بقيت القضية القبرصية أزمة معلقة في شرق المتوسط، بسبب مواقف أطراف النزاع المتضاربة، فلم يتم التوصل إلى أي نتائج ملموسة في المفاوضات القبرصية المستمرة منذ 52 عاماً، بهدف إيجاد حل عادل ودائم للقضية.
بدأت قضية قبرص تظهر في جدول أعمال المجتمع الدولي عام 1963، عندما حاول القبارصة الروم الاستيلاء على كافة أجهزة الدولة، واستبعاد القبارصة الأتراك من "دولة الشراكة" التي تأسست عام 1960، والتخلي عن مبدأ العيش المشترك بين العنصرين المكونين لدولة قبرص، الأتراك والروم.
اختفت دولة الشراكة "جمهورية قبرص"، بعد استخدام الروم القوة من جانب واحد وإلغاء العمل بالدستور عام 1963. فبدأ الروم بتمهيد الطريق للوحدة السياسية مع اليونان، وزادوا من الهجمات والضغط على القبارصة الأتراك حتى عام 1974، من أجل تحقيق هذا الهدف ودفعهم لترك الجزيرة.
بدورها، أطلقت تركيا في 20 يوليو/تموز 1974، عملية عسكرية في الجزيرة باسم "عملية السلام"، من أجل وضع حد للاعتداءات المسلحة ضد القبارصة الأتراك في الجزيرة وإحلال السلام، وقد رسمت هذه العملية الحدود الحالية بين الشطرين التركي والرومي.
مفاوضات بلا نتيجة
وفيما يتعلق بالمفاوضات بين الطرفين التركي والرومي في قبرص، فقد بدأت المفاوضات الأولى بينهما في العاصمة اللبنانية بيروت، في يونيو/حزيران 1968، أعقبتها جولات جديدة من المفاوضات أُجريت داخل الجزيرة. وعلى الرغم من دخول المفاوضات القبرصية في حلقة مفرغة من وقت لآخر، فإن تلك المفاوضات استمرت طيلة السنوات الـ52 الماضية.
وبينما برز العديد من القادة والأمناء العامّين للأمم المتحدة والدبلوماسيين والممثلين الدوليين في صدارة المفاوضات القبرصية، جرى تقديم وطرح نماذج مختلفة ومقترحات حلول على جدول أعمال حل القضية القبرصية، في الوقت الذي واصل فيه الجانبان القبرصيان مناقشة مواضيع تتعلق بالحوكمة وتقاسم السلطة، ووضع الدولة داخل الاتحاد الأوروبي والاقتصاد والممتلكات والأمن والضمانات والترتيبات الإقليمية.
وتواصلت المفاوضات بين الجانبين، استناداً إلى مبدأ حل فيدرالي ثنائي لمنطقتين ومجتمعين تقوم العلاقة بينهما على المساواة السياسية، وفق معايير الأمم المتحدة، وخلال هذه العملية، تعامل الجانب القبرصي التركي مع مقترحات حل الأمم المتحدة بطريقة بناءة، بينما لم يساهم الجانب الرومي في إنجاح مقترحات الأمم المتحدة من خلال التمسك بموقفه المتصلب، ورفضه مبدأ المشاركة مع القبارصة الأتراك في مستقبل الجزيرة.
لهذا السبب، فشلت الجهود الأممية طيلة السنوات الـ52 الماضية، في جمع الطرفين على حل مشترك يستند إلى حل فيدرالي ثنائي لمنطقتين ومجتمعين، تقوم العلاقة بينهما على المساواة السياسية.
دنكتاش يقضي 36 عاماً على طاولة المفاوضات
الرئيس الراحل رؤوف دنكتاش، الرئيس المؤسس لجمهورية شمال قبرص التركية، قضى 36 عاماً على طاولة المفاوضات، مفاوضاً نيابة عن المجتمع القبرصي التركي في مفاوضات استمرت (إجمالاً) 52 عاماً.
وفي المقابل تناوب كل من جلافكوس كليريدس، ومكاريوس، وسبيروس كيبريانو، ويورجوس فاسيليو، وثاسوس بابادوبولوس على الجلوس في الطرف المقابل لـ"دنكتاش".
وتولَّى خليفة الرئيس القبرصي دنكتاش، محمد علي طلعت في الرئاسة، وأجرى مفاوضات مع بابادوبولوس وديمتريس كريستوفياس، فيما تفاوض الرئيس الثالث لجمهورية شمال قبرص التركية درويش أر أوغلو، مع خريستوفياس ونيكوس أناستاسيادس، والرئيس الرابع مصطفى أقينجي مع نظيره أناستاسيادس.
وكرّس أمناء الأمم المتحدة يو ثانت، وكورت فالدهايم، وبيريز دي كويلار، وبطرس غالي، وكوفي عنان، وبان كي مون، وأخيراً أنطونيو غوتيريش، الذي لا يزال في منصبه، جزءاً كبيراً من عملهم لمتابعة المفاوضات القبرصية التي لم تسفر عن التوصل إلى حل دائم.
الفترات التي زاد فيها الأمل بالتوصل لحل
خلال عملية المفاوضات القبرصية التي استمرت لأكثر من نصف قرن، زادت الخطوات المتخذة ونماذج الحل المطروحة من الأمل في التوصل إلى اتفاق، لكن النهج المتطرف للجانب الرومي، والإصرار على عدم تقاسم الإدارة والثروات مع القبارصة الأتراك حالت دون قيام شراكة محتملة.
وتبرز خطة عنان كواحدة من الفترات التي ازدادت فيها الآمال للتوصل إلى حل محتمل في قبرص، في هذه الفترة قدّم الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق كوفي عنان عام 2002، وثيقة "أساس الحل الشامل لمشكلة قبرص"، والمعروفة أيضاً باسم "خطة عنان"، التي تضمّنت استكمالاً للنقاط التي لم يتمكن الطرفان من الاتفاق عليها ووضع لمسات أخيرة على وثيقة متكاملة.
تم تقديم هذه الوثيقة للاستفتاء من قبل المجتمعين القبرصيين التركي والرومي، وتضمَّنت الخطة أن تكون الشراكة الجديدة ذات جانبين، وأن يعترف الجانبان بالهوية المتميزة لكل منهما، وأن يتعهد الطرفان بأن يحترما بعضهما البعض بشكل متبادل، بما في ذلك الهوية الثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية لبعضهما البعض.
من ناحية أخرى، تضمّنت الخطة استقلال الدولتين المكونتين للاتحاد القبرصي في قرارهما الداخلي وممارستهما سلطاتهما على أراضيهما الإقليمية، دون تدخل الحكومة الفيدرالية في سلطاتهما.
وعقد دنكتاش والزعيم الرومي آنذاك بابادوبولوس اجتماعات مختلفة في إطار "خطة عنان"، وقدّمت الخطة للاستفتاء من قبل مجتمعي الجزيرة في 24 أبريل/نيسان 2004.
وبينما رفض 75.83% من القبارصة الروم خطة عنان، وافق 64.91% من القبارصة الأتراك على الخطة، مؤكّدين مرة أخرى رغبتهم في تحقيق حل دائم لقضية الجزيرة.
من ناحية أخرى، ومباشرة بعد الاستفتاء، أي في 1 مايو/أيار 2004، حصلت الإدارة الرومية على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي تحت اسم "جمهورية قبرص"، متجاهلة الشريك الآخر في الجزيرة.
كرانس مونتانا
ويعتبر مؤتمر قبرص، الذي بدأ بمدينة "كرانس مونتانا" السويسرية في 28 يونيو/حزيران 2017، واستمر لمدة 10 أيام، حدى المراحل المهمة التي شكلت مبعثاً للأمل في اقتراب الجانبين من التوصل إلى حل دائم للقضية القبرصية.
وعقد المؤتمر بمشاركة الدول الضامنة تركيا واليونان وبريطانيا، والأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش، الذي قدم خطة للحل بعنوان "الأرض والمساواة السياسية والممتلكات، والضمانات والأمن". فيما قدم الجانبان التركي والرومي مقترحاتهما في خمسة نقاط أساسية، والدول الضامنة قدمت مقترحاتها تحت عنوان "الامن والضمانات".
رفض الجانب القبرصي الرومي في كل مرة الخطوات التي تهدف لتحقيق حل دائم، بما في ذلك مقترحات الأمم المتحدة، لأسباب مختلفة أو طرح شروطاً مسبقة غير مقبولة.
بدوره أعلن غوتيريش أن المؤتمر انتهى بالفشل بسبب رفض الجانب القبرصي الرومي تقديم تنازلات تتعلق بنزع السلاح في الجزيرة وتقديم ضمانات للجانب القبرصي التركي.
وهكذا، وعلى الرغم من الدور البناء للجانب القبرصي التركي في المؤتمر، لم يتم التوصل إلى نتائج ملموسة وحل دائم بسبب المواقف المتعنتة التي أبداها الجانب الرومي.
وعلى الرغم من استمرار الاجتماعات الثلاثية بين أقينجي وأناستاسياديس بوساطة الأمين العام للأمم المتحدة اعتباراً من نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، لم تسفر تلك الاجتماعات عن أي نتائج لإيجاد حل للقضية.
القضية القبرصية في عهد أرسين تتار
وفي الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي أجريت في جمهورية شمال قبرص التركية في 18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تم انتخاب أرسين تتار، مرشح حزب الوحدة الوطنية في قبرص التركية، رئيساً للجمهورية بعد حصوله على نسبة أصوات بلغت 51.69 في المئة من أصوات الناخبين.
ومن المتوقع، حدوث تحول نوعي في المفاوضات القبرصية مع انتخاب تتار لرئاسة جمهورية شمال قبرص التركية، لاسيما وأن تتار يرى أن "النموذج الاتحادي" لم يعد يشكل أملاً في إنهاء القضية القبرصية، ويدعم مناقشة إنهاء هذه القضية استناداً إلى دولتين سيتم تأسيسهما على أساس المساواة في السيادة والعيش جنباً إلى جنب.
بدورها تركيا أيضاً، أعلنت أن مقترح "النموذج الاتحادي" الذي طرحه مؤتمر "كرانس مونتانا" قد انهار تماماً، مشددة على ضرورة تناول خيارات أخرى أكثر واقعية لحل القضية القبرصية.
وأشار وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، في تصريح سابق، أن القبارصة الأتراك ضاقوا ذرعاً من الدخول في مفاوضات غير مثمرة وغير مجدية لا تفضي إلى نتائج ملموسة، لذلك لا بد من إعطاء الأولوية للخيارات الأخرى.
ومن المتوقع أن تعقد الدول الضامنة، تركيا واليونان وبريطانيا، اجتماعا غير رسمي بصيغة "5+1″، برعاية الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن تتضح في الأيام المقبلة تفاصيل الاجتماع المرتقب.
وتتزامن هذه التطورات، مع افتتاح قبرص التركية مطلع الشهر الجاري، جزءً من منطقة "مرعش" المغلقة بمدينة "غازي ماغوصة" شرقي البلاد، بعد إغلاق دام 46 عاماً.
وتجدر الإشارة أن منطقة "مرعش" هي منطقة سياحية تقع بمدينة "غازي ماغوصة" بجمهورية شمال قبرص التركية، على الخط الفاصل بين شطري قبرص، حيث بقيت مغلقة أمام الزوار والسكان منذ 46 عاما، وكانت من أشهر المناطق السياحية في الجزيرة والبحر المتوسط قبل عام 1974.