رغم عدم اعتذاره فإن حديث الرئيس الفرنسي ماكرون لقناة الجزيرة بدا فيه قدر من التراجع من قبل ماكرون عن مواقفه السابقة، ولكن من الصعب معرفة هل هذا بداية لتغيير في سياسته تجاه المسلمين في بلاده وقضايا المنطقة أم مجرد محاولة لتخفيف حدة المقاطعة؟
فخطاب ماكرون على مستوى الشكل أو المضمون بدا فيه تراجع واضح حتى لو تمترس خلف ادعاء أن تصريحاته قد حرفت.
ولكن الواقع أن تصريحات ماكرون السابقة المثيرة للجدل سواء تلك المتعلقة بالرسوم المسيئة للرسول أو إعلانه الحرب على ما يسميه الانفصالية الإسلامية، كانت استهدافاً للمسلمين مهما حاول البعض منهم عرباً ومسلمين إنكار ذلك.
وليس أدل على أنها كانت تستهدف المسلمين من تعليق زعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلينشون على حديث ماكرون عن قوانين محاربة ما يسميه الانفصالية الإسلامية بأنه كان خطاباً معادياً للمسلمين.
رسائل حديث الرئيس الفرنسي ماكرون لقناة الجزيرة
في حوار ماكرون مع قناة الجزيرة رغم إلقائه اللوم على من حرفوا كلامه، فإن خطابه شهد تراجعات واضحة قد تؤشر إلى تغيير محتمل في سياسة فرنسا.
فأولاً اختيار ماكرون لقناة الجزيرة فيه إيماءة إيجابية تجاه التحالف التركي القطري، خاصة في ضوء توتر علاقته تحديداً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسبقه إعلان فرنسا تضامنها مع تركيا واليونان بعد الزلزال الذي ضرب البلدين، ثم تبع الحديث مباشرة إعادة للسفير الفرنسي في أنقرة بعدما كان قد سُحب إثر تصريحات الرئيس التركي الذي قال فيها إن ماكرون يحتاج إلى مراجعة قواه العقلية، وقالت الخارجية الفرنسية إنها أعادت السفير بسبب الإدانة التركية التي لا لبس فيها للعملية الإرهابية التي شهدتها فرنسا، علماً بأن أنقرة تدين عادة أي عملية إرهابية بنفس المستوى.
ويظهر هذا أن ماكرون لا يريد فقط مصالحة مجمل المسلمين بعد الضجة التي أثارتها تصريحاته بل تحديداً تركيا، بل إن انتقاداته لسياسات أنقرة سبقتها إشادة كبيرة بتركيا، وغلفت الانتقادات لمواقف أردوغان رغم حدتها، بالتأكيد على أن البلدين ضمن تحالف كبير.
نأى بنفسه عن الرسوم المسيئة للرسول
واللافت أيضاً أن ماكرون سعى إلى تأكيد على علاقة فرنسا بالعالم الإسلامي ونأى بنفسه عن الرسوم المسيئة للرسول والتأكيد على أنه من واجبه أن يحمي حرية التعبير لكن ذلك لا يعني موافقته على الرسوم، وهو موقف كان يجب أن يتبناه منذ البداية.
وحتى في رده على إشكاليات العلمانية الفرنسية مع الإسلام بدا ماكرون أحياناً يدافع عن النموذج الفرنسي بحدة، وأحياناً أخرى يتبنى خطاباً اعتذارياً مردداً مرتين تعبير "ما يسمى بالعلمانية"، والتأكيد أن جذورها ظهرت في مواجهة الكاثوليكية وليس الإسلام.
وعندما تحدث عن الحجاب، لم يهاجمه أو يربطه بالتطرف أو الإسلام السياسي، بل أشار إلى أنه مسموح في الشارع، (هو ممنوع في الأماكن الحكومية).
أدرك التكلفة الباهظة
كان واضحاً أن ماكرون قد بدأ يدرك التكلفة الباهظة على فرنسا بمسلميها وكافة مواطنيها جراء التوتر الاجتماعي الناتج عن سياساته، وتبنيه خط المغالاة في العلمانية، وهي في الحقيقة عودة لخطابه القديم الذي كان يتبناه قبل انتخابه رئيساً.
بل إن الأمر وصل إلى إطراء طفيف على النموذج الأنجلوساكسوني الأكثر تكيفاً مع الأديان، ومنها الإسلام في رده على تساؤلات الجزيرة، حتى لو عاد وحاول انتقاد العلاقة المترابطة بين الكنيسة والدولة في بريطانيا، ملمحاً إلى أن النموذج البريطاني لا يوفر نفس الفرص التي يوفرها النموذج الفرنسي للمسلمين (متناسياً أن عمدة لندن في ظل هذا النموذج مسلم من أصل باكستاني).
كما تراجع ماكرون في حديثه عن المقاطعة بقوله إنها غير لائقة مقارنة ببيان الخارجية الفرنسية الحاد، الذي طالب حكومات الدول الإسلامية بصيغة الأمر، بوقف المقاطعة التي قالت إن من يدعو إليها أقلية متطرفة.
ولم يهاجم الإسلام السياسي
ولكن اللافت أكثر أن ماكرون ركز في هجومه على ما سماه الجماعات المتطرفة، والإرهابية، وهو مصطلح مرتبط بالسلفية بفرعيها الجهادية وغير الجهادية، مقابل عدم هجومه على الإسلام السياسي وهو الهجوم الذي ميز خطابه في المرحلة الأخيرة، وغالباً ما يقصد به الإسلام التركي المرتبط بحزب العدالة والتنمية والمجموعات الإسلامية المقربة للإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية العربية الوسطية.
وتقليدياً كانت الأنظمة الغربية ترى في هذه المجموعات من الإسلام السياسي المعتدل (حتى لو لم ترتَح لها) وسيطاً مناسباً بين الدول الغربية والمجتمعات الإسلامية المهاجرة، ووسيلة لاستيعاب العاطفة الإسلامية مع ضمان نسبي لعدم انضمام الشباب المنضوي تحت لوائها للجماعات السلفية الجهادية أو على الأقل الجماعات السلفية التي تدعو مسلمي الغرب للانعزال تماماً عن محيطها.
وكان أبرز من تبنى هذا التوجه، الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي.
ولكن توتر العلاقة بين أوروبا وأردوغان لأسباب متعددة منها ما اعتبرته تركيا تدخلاً أوروبياً في شؤونها، أو تراجعاً في تعهدات بروكسيل.
ولكن العامل الأهم في التحول الفرنسي صوب العداء لما يسميه ماكرون الإسلام السياسي، أنه جاء مرتبطاً بتحالف فرنسا مع الثلاثي العربي الإمارات ومصر والسعودية، والذي تعزز في السنوات الأخيرة، بحيث باتت تتطابق مواقف باريس تقريباً مع الدول الثلاث في كثير من القضايا أبرزها ليبيا وشرق المتوسط، وإلى حد ما سوريا، كما بدا لافتاً أن ماكرون ينتقد أردوغان والإسلام السياسي وإيطاليا وجهات عدة دون انتقاد استبداد الأنظمة العربية.
وهو الأمر الذي جعل بعض وسائل الإعلام الغربية تصف ماكرون بصديق المستبدين العرب.
وإضافة إلى متغير الانتخابات ورغبة ماكرون في مغازلة الناخبين اليمينيين، إلى جانب حساسية العلمانية الفرنسية إزاء التدين بصرف النظر عن كونه متطرفاً أو غير متطرف، (ما علاقة التطرف بالأكل الحلال أو ارتداء الحجاب)، إضافة إلى ميل غريزي للعلمانية الفرنسية للعداء للدين تحول مؤخراً للعداء للإسلام بالأكثر وهو أمر سبق أن انتقده ماكرون نفسه خلال حملته الانتخابية.
هل تقف الدولة الفرنسية العميقة وراء هذا الموقف؟
ويبدو أن صدمة فرنسا من رد فعل العالم الإسلامي وتحول الأزمة إلى مشكلة خارجية وداخلية، قد دفعت الرئيس الفرنسي لمحاولة عمل ردة فعل عكسية تبدو غريبة على طبيعته المتصلبة، ولا يعرف مدى صدقيتها وهل هي من بنات أفكاره أم من تأثيرات الدولة الفرنسية العميقة، والتي شعرت بالقلق من تضرر مصالح باريس مما يحدث.
فلأول مرة يجد عدد وازن من السياسيين الفرنسيين، أنفسهم في موقع العجز عن الدفاع عن الرئيس الفرنسي، وهم يرون بأم أعينهم أن تصريحاته لا تضره فقط، بل تعرض مصالح فرنسا للخطر.
فباستثناء التيار اليميني المتطرف الذي يستثمر الفرصة لتعزيز عائداته الخاصة، لا عائدات الرئيس الفرنسي، باستثناء هذا التيار الذي يدعو إلى التصعيد بدعوة الدولة الفرنسية لرد الفعل في التعامل مع المقاطعين، فإن ثمة قلقاً ينتاب النخب الاقتصادية الفرنسية من حملة المقاطعة، وقدرة تركيا وبعض دول الخليج على إعطائها زخماً كبيراً، قد يصل إلى دفع الشركات الفرنسية المتضررة إلى الاحتجاج على الموقف الصادر من الرئيس الفرنسي.
فقد جربت إحدى الشركات الفرنسية كلفة مقاطعة الشعب المغربي لمنتجاتها، وكيف اضطرت إلى بناء استراتيجية تواصلية بعيدة المدى من أجل إيقاف النزيف المالي، ولا تزال إلى اليوم شركة سنطرال دانون الفرنسية، تعاني من آثار هذه المقاطعة إلى اليوم.
ووزن مصالح فرنسا في العالم الإسلامي خاصة في العالم العربي وإفريقيا أكبر من وزن مصالح أي دولة غربية.
فصادرات السيارات الفرنسية، خارج أوروبا تكاد تقتصر على إيران والعالم العربي وإفريقيا (إضافة لأمريكا اللاتينية) فبينما تعزز الشركات الألمانية والأمريكية وجودها في السوق الصيني أكبر سوق سيارات في العالم، فإن شركة رينو أعلنت عزمها الخروج من الصين، ويعتقد أن شركة بيجو تستعد لقرار مماثل.
كما أن لدى شركات النفط والتعدين الفرنسية مصالح في العالم العربي وغرب إفريقيا، وهي مصالح لن تتأثر بالمقاطعة بل بما هو أخطر جراء جو العداء في بلاد تعاني أغلبها من ترهل أمني، مما يجعل الحكومات الصديقة لفرنسا غير قادرة في الأغلب على حماية مصالح الشركات الفرنسية.
يبدو حديث ماكرون من حيث المحتوى محاولة لتوصيل رسالة مفادها التراجع الجزئي عن هذه السياسة دون اعتذار، ولكن السؤال هل ما يحدث هو تراجع فعلي أو محاولة لامتصاص التوتر ودعوات المقاطعة ثم العودة مرة ثانية لسياسات استهداف المسلمين، وتبني نفس توجهات الإمارات والسعودية، ومصر.
الأشهر القادمة هي التي ستجيب عن هذا السؤال: هل تنحاز فرنسا للحرية التي ترفع لواءها وتختار القبول بفكرة التنوع الثقافي؟ أم تواصل السير قدماً في فكرة المجتمع ذي اللون الواحد المتحالف مع المستبدين العرب؟