غيَّر اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان بوساطة روسية لإنهاء الحرب بين البلدين المستمرة منذ 6 أسابيع الوضع الجيوسياسي في المنطقة تغييراً ملحوظاً، وألحق الضرر بإيران تحديداً، بشكل جعلها أضعف في مواجهة تركيا.
وقائمة المكاسب والخسائر من حرب القوقاز لا تتعلق فقط بإقليم ناغوروني قره باغ، بل إن لها تأثيرات استراتيجية وجغرافية كبيرة في المنطقة، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
قائمة الخاسرين والرابحين من اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان
علييف.. عزز حكمه
ومن الواضح أنَّ الفائز في هذا الاتفاق هو أذربيجان ورئيسها إلهام علييف. إذ استعادت باكو العديد من البلدات والمدن في ناغورني قره باغ، المنطقة التي خسرتها أرمينيا خلال حروبها المتعاقبة بين عامي 1989 و1994.
وتُعزَى خسائر أذربيجان في ذلك الوقت بدرجة كبيرة إلى الاقتتال الداخلي بين مختلف الجماعات السياسية التي ركَّزت على التنافس على توجهات الهوية المستقبلية للجمهورية المستقلة حديثاً وتوجهها الخارجي، إلى حد تخريب الجهود العسكرية للبلاد.
وفي العقود التالية، أصبحت استعادة الأراضي المفقودة هدفاً وطنياً لأذربيجان، وأساساً لهويتها، وشرعية قادتها. وجعلَت مركزية ناغورني قره باغ في السياسة الأذربيجانية أية تسوية إقليمية مستحيلة سياسياً.
والآن بعد استعادة الرئيس الأذربيجاني بعض تلك الأراضي المفقودة، عزَّز علييف -الذي ورث رئاسته من والده- منصبه.
أرمينيا.. لم تعد لها حدود مفتوحة سوى مع جورجيا
ويتضح أنَّ أرمينيا هي الخاسر الأكبر في الصراع الأخير.
إذ بسبب اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان خسرت يريفان أراضي في ناغورني قره باغ، وجزء من حدودها مع إيران.
وشكَّلت تلك الحدود المنفذ الوحيد لأرمينيا إلى العالم الخارجي خلال الحرب الروسية-الجورجية عام 2008، منذ إغلاق تركيا حدودها مع أرمينيا بعد فترة وجيزة من تفكُّك الاتحاد السوفييتي.
وإذا فقدت أرمينيا الآن الممر الضيق الذي يربط جيب قره باغ ببرها الرئيسي في لاتشين، كما هو منصوص عليه في اتفاق السلام، فستجد نفسها محاطة بأذربيجان وتركيا، باستثناء حدودها الشمالية مع جورجيا.
تركيا.. مكاسب متعددة
منذ الانهيار السوفييتي في عام 1991، اعتبرت تركيا نفسها مركزاً لأوراسيا جديدة وزعيمة للعالم التركي الأوسع، إلى ما بعد القوقاز وفي آسيا الوسطى. وحاولت تحقيق هذه الأهداف في ظل زعماء علمانيين وإسلاميين، لكن مثَّل غياب الحدود المشتركة مع أذربيجان عقبة رئيسية أمام هذا الهدف.
وفي الواقع، كانت أذربيجان جزءاً رئيسياً من استراتيجية أنقرة طويلة المدى. وتزامناً مع الحرب بين باكو ويريفان على المنطقة، نجحت أنقرة، بمباركة ضمنية من الغرب، في دمج باكو دمجاً وثيقاً في مجال نفوذها الثقافي والاقتصادي والأمني.
والآن، مع ارتباط أذربيجان إقليمياً بناخيتشيفان (جمهورية نخجوان الذاتية الحكم)، الجيب الأذري على طول الحدود الشمالية لإيران، ويمتد لداخل الأراضي الإيرانية، ستكون أنقرة قادرة على بسط قوتها في أذربيجان الإيرانية وخارجها.
ويمكن لهذه التغييرات التي أحدثها اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان أن تُمكِّن تركيا من تحقيق هدفها طويل الأجل المُتمَثِل في الوصول إلى أراضي آسيا الوسطى عبر إيران، وتحقيق أحلامها الأوراسية. وكان دعم تركيا لباكو والانفصاليين الأذريين في إيران جزءاً من هذه الاستراتيجية. إلى جانب أنَّ أداءها خلال الحرب عزَّز مصداقيتها حليفاً موثوقاً في الجوار.
إسرائيل.. رابحة أيضاً
كانت أذربيجان مفيدة لإسرائيل في نزاعها مع إيران من خلال منح إسرائيل موطئ قدم على الحدود الشمالية لإيران. وبدورها زوَّدت إسرائيل باكو بالأسلحة، بما في ذلك الطائرات بدون طيار، وهي متعاطفة مع فكرة باكو عن "أذربيجان الكبرى".
وتحدث أنصار إسرائيل في الكونغرس الأمريكي ومراكز الأبحاث في واشنطن، مثل معهد هدسون ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، علناً لصالح أذربيجان خلال الحرب، على الرغم من كرههم الشديد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأثبتت إسرائيل أيضاً أهميتها بوصفها حليفاً لباكو.
روسيا.. خسرت مصداقيتها
على عكس تركيا، التي قدمت دعماً دبلوماسياً شاملاً وأسلحة، أثبتت روسيا أنها حليف أقل موثوقية لأرمينيا، وهي حقيقة يمكنها أن تُسفِر عن تداعيات طويلة المدى على نفوذ موسكو الإقليمي وقد تدفع يريفان إلى إعادة تقييم عضويتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا.
وبالرغم من أنَّ دبلوماسية موسكو في هذه الحالة نجحت في تجنب المزيد من إراقة الدماء ومنع اندلاع صراع إقليمي أوسع، فقد أكدت أيضاً أنَّ موسكو لم يعد لها الكلمة الأخيرة في جنوب القوقاز. وعلى العكس من ذلك، يجب الآن اعتبار تركيا منافساً إقليمياً أقوى.
إيران.. خاسر كبير آخر
من خلال تاريخ طهران الممتد لألفي عام من التفاعل مع أرمينيا وأذربيجان الحاليتين، مارست إيران دائماً تأثيراً ثقافياً قوياً في كلا البلدين. وقدمت كذلك مزايا جيوسياسية، بما في ذلك توفير الوصول إلى الخليج العربي.
لكن معاداة طهران لأمريكا، وعداءها لإسرائيل، وترويجها قديماً للثورة الإسلامية في أذربيجان، عزلها فعلياً عن السياسة والتنمية الاقتصادية في المنطقة. وبالرغم من أنَّ طهران صوَّرت نفسها على أنها وسيطٌ محايد وأقامت علاقات ودية مع كل من يريفان وباكو، انتهى بها الأمر إلى إبعادهما.
واستخدمت باكو انفتاح طهران عليها لتوسيع نفوذها في أذربيجان الإيرانية، مع الترويج للدعاية المعادية لإيران والفارسية. وبالمثل تجاهلت يريفان مخاوف إيران إلى حد كبير؛ إذ فضَّل بعض السياسيين الأرمن تنمية العلاقات الودية تجاه أنقرة. وتجد إيران الآن أنَّ مصالحها معرضة للتجاهل في الغالب في اتفاق السلام الأخير. وفي الواقع بدا أنَّ موسكو تفضل علاقتها بأنقرة، وبذلك أذلّت طهران فعلياً.
وفي الواقع، أدى اتفاق اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان إلى تدهور وضع إيران الأمني والاقتصادي، فمن خلال ربط أذربيجان بناخيتشيفان وبالتالي تركيا، تعزَّزت قدرة البلدين على التدخل في أذربيجان الإيرانية. وإذا فقدت إيران حدودها مع أرمينيا، فقد تجد نفسها معتمدة على تركيا وأذربيجان في التجارة البرية مع المنطقة وأوروبا.
وربما تستيقظ إيران أخيراً على تهديدات جديدة من الشمال. وفي المستقبل سيتعين على إيران إيلاء اهتمام أكبر لحدودها الشمالية وتبني سياسة أكثر استباقية في المنطقة، بما في ذلك تجاه أذربيجان.
وبعد اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان، يمكن لطهران أيضاً إعادة تقييم إهمالها لأنشطة تركيا في كل من أذربيجان وفي إقليمها الأذربيجاني، مدركة تماماً أنَّ تصريحات أنقرة عن الصداقة قد تخفي استراتيجية تهدف إلى تقويض مكانة إيران في المنطقة. ومن المرجح أن يثير هذا الإدراك توترات جديدة في العلاقات التركية الإيرانية.
منطقياً، الطريقة التي عوملت بها إيران يجب أن تدفعها أيضاً إلى إعادة تقييم علاقاتها مع موسكو.
وطوال سنوات، اعتبرت روسيا علاقتها مع إيران أمراً مفروغاً منه. ولسوء حظ إيران، ما دامت بعيدة عن الغرب، سيكون من الصعب للغاية إعادة النظر في علاقتها مع موسكو.