كيف يمكن تصنيف خبراء الاستراتيجية العسكرية؟ وعلى أي أساس يتم ترتيبهم تاريخياً؟ فالاختلافات الجذرية بين طبيعة الحرب وتطور أدواتها على مر الزمان تجعل الأمر أكثر صعوبة، لذلك تختلف قائمة الأفضل من طريقة لأخرى.
مجلة National Interest الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "أعظم 5 استراتيجيين عسكريين على الإطلاق"، رتب هؤلاء الخمسة من الخامس حتى الأول ورصد أسباب وحيثيات الترتيب والتصنيف.
اقرأ أيضاً
عملية معقدة وغامضة
إن تصنيف الاستراتيجيين العسكريين هو مهمةٌ غامضة ومليئة بالأفخاخ، فبعيداً عن الاختلافات الواضحة بين الاستراتيجيين -العصور التاريخية المختلفة التي عاشوا فيها، ووضع التكنولوجيا القتالية في حياتهم، وأساليب تدشين الحرب الرائجة آنذاك- هناك اختلافٌ أكثر أساسيةً، فبعض الاستراتيجيين هم ممارسون في المقام الأول، وآخرون هم مُنظِّرون بالأساس.
لذا كيف يمكن أن نحكم، على سبيل المثال، على عسكريٍّ في الميدان مثل الجنرال يوليسيس جرانت الذي كان يتجلَّى نهجه إزاء المعارك القتالية في "مبدأ الاستمرارية" لكارل فون كلاوزفيتز، مقارنةً بكلاوزفيتز نفسه، الذي كان عسكرياً حقَّق إنجازاته عن طريق رسائل شكَّلَت فكراً استراتيجياً حتى يومنا هذا؟ من الصعب أن نجري هذه المقارنة.
الغريب أنه يبدو أن العديد من العظماء ممارسون بدأوا في كتابة رؤاهم بعد هزيمتهم أو إنفاق أموالهم أو كليهما، إذ ربما يؤدي الفشل إلى صفاء الذهن. وهذا لا يكاد يجعل أفكارهم محل نقاش. وفي الواقع، عليك في نهاية المطاف أن تفضل هؤلاء المعلمين على الفاعلين الحقيقيين. إنهم ينقِّبون في السجل التاريخي -سجل أفعال القادة العظام- للتعرُّف على الفن الغامض للاستراتيجية. كان نابليون وفريدريك العظيم من الشخصيات الثابتة لدى كلاوزفيتز في كتابه "حول الحرب". ويمثِّل اللورد هوراشيو نيلسون وجهاً لنظريات القوة البحرية لألفريد ثاير ماهان. وثيوقيديدس لديه بريكليس، وألكيبيادس، وبراسيداس، وليساندر، وكثيرون غيرهم. إن الممارسين يزوِّدون المُعلِّمين بالبيانات من أجل التحليل والمُضي قُدُماً.
أنت بحاجةٍ إلى الفاعلين والاستراتيجيين على حدٍّ سواء من أجل تكريس الفِكر الاستراتيجي -ولكن في نهاية المطاف فإن المُفكِّر لديه إحساس بالحقائق القتالية يتفوَّق به على الممارس مع القليل من الموهبة لتحليل تجاربه، واستنباط الواجبات السريعة، وتسجيل النتائج. ومن ثم فإن صائغي الكلمات، وليس القادة، هم الذين يسيطرون على قائمة أعظم خمسة استراتيجيين عسكريين في التاريخ، وقد يشمل ترتيب الاستراتيجيين العصاميين رجال دولة محاربين من يوليوس قيصر إلى ناثنيال غرين إلى أبراهام لينكولن.
اقرأ أيضاً
هوميروس
عليك أن تحترم مؤلِّفاً تاهت هويته في العصور القديمة، لكن كتاباته لا تزال مُقنِعة. وكما يلاحظ لورانس فريدمان، فإن مؤرِّخ حرب طروادة كان من بين أول من اكتشف موضوعين مُهيمِنين في الفِكر العسكري: القوة الغاشمة في الاشتباكات على الخطوط الأمامية، والمكر والحيلة. من الشائع تصوير القوة الغاشمة باعتبارها الضغط المهيمن في الطريقة الغربية للحرب. وبالفعل، على مرِّ القرون، أعرب عددٌ لا يُحصَى من المحاربين والمُنظِّرين عن عدم ارتياحهم للأساليب التي بدت تفتقر إلى الشرف.
لكن هوميروس يذكِّر الأجيال اللاحقة بأن أوروبا لديها تقاليدها الخاصة في المراوغة والذكاء. هذه ليست منطقة صن تزو وأتباعه الآسيويين الغامضين. يرى فريدمان أخيل باعتباره وجه هذه القوة الغاشمة، والإلياذة باعتبارها سجلاً للنهج المباشر.
أما أوديسيوس المخادع فهو وجه المكر والحيلة، والأوديسة باعتبارها الموجز الذي قدَّمه هوميروس للمراوغة. حين تتفهَّم ذلك، يبدو أن الشاعر قد استنتج أن كلا الاتجاهين من الفِكر لا غنى عنهما -لكن الأفضل هو أن يُسخِّرهما القادة. وأوديسيوس أفضل من أخيل. هذا مسارٌ يستحق إعادة النظر لآلاف السنين مذاك الحين.
ثوقيديدس
نعود إلى عالم بحر إيجة لتناول رابع أفضل مفكِّر عسكري في التاريخ. قد يمنح الكثيرون ثوقيديدس مكانةً مرموقةً في هذه القائمة، وقد أوافق على أن هذه قائمةٌ من كبار الاستراتيجيين، لكن الأطروحة حول القوارب والرماح لا تجعل التصنيف خاصاً بالاستراتيجية العسكرية البحتة. ولا يوضِّح المؤرِّخ الأثيني أفكاره بوضوح مثل ويلي أو كوربيت أو كلاوزفيتز. ومع ذلك، فإن كلَّ شيءٍ موجودٌ في تاريخ ثيوقيديدس: القوة البرية التي تقاتل القوة البحرية، وأهمية التمويل في الحروب، وضرورة بناء تحالفاتٍ ودية وكسر الأعداء، وحسابات التفاضل والتكامل لفتح المساحات أو العمليات الثانوية، وأكثر من ذلك بكثير. إنها أعمالٌ لكلِّ الأزمان.
جاي سي ويلي
رجلٌ أبيض راحل آخر! كان الأدميرال ويلي يعمل بمثابة وكيل للاستراتيجيين غير الغربيين مثل صن تزو وماو تسي تونغ، الذين يفضِّلون الحذر، وكذلك وكيلاً للإنجليزي ليدل هارت، نبي القرن العشرين للنهج المراوغ.
وكان ويلي من ذلك النوع من الإاستراتيجيين الذين يستخدمون أفكار الآخرين لابتكار نظرية موحَّدة للاستراتيجيين. إنه يقسِّم الحرب إلى مدارس فكرية برية، وبحرية، وجوية، ومدرسة ماو، قبل أن يستنتج أن ليدل هارت الكبيرة -المراوغة- هي الفكرة الوحيدة التي تشملهم جميعاً.
جوليان كوربيت
كَتَبَ المنظِّر الإنجليزي للقوى البحرية العالمية -البحرية الملكية آنذاك، والبحرية الأمريكية الآن- لكن أيَّ قوة بحرية الآن، سواء كانت قوية أم ضعيفة، يمكنها أن تستخدم أفكاره في خدمتها. يعلن كوربيت أن فكرة أن الاشتباك الحاسم للأسطول هو الطريق إلى النصر في البحر صحيحة تسع مرات من أصل عشرة. ثم يقضي معظم كتاباته في تحليل المرة العاشرة المتبقية.
والمحصلة هي: يمكن للقوى البحرية أن تشن حروباً محدودة لتشكيل الأحداث على الأرض، وحتى القوي سيجد نفسه أضعف في أوقاتٍ خاصة وأماكن معينة، ولمعرفة كيف يمكن للضعفاء أن يجعلوا أنفسهم أقوياء -وأن يخرجوا منتصرين من الصراعات الوسطية بين السلام والحرب الشاملة- عليهم أن يسألوا السير جوليان.
كارل فون كلاوزفيتز
إنه المعلِّم الكبير. اشتهر بتقييم العلاقة بين السياسة والحرب والشؤون المدنية والعسكرية، ويرى أن الاستراتيجية هي استراتيجية عسكرية بالأساس. يتعلَّق الأمر باستخدام المعارك والاشتباكات لتعزيز الغرض من الحرب. فكِّر في المسح العام لساحة معركة نابليون -رؤيته مغمورة بالضباب ودخان المدافع، وهو يشرف على آلة عسكرية مثقلة وعواطف مظلمة- وستحصل على الفكرة.
وهناك سببٌ وراء أن الدورات التدريبية في الاستراتيجية العسكرية، سواء كانت غربية أو شرقية، تبدأ بكلاوزفيتز. وهناك سببٌ يدعو المُنظِّرين الآسيويين مثل ماو إلى دمج ذلك البروسي في تأمُّلاتهم في السياسة والحرب، ذلك لأنه يعبِّر عن منطقٍ وقاعدة عالمية للنزاع المُسلَّح. وذلك ما يستحق عليه أن يحتل المرتبة الأولى في القائمة.
الآن، سيحتج الكثيرون منكم على مَن وُضِعَ في هذه القائمة ومَن حُذِفَ منها، علاوة على الترتيب ذاته. حسناً، انطلقوا إلى هناك وانغمسوا في أعمالٍ تتعلَّق بالنظرية الاستراتيجية وأعدوا قائمةً خاصة بكم من الكتَّاب المختصين. إن وجهة رحلتك الفكرية أمرٌ مهم، لكن الرحلة نفسها تبدأ حيث التنوير.