى مزايا التعليم في بيئة مدرسية إسلامية، والتي من بينها عدم المعاناة من وصمة العار الموجودة في بعض المدارس العامة تجاه المسلمين والشعور بالحرية سواء في اختيار ممارسة تعاليم دينهم أو عدم ممارستها، بالإضافة إلى شبكة داعمة من المعلمين لمساعدتهم على النجاح. وقد أشار بعض هؤلاء الطلاب إلى أنَّ الجزء الأصعب بالنسبة لهم كان مغادرة المدرسة.
كتب أحد الطلاب السابقين بإحدى المدارس الثانوية الإسلامية: "تتمثّل أحد عيوب المدارس الإسلامية في أنَّه بعد قضاء 3 سنوات في بيئة لا نشعر فيها بالذنب لكوننا مسلمين والشعور بالمساواة والبعد تماماً عن كل أشكال التمييز وعلامات الإسلاموفوبيا، نجد أنفسنا مضطرين إلى المغادرة والعودة إلى الحياة الواقعية، التي قد تُشكّل لنا صدمة بسبب هذا التغيير القاسي في البيئة- خاصةً عند دخول الجامعة".
لا يوجد دليل على أنَّ المدارس الإسلامية أو المدارس المستقلة أو التعليم المنزلي تُمثّل الأسباب الجذرية لمشكلات التطرف والانفصالية الإسلامية في فرنسا. على العكس من ذلك، يؤكد بحثي أنَّ العديد من تلك الخيارات توفر بدائل تعليمية جيدة. لذا، أعتقد أنَّ جهود الإصلاح المستقبلية يستحسن لها النظر إلى هذه المدارس باعتبارها حليفة محتملة في معركة فرنسا ضد التطرف وإقصاء المسلمين على حدٍ سواء.