خلال الشهر الماضي، كان هناك الكثير من الناس الذين لديهم ما يقولونه عن الأحداث الأخيرة في فرنسا. ففي أعقاب مقتل المُعلِّم الفرنسي صامويل باتي، في 16 أكتوبر/تشرين الأول، على يد مُهاجِمٍ منفردٍ، بعد عرضه رسماً كاريكاتيرياً للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في الفصل الدراسي، ضاعَفَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الدفاع الحكومي عن الكاريكاتيرات على رسول المسلمين، وبعد ذلك دعا نظيرُه التركي، رجب طيب أردوغان، إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية، بينما اندلعت المظاهرات عبر العالم الإسلامي.
لكن في ظلِّ كلِّ هذه الفوضى، هناك مجتمعٌ لم يُسمَع منه إلا القليل حتى الآن، ألا وهو مسلمو فرنسا، يقول موقع Middle East Eye البريطاني.
"ليس لدينا ما نقوله"
في باريس، رَفَضَ كثير من المسلمين الذين تواصل معهم موقع Middle East Eye البريطاني، التعليق على الجدل المُثار حول الرسوم الكاريكاتيرية وردود فعل ماكرون وأردوغان.
قال مالكو مكتبةٍ إسلامية في الضاحية الحادية عشرة بالمدينة، باقتضابٍ في الرد: "لا نريد التعليق على هذا. ليس لدينا ما نقوله".
كان ذلك هو رد الفعل نفسه من مدير الاتصال بمسجد باريس، الذي قال إن المسجد لا شأن له بالأحداث الجارية في فرنسا.
وقال شخصٌ يُدعى أبو بكر، وهو باريسيٌّ تحدَّث إلى الموقع البريطاني في شوارع العاصمة الفرنسية: "لا أريد التحدُّث نيابةً عن المجتمع المسلم". وأضاف: "رأيي رأيٌ شخصي، وكذلك معتقداتي الروحية".
وتشير الردود القلقة إلى مناخٍ عام من التوتُّر والتشكُّك المُوجَّه إلى المجتمع المسلم بفرنسا. في الأسابيع التالية على مقتل المُعلِّم باتي، تعهَّدَت الحكومة الفرنسية بقمع "الانفصالية" داخل الأمة، مشيرةً إلى المسلمين في فرنسا.
وبالنسبة للمسلمين الفرنسيين الذين وافقوا على التحدُّث إلى موقع Middle East Eye، فإن الموقف الحالي يُعَدُّ امتداداً لتوتُّراتٍ طويلة الأمد حول الإسلام والإسلاموفوبيا في فرنسا.
أكبر مجتمع مسلم في أوروبا
يُعتقَد أن فرنسا موطن أكبر مجتمعٍ مسلم في أوروبا، ورغم ذلك ليست هناك أيُّ إحصاءاتٍ رسمية في البلاد عن الدين والإثنية. وهذا نتاجٌ لسياسة الهجرة التي تعود إلى أربعينيات القرن العشرين، حين انخرطت البلاد في جهود إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، في وقتٍ كان فيه شمال إفريقيا لا يزال واقعاً بشكلٍ كبير تحت الحكم الاستعماري الفرنسي.
على المستوى النظري، يتمتَّع المهاجرون من الجيلين الثاني والثالث بالحقوق نفسها التي يتمتَّع بها المواطنون الفرنسيون اليوم. لكن على المستوى العملي، ينتشر التمييز على نطاقٍ واسع.
عنصرية وتمييز واضحان
يوضِّح أوليفير لوكور غرانميزو، عالم الاجتماع المتخصِّص في التراث الاستعماري لفرنسا وما يُطلِق عليه "عنصرية الدولة"، قائلاً: "إحصائياً، إذا كانت لديك ملامح شمال إفريقية أو تعود إلى منطقة الصحراء الكبرى، فهناك احتماليةٌ لاعتقالك على يد الشرطة أكبر بثماني مرات من احتمالية القبض على شخصٍ قوقازي".
وأضاف غرانميزو، مؤلِّف كتاب "Racisms of France"، أن "هذه الممارسات ندَّدَت بها جماعات حقوق الإنسان، لكنها متواصلة ومدعومة من جانب الدولة".
لأكثر من عقد، كان المجتمع المسلم بفرنسا في القلب من جدالاتٍ سياسية لا حصر لها حول ما إذا كانت التعبيرات الواضحة عن التديُّن، مثل الحجاب، متماشيةً مع التفسيرات الأجدد للمفهوم الفرنسي عن العلمانية. وقد حذَّرَ المنتقدون والمدافعون من أن التشريع والخطاب العام يؤدِّيان إلى وصم المسلمين في البلاد، مع تحريف التعريف القانوني للعلمانية.
دعا وزير الداخلية الفرنسي، غيرالد دارمانين، إلى حلِّ كثير من منظمات المسلمين، وضمنها مؤسَّسة بركة سيتي الخيرية، والتجمُّع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا، في أعقاب مقتل المُعلِّم باتي، متهماً هذه المنظمات بتحمُّلِ بعض المسؤولية عن "الانفصالية"، وأنها أيضاً راضيةٌ أو داعمة لأفعال العنف في فرنسا، وهي ادِّعاءاتٌ أنكرتها هذه المنظمات.
حُظِرَت مؤسَّسة بركة سيتي، وقد يلقى التجمُّع ضد الإسلاموفوبيا المصير نفسه. ويرى المدافعون عن التجمُّع أنه رابطةٌ مفيدة توثِّق الأفعال المناهضة للمسلمين، في حين تفشل الدولة في ذلك.
منع توثيق العنصرية ضد المسلمين
قالت عليمة بومدين، المحامية المدافعة عن حقوق الإنسان والعضوة السابقة بالبرلمان الأوروبي عن حزب الخضر الفرنسي: "يقوم التجمُّع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا بعملٍ ميداني يسمح له بتوثيق حالاتٍ كثيرة من العنف ضد المسلمين، وهي حالاتٌ لا تراها الدولة، لأنها تركِّز فقط على الحالات التي تصدر فيها تهمٌ في أقسام الشرطة". وأضافت: "غير أن مؤسَّساتٍ مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قالت إن التجمُّع ضد الإسلاموفوبيا لديه إحصاءات مفيدة".
ويخفِّف بعض المسلمين في فرنسا من الأوضاع الراهنة ويذكرون أنها قد تصبح أسوأ. يقول أوزغور، وهو ناشطٌ فرنسي من أصلٍ تركي: "كثير من المسلمين في فرنسا والخارج متفاجئون من مرونة المجتمع الفرنسي". وأضاف: "لقد واجهوا أعمالاً إرهابية وحشية في السنوات الخمس الأخيرة، ومع ذلك لم يكن هناك أيُّ انتقامٍ في شكل قتلٍ جماعي كما نرى في أماكن أخرى".
غير أنه يقول إنه يشعر بالخوف من المستقبل، إذ إن الواقعة كانت الأولى من نوعها أن يقتل شرطيٌّ ناشطاً يمينياً بعد محاولته طعن صاحب متجرٍ فرنسي من أصلٍ شمال إفريقي في 29 أكتوبر/تشرين الأول.
وقال: "أتمنَّى ألا يحدث ذلك مُجدَّداً، لكن الحركات الفاشية تتصاعد في فرنسا، وليس هناك شكٌّ في ذلك. لنأمل ألا نشهد سيناريو كالذي جرى في الولايات المتحدة حيث الميليشيات تنزل إلى الشوارع".
حسابات سياسية
بالنسبة للبعض، كان موقف الإليزيه في أعقاب هجوم 16 أكتوبر/تشرين الأول، والذي جاء بعده هجومٌ آخر في 29 أكتوبر/تشرين الأول وقُتِلَ فيه ثلاثة أشخاص، موقفاً سياسياً.
وقال نبيل، تونسي المولد وفرنسي المواطنة ويعمل بمطعمٍ في باريس، مشيراً إلى زعيمة حزب الجبهة الوطنية التي فاز عليها ماكرون بـ66% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية في العام 2017: "أعتقد أن ماكرون يستعد لانتخابات 2022. إنه يعرف أن منافسته الرئيسية ستكون ماري لوبان، وهذا يعني أنه بحاجةٍ لدفعةٍ ناحية أقصى اليمين، وهذا كلُّ شيء".
وأضاف نبيل، مشيراً إلى القمع الوحشي للمتظاهرين الذي هزَّ شوارع باريس في ذروة حرب الاستقلال بالجزائر: "لم تكن فرنسا أكثر عنصريةً قط على ما أعتقد. في الستينيات، اعتادوا قذف العرب في نهر السين، هل تعرف ذلك؟".