على غرار ما حدث في سوريا وليبيا، أفضى التدخل التركي في الصراع الأذربيجاني الأرميني إلى دفع أرمينيا الطرف المتصلب في الصراع، إلى الجنوح للسلم، والدخول في مفاوضات تنازل فيها عن بعض شروطه.
فقد أعلن الرئيس الروسي عن توقيع اتفاق وقف إطلاق نار بين أذربيجان وأرمينيا يتضمن تثبيت الانتصارات العسكرية التي حققتها القوات الأذربيجانية وأدت إلى استعادة السيطرة على 5 مدن، آخرها شوشة، و4 بلدات وأكثر من 300 قرية، فضلاً عن تلال استراتيجية، وتسليم 3 محافظات تحتلها أرمينيا خلال فترة زمنية محددة.
أوجه التشابه بين الصراع الأذربيجاني الأرميني وبين ليبيا وسوريا
يبدو سيناريو الصراع الأذربيجاني الأرميني، به تشابه لافت للنظر للصراعين السوري والليبي.
ففي الحالات الثلاث، كانت هناك عدة ظروف تكاد تكون متطابقة.
طرف مدعوم من روسيا، هو بشار الأسد في حالة سوريا، وخليفة حفتر (المدعوم من قوى عدة أخرى أيضاً) وأرمينيا، (المدعومة من فرنسا أيضاً).
هذا الطرف في الأزمات الثلاث كان يرفض التفاوض ويحاول الحصول على كل شيء مستنداً لقوته العسكرية والدعم الخارجي، مع إقصاء تام للآخر.
في الأزمات الثلاث تدخل الأتراك عبر دعم فني وتزويد بالسلاح بالأساس، وإن كان في الحالة السورية في إدلب شارك الجيش التركي مباشرة في القتال.
وفي الحالات الثلاث، حدث تغير كبير في مشهد القتال، وتحولت هزائم حلفاء تركيا السابقة إلى انتصارات لافتة.
كان المتغير الأساسي لوجهة القتال هو الطائرات التركية المسيرة، التي تفوقت على سلاح روسي تقليدي مجرب سواء أنظمة الدفاع الجوي أو الدبابات والعربات المدرعة أو أنظمة الصواريخ المضادة للدروع المحمولة على الكتف، إضافة إلى المدفعية والصواريخ (إضافة إلى الطائرات الروسية المملوكة للنظام السوري).
ووصل الأمر إلى أن موقع المعرفة المشاعية ويكيبيديا وصف الطائرات المسيرة التركية، بأنها غيرت قواعد اللعبة في معركة إدلب، فلأول مرة في التاريخ العسكري يفرض جيش السيطرة الجوية على منطقة عبر الطائرات بدون طيار.
في الصراعات الثلاث، كان تكتيك تركيا وحلفائها متشابهاً، حيث تقوم الطائرات المسيرة أولاً بتدمير منصات الدفاع الجوي الروسية الصنع، فاتحة الطريق أم بقية أسرابها لاستهداف الدبابات والعربات المدرعة للمنافس (والتي تكون غالباً روسية الصنع، وتتميز بكثرة عددها عند حلفاء موسكو الذين يعتمدون على العقيدة العسكرية السوفييتية التي تركز على زيادة أعداد الدبابات والعربات المدرعة).
وفي الحالات الثلاث أعلن الأتراك بكل وضوح عن دعمهم للأطراف الصديقة لهم، ولم يحاولوا المواربة كما يفعل الروس والأوروبيون وبعض الدول العربية.
وكان مبررهم في ذلك أن الأطراف الأخرى تتلقى دعماً معروفاً للجميع من حلفائهم، رغم القيود الافتراضية على التسليح كما بدا واضحاً في حالة الدعم الإماراتي المصري الفرنسي لحفتر.
هدف أنقرة واحد في الأزمات الثلاث
وفي الحالات الثلاث رغم تصعيد أنقرة لخطابها، ومحاولات خصومها اتهامها بأنها تشعل الحروب (رغم أن بعض هذه الحروب بدأت قبل سنوات ولم يكن لتركيا دور فيها)، إلا أن هدف أنقرة كان دعم حلفائها لتقوية موقفهم التفاوضي، وبدء حوار سياسي يراعي حقوقهم، وفي الأغلب يراعي القرارات الدولية والاتفاقات المتعددة الأطراف.
وفي الحالات الثلاث، تحقق نجاح جزئي لأهداف أنقرة حتى الآن.
فالأطراف الليبية منخرطة في عدة مفاوضات، وتوقفت مغامرة حفتر الدموية في طرابلس، وهمش الجنرال العنيف حتى لو مازال موجوداً، ونتيجة التدخل التركي فإن القرارات الدولية المتعددة ومنها مؤتمر برلين بدأت تدخل حيز محاولة التطبيق على الأقل.
وفي أرمينيا بعد ربع قرن من فشل مجموعة مينسك في تحقيق أي تقدم في اتجاه حل الصراع الأذربيجاني الأرميني، حررت أذربيجان جزءاً من أراضيها وتعهدت أرمينيا بالانسحاب من المزيد منها.
وفي سوريا، يبدو الأسد أكثر من أي وقت مضى ملتزماً باتفاقات وقف إطلاق النار الذي تمخضت عنه المفاوضات الروسية الإيرانية التركية، عبر مسارات أستانا وغيرها.
لماذا يعادي الغرب والعرب أنقرة رغم تشابه المصالح؟
في الحالات الثلاث، يبدو الدور الغربي والعربي غريباً ومعاكساً لحقائق التاريخ والجغرافيا.
ففي معظم هذه الصراعات تتخذ الدول العربية والغربية مواقف مناهضة لمصالحها، وتبدو مواقفها نتيجة عناد وخصومة شخصية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ولأسباب أيدولوجية أكثر منها لأهداف استراتيجية.
ففي ليبيا وسوريا، وأذربيجان، يفترض أن المصالح الغربية متناقضة مع روسيا التي تحاول محاصرة أوروبا، فهيمنة موسكو على ليبيا أمر أخطر بكثير على مصالح القارة البيضاء من الدور التركي الداعم لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً، والصديق التقليدي لإيطاليا، والتي لعبت دوراً محوريا في التصدي للهجرة لأوروبا.
وفي سوريا يفترض أن نظام الأسد في حد ذاته هو خصم تقليدي للغرب إضافة إلى أنه وكيل مزدوج لإيران وروسيا غريمي الغرب الكبيرين.
وفي حالة الصراع الأذربيجاني الأرميني، أذربيجان خصم لإيران وحليف للغرب، وهي مصدر مهم للطاقة له، بينما أرمينيا بصرف النظر عن علاقتها التاريخية والدينية بالغرب، هي الدولة الأقرب لموسكو من بين الجمهوريات السوفييتية السابقة، ولا يفوقها في ذلك إلا نظام الرئيس لوكشينكو في روسيا البيضاء الذي يناصبه الغرب العداء.
ولكن كثيراً من الأطراف الأوروبية لاسيما فرنسا، تجعل المشكلة في الأزمات هي تركيا، وتتجاهل المخاطر التي تشكلها روسيا على أوروبا.
وبالنسبة للدول العربية، فإنه يفترض أن الأسد الموالي لإيران والذي يقوم بعملية تطهير طائفي للسنة العرب في سوريا يمثل خطراً على الأمة العربية كلها، ويفترض أن الأذربيجانيين المسلمين أقرب إليهم من الأرمن، ولكن الخلاف الأيديولوجي بين مصر والإمارات والسعودية يطغى على كل هذه الاعتبارات التاريخية والاستراتيجية الحيوية.
لكن الأغرب موقف روسيا.. لماذا قبلت إهانة سلاحها؟
غير أن أغرب ما في الحالات الثلاث، هو الموقف الروسي، وقبول موسكو اللافت للانتباه، لتفوق السلاح التركي على نظيره الروسي، والأهم هزيمة حلفائها المقربين، خاصة الأسد وأرمينيا أمام حلفاء أنقرة.
فهل قبول موسكو لإهانة سلاحها وحلفائها هو محصلة فقط لتفوق الطائرات التركية المسيرة على الأسلحة الروسية، فقط أم أن الأمر أعقد من ذلك بكثير.
تبدو طبيعة التنافس التركي الروسي مركبة.
ففيه إحياء للعداء التاريخي بين البلدين، والذي تجدد في العديد من الساحات القديمة (يبدو التدخل الروسي التركي في صراع القوقاز تحديداً استحضاراً لافتاً للانتباه للتنافس الذي دام قروناً بين القياصرة والعثمانيين والإيرانيين في هذه المنطقة وأيضاً للتنافس بين القياصرة والعثمانيين في البلقان).
ولكن يتداخل في هذا التنافس الروسي التركي أشياء عدة أخرى.
أبرزها رغبة روسيا في إبعاد تركيا عن الغرب، وهي الرغبة التي تحققت بالأساس جراء الخذلان الغربي لتركيا، الذي ظهر في تخلي الغرب عن دعم أنقرة في مواجهة روسيا في بداية تدخل موسكو العسكري في سوريا، الذي وصل لأزمة بين البلدين بلغت ذروتها في انتهاك الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي، ثم إسقاط أنقرة لطائرة روسية الذي تزامن مع سحب دول الناتو صواريخ باتريوت من الأراضي التركية.
تبع ذلك الموقف المتخاذل للاتحاد الأوروبي من الانقلاب العسكري في تركيا.
ومنذ ذلك حدث تقارب روسي تركي لافت وصل إلى شراء أنقرة لصواريخ إس 400.
ورغم هذا التقارب استمر التنافس بين البلدين في ميادين عدة وهو تنافس قارب المواجهة في الحالة السورية، ولكن اللافت أن البلدين استطاعا إدارة هذا التنافس بشكل غريب ولم تنقطع الاتصالات بينهما في أسوأ الظروف والأهم أنهما واصلا التفاوض واستخدام الأدوات العسكرية في آن واحد.
تبدو الرغبة الروسية في إبعاد تركيا عن الغرب جامحة لدرجة أنها يمكن أن تتغاضى عن الانتصارات التركية المحرجة خاصة أن الأتراك يسعون من هذه الانتصارات بالأساس إلى إعادة حلفائهم أقوياء إلى مائدة التفاوض.
والسمة الرئيسية للنزاعات الثلاثة، هي تهميش الدور الغربي، لاسيما الأوروبي، وكذلك العربي.
وإن نتيجة كل من هذه النزاع هي تفوق تركي يؤدي إلى تقوية موقف حلفاء أنقرة في التفاوض، دون هزيمة كاملة لحلفاء موسكو.
تقليم أظافر الأطراف المتصلبة
وفي الحالات الثلاث، يبدو أن موسكو تترك مساحة لتركيا تؤدب حلفاءها ذوي الطبيعة المتصلبة والمغالية في مطالبها مثل حفتر والأسد وأرمينيا للوصول لاتفاق.
لا يعرف هل هذه المساحة التي تركتها روسيا جاءت لأنها مرغمة أمام جرأة التدخل التركي وفعالية طائراته المسيرة أم أن أحد أسبابها رغبة موسكو في معاقبة حلفائها على تصلبهم، ودفعهم لتقليل مطالبهم ليتسنى التفاوض على حل مستدام.
ففي الحالة السورية، يرفض الأسد أي تفاوض ويريد الانفراد بالسلطة التي جاءته عبر الدعم الإيراني الروسي ضارباً عرض الحائط بكل الاتفاقات التي أبرمها رعاته الروس والإيرانيون مع أنقرة.
بل إنه يحاول استغلال النجاحات الروسية الإيرانية لترسيخ مشروعه الطائفي الذي يهدف لخلق سوريا بها أقل قدر ممكن من السنة العرب.
ولذا كان لافتاً الحوار الذي أطلقه بوتين مع الأسد على الهواء مؤخراً والذي دعاه فيه إلى إعادة اللاجئين السوريين (أغلبهم من السنة العرب) مقابل رفع العقوبات الدولية.
بدا هذا الحوار رسالة روسية في مواجهة رغبة الأسد أن تواصل موسكو وطهران المثقلتين بالعقوبات دعم اقتصاده المتهاوي لأنه لا يريد تطبيق أي إصلاحات تفشل مشروع التطهير الطائفي.
وفي حالة حفتر فإن الجنرال الذي فشل في اقتحام طرابلس بعد حصار أكثر من عام، رفض بصلف وهو في قلب موسكو عرضاً روسياً تركياً للسلام، وبعدها كان لافتاً أن بعد هذه المواقف بفترة قصيرة ألحقت قوات الوفاق به هزيمة منكرة.
في الحالة الأرمينية، فإن يريفان تريد كل شيء، فهي لا تحتل فقط إقليم ناغورنو قره باغ فقط، بل 20% من الأراضي الأذربيجانية منها مناطق كثيرة كانت ذات أغلبية أذرية، وتريد مواصلة دعم روسيا لها مع مغازلتها للغرب.
وهي تتهم أذبيجان بالاستعانة بالمتطرفين لأنها تحاول استعادة أراضيها، وتهاجم تركيا وتحذر من أطماعها لأنها تدعم باكو، في حين أن أرمينيا لم تقدم أي تنازل عبر ربع قرن من التفاوض.
بالنسبة لروسيا فإنه رغم أهمية أرمينيا البالغة بالنسبة لها، وعلاقتهما التاريخية الوثيقة التي تعود لقرون مضت، فإنها أيضاً لديها مصالح مع أذربيجان وتركيا، وإذا طاوعت موسكو التصلب الأرميني، فإن هذا سيضعف علاقتها مع أذربيجان أكثر من ذي قبل.
فموسكو لم تعمل في البداية على وقف الصراع، في خطوة رأى فيها مراقبون أنها تسعى لمعاقبة رئيس الوزراء باشينيان على سياساته المحابية للغرب"، وفقاً لخبير السياسات الخارجية في مركز "سيتا" التركي للأبحاث والدراسات محمد جغطاي غولر.
وأضاف غولر: "منذ فترة طويلة وإدارة الكرملين تشعر بعدم الارتياح من الحكومة الأرمينية ورئيسها نيكول باشينيان وسياساته، إلا أن روسيا استمرت في دعم الإدارة الأرمينية رغم ذلك".
ورغم أن موسكو تقف إلى جانب يريفان في جميع نزاعاتها تقريباً مع باكو، لاسيما خلال نزاع توفوز الأخير، عبر إرسالها الأسلحة إلى أرمينيا، كما قال الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف وقتها، إلا أنه يلاحظ أن التدخل الروسي لصالح يريفان كان له حدود في هذه الأزمة، ولم يؤدِّ هذا الدعم إلى تغيير موازين الصراع لصالح أرمينيا.
ولكن اللافت أكثر هو إعلان روسيا أنها لن تتدخل إلا إذا أصبحت أراضي أرمينيا نفسها معرضة للخطر، وليس إقليم ناغورنو قره باغ الإقليم الذي يدور فيه أغلب القتال.
وكان هذا بمثابة رسالة للطرفين، رسالة لأذربيجان لعدم توسيع القتال، ورسالة لأرمينيا أن تقدم تنازلات، لأن وتيرة القتال لا تسير لصالحها.
وبتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين البلدين برعاية روسية، فإن هذا هو الصراع الثالث الذي يفرض فيه وقف إطلاق نار نتيجة التدخل التركي وبشروط أفضل كثيراً لحلفاء أنقرة وبتنسيق لا يعرف حجمه بالكامل مع الجانب الروسي، وبتهميش شبه كامل للغرب.