أن تأتي متأخراً أفضل من ألّا تأتي أبداً.. مجلس حكماء المسلمين ينوي رفع دعوى قضائية ضد صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية، بسبب نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، رغم مرور 15 عاماً على نشر صحيفة دنماركية تلك الرسوم أول مرة، فماذا تقول القوانين الأوروبية عموماً والفرنسية خصوصاً عن الإساءة للأديان؟
تحرُّك قانوني يضع الأمور في نصابها
يمكن القول إن الحملة الشعبية لمقاطعة كل ما هو فرنسي قد حقَّقت نتائجَ مهمة في الأيام القليلة الماضية منذ انطلاقها؛ فعلى المستوى الرسمي في الدول العربية والإسلامية عبرت السعودية والأردن والجزائر عن استيائها رسمياً من الإساءة للرسول، وانضمت بذلك إلى المغرب وتركيا وباكستان ودول أخرى، ما يشير إلى تشكل موقف رسمي يلحق بالمشهد الشعبي الغاضب، ويذكّر بما حدث قبل 15 عاماً عندما نشرت صحيفة دنماركية تلك الرسوم المسيئة للرسول أول مرة.
ويأتي إعلان مجلس "حكماء المسلمين"، الإثنين 26 أكتوبر/تشرين الأول، عن نيته رفع دعوى قضائية ضد الصحيفة الفرنسية، ليمثل تحركاً قانونياً مهماً لوضع نهاية لتلك القصة التي طال أمدها، وتسبّبت في كثير من المآسي وفقدان الأرواح، وحان وقت حسم الجدل من الناحية القانونية بين حرية التعبير واحترام الأديان والعقائد وفضّ الاشتباك بينهما إن أمكن.
مجلس حكماء المسلمين، يرأسه شيخ الأزهر أحمد الطيب، أعلن أن أسلوب مواجهة الإساءة للنبي محمد سيكون من خلال "القضاء وبالطرق القانونية، إيماناً من المجلس بأهمية مقاومة خطاب الكراهية والفتنة بالطرق السلمية والعقلانية والقانونية"، كما أدان المجلس حادثة مقتل المدرس الفرنسي الذي قام بعرض صور كاريكاتيرية للنبي محمد، وكذلك الاعتداء بالطعن والشروع في قتل سيدتين مسلمتين قرب برج إيفل، مشدداً على أن "كل هذه الحوادث هي إرهاب بغيض أياً كان مرتكبها، وكيفما كانت دوافعها".
ماذا تقول القوانين الأوروبية؟
كانت قوانين الدول الأوروبية تنصُّ على تجريم الإساءة للرموز الدينية صراحةً، لكن في العقود الأخيرة ظهرت إشكاليات تتعلق بتناقضات بين بنود تجريم الإساءة للأديان من ناحية وبنود تنص على حرية التعبير من ناحية أخرى، فقامت بعض الدول، ومنها فرنسا، بإلغاء البنود التي تجرّم الإساءة للرموز الدينية، بينما دول أخرى لا تزال تلك البنود سارية فيها، لكن نادراً ما يتم تطبيقها، إما لندرة ذلك النوع من الدعاوى، أو لأسباب أخرى تتعلق بطريقة تكييف الدعوى من الناحية القانونية.
ففي القانون الجنائي النمساوي تعتبر الإساءة للدين عملاً مخالفاً للقانون، وهذا منصوص عليه في البندين 188 و189 من القانون الجنائي هناك، والأمر ذاته موجود في البند 10 من القانون الجنائي في فنلندا، والبند 166 من القانون الجنائي في ألمانيا، والبند 147 في القانون الجنائي في هولندا، والبند 525 في القانون الجنائي في إسبانيا، كما توجد بنود مشابهة أيضاً في إيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد صدر حكم من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قبل عامين، ربما يكون مرجعاً في قضية الرسوم المسيئة للرسول تحديداً.
حكم أوروبي يجرّم الإساءة للرسول
أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قبل عامين حكماً برفض استئناف سيدة نمساوية على قرار محكمة محلية في النمسا بإدانة السيدة (التي لم يتم ذكر اسمها) بالإساءة للنبي محمد وتغريمها، في قصة كانت قد بدأت عام 2011.
وكانت السيدة النمساوية قد تحدثت في أحد التجمعات السياسية في النمسا، وذكرت واقعة زواج الرسول من السيدة عائشة، واصفةً ذلك بأوصاف اعتبرها بعض الحضور من المسلمين تمثل إساءة لنبي الإسلام، فقاموا برفع دعوى قضائية أمام محكمة محلية، أصدرت حكمها بإدانة السيدة النمساوية وتغريمها، بحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية.
السيدة النمساوية استأنفت على الحكم في درجة أعلى من التقاضي في النمسا، لكنها خسرت مرة أخرى، فتوجهت إلى أعلى محكمة أوروبية في هذا الشأن، وهي المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي أصدرت حكمها أواخر أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، بتثبيت الإدانة بحق المدعى عليها، وقالت المحكمة في حيثيات الحكم إن "الاستخفاف بالمعتقدات الدينية مثل الإساءة للنبي محمد لا تحميه حرية التعبير، ويمكن مقاضاة من يقدم عليه".
ماذا يعني ذلك للقضية الحالية؟
حيثيات قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تُمثل أرضية قانونية صلبة في الجدل الدائر حالياً بشأن الرسوم المسيئة للرسول، وكيفية تعامل المؤسسات التي تمثل المسلمين مع الغضب العارم الذي يعتري غالبية المسلمين، وتفويت الفرصة على المتطرفين لاستغلال ذلك الغضب بصورة تؤدي إلى تكرار جريمة ذبح المدرس الفرنسي الذي عرض تلك الرسوم، ويظل السؤال: هل قرارات المحكمة الأوروبية مُلزمة لفرنسا؟
تشكَّلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 1959، ومقرها مدينة ستراسبورغ في فرنسا، وتضم في عضويتها 47 قاضياً منتخباً، يمثلون الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (قاض من كل دولة)، وتنظر في القضايا المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأعضاء، ويمكن للأفراد أو الدول رفع الدعاوى أمام المحكمة، والقرارات التي تصدر عن المحكمة ملزمة للأعضاء فيها.
وفي ضوء تلك المعطيات، يبدو منطقياً أن يرفع مجلس حكماء المسلمين دعوى قضائية أمام المحكمة بشأن الرسوم المسيئة للرسول، سعياً لإنهاء هذا الجدل المستمر منذ 30 سبتمبر/أيلول 2005، عندما تم نشرها لأول مرة من جانب صحيفة يولاندس-بوستن الدنماركية، والجدل يتركز حول حرية التعبير بشكل أساسي.
لكن ربما تكون النقطة الأهم هنا هي أن التحرك القانوني ورفع دعوى قضائية قد يكون له تأثير إيجابي على غالبية المسلمين الغاضبين، حيث يولد لديهم الشعور بأن هناك من يعبر عما يشعرون به من غضب، ويضع حداً لما يرونه تجرؤاً على الرسول، وبصورة أشمل أن لهم صوتاً مسموعاً، خصوصاً أن التحركات على المستوى الرسمي نتجت عن ذلك التحرك الشعبي، الذي تجسد في حملة المقاطعة، و"نبينا خط أحمر".
حرية التعبير واحترام الرموز الدينية
من المهم هنا أيضاً إلقاء الضوء على ما أحدثه نشر الرسوم المسيئة للرسول من جدل محتدم في الغرب بين وجهتي نظر؛ الأولى تتعلق بحرية التعبير، والثانية تتعلق باحترام المعتقدات في إطار ممارسة تلك الحرية، ومع تحول الاعتراضات والاحتجاجات من جانب بعض المسلمين الغاضبين إلى مظاهر العنف كان الجدل يشتد احتداماً، ووصلت الأمور إلى ذروتها بعد قتل 12 شخصاً وإصابة 11 آخرين في الهجوم الذي استهدف مقر صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية في باريس، في يناير/كانون الثاني 2015، وتبناه تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
وهكذا أصبح السؤال المطروح على مسؤولي الصحف ووسائل الإعلام الغربية "هل ننشر أو لا ننشر؟"، والواقع أن الغالبية العظمى من تلك المؤسسات اتخذت قراراً بعدم النشر، ومنها مثلاً أكبر وكالة أنباء في العالم، وهي الأسوشيتد برس الأمريكية، التي اتخذت قرار عدم النشر في ضوء سياستها الثابتة "عدم نشر أي صور مستفزة للقراء والمشاهدين"، ولم تغير تلك السياسة لتبدي تضامنها مع الصحيفة الفرنسية، وهو المبرر الذي طالب به البعض بعد ذلك الهجوم المروع.
هيئة الإذاعة البريطانية BBC أيضاً لم تنشر تلك الرسوم مطلقاً؛ تماشياً مع سياسة عدم نشر رسوم للرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، احتراماً لمعتقدات المسلمين، كما تفعل مع جميع الديانات والمعتقدات الأخرى، في إطار احترام رموز تلك الأديان.
والخلاصة هنا هي أن نشر الرسوم المسيئة للرسول يمثل عملاً استفزازياً، ولا يقع في إطار حرية التعبير، وفي نفس الوقت لا يمكن أن يعتبر ذلك مبرراً لذبح المدرس في فرنسا، أو قتل المحررين في شارلي إيبدو، وهذا ما أكد عليه زعماء المسلمين في فرنسا وفي الدول العربية والإسلامية، سواء كانوا سياسيين أو رجال دين، وبالتالي فإن المسلك القانوني لوقف نشر تلك الرسوم يمكن وصفه بأنه حقٌّ للمسلمين يبدو أنه كان منسيّاً.