ملف شرق المتوسط: قراءة في البُعدين السياسي والتاريخي للمنطقة المشتعلة

عدد القراءات
5,083
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/27 الساعة 12:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/27 الساعة 12:49 بتوقيت غرينتش

في حقل العلاقات الدولية، احتل مفهوم "النظام الدولي" حيزاً مهماً في تفسير سلوك وتفاعل الدول العظمى مع بعضها البعض ومع الأحداث الجسام. وذكرت الدول العظمى أولاً، باعتبارها المؤثر الأول والرئيسي في تحديد العلاقات الدولية وتكوين الأحلاف، وتقاسم الموارد والنفوذ، وافتعال الحروب، وتأجيج الصراعات في المناطق "الحساسة" والاستراتيجية؛ كمنطقة الشرق الأوسط التي كان لها نصيب كبير من الصراعات مؤخراً.

لكن ذلك النظام الدولي شهد انعطافة تاريخية في عام 1991 أفقدته سمة أساسية في نظريات "توازن القوى"، وهي انتقال التأثير "المُحتَكِر" أمريكياً وسوفييتياً (سابقاً) لفواعل ودول صاعدة وطامحة للعب دور مهم في إقليمها؛ كدول جنوب شرق آسيا (آسيان) والاتحاد الأوروبي في إقليمه، إضافةً للهند في منطقتها، وكذا الصين وروسيا وإثيوبيا والبرازيل.. إلخ، فضلاً عن محاولات عربية لإنشاء منظومة إقليمية عربية تتعدى فكرة جامعة الدول العربية، مثل طموحات مصر والعراق والسعودية السابقة، لكنها باءت بالفشل.

أما منطقة "شرق المتوسط"، وهي محور هذا المقال، فلم تتحول إلى "إقليم" بعد في تجربة تُحاكي تجربة التكامل الآسيوي (الآسيان)، لأسباب متعددة ومعقّدة تحمل في طياتها أبعاداً ثقافية وسياسية واقتصادية ودينية. فهذا البحر التاريخي تُطل على سواحله تناقضات تُصّعُب على حامليها الجلوس على طاولة الحوار والمفاوضات أو التوصل لإجماع واتفاق مشترك يرضي جميع الأطراف. واقتصر تدخل الدول الكبرى على زيادة الدول العظمى لنفوذها وتأمين مصالحها واحتياجاتها من المنطقة وأطرافها المتناحرة.

تنطلق هذه السطور من تساؤل رئيسي: لماذا لا يمكن إدماج منطقة شرق المتوسط والتي تضم (تركيا، سوريا، لبنان، إسرائيل، قبرص بشقيها التركي واليوناني، مصر، ليبيا، اليونان) في منظمة إقليمية واحدة بالرغم من تجاورها جغرافياً؟

ذَهَبَ الباحثان في العلاقات الدولية شبيغل وكانتوري لاعتبار النظام الإقليمي "يتكون من عدة دول متقاربة ومشتركة في الروابط الإثنية واللغوية والتاريخ المُشترك والهُوية كتعريف أمام الآخر (خارج الإقليم)". في حين أورد آخرون ضرورة ألا يكون ضمن النظام الإقليمي دولة عُظمى. إذن للوصول لصيغة النظام الإقليمي المُشترك في شرق المتوسط فإن ذلك يتطلب مُفردتين لإنجاحه، وهما: التكامل والتماثل في الجوانب الاقتصادية والثقافية والجغرافية، وحتماً السياسية ولو نسبياً.

على النقيض من ذلك، تُمثل منطقة شرق المتوسط موقعاً استراتيجياً يربط القارات القديمة ببعضها (آسيا وإفريقيا وأوروبا)، وهي بذلك تُسهل حركة التجارة والاستيراد. كما أنها تحوي في باطنها البحري كميات هائلة من الغاز الطبيعي، ما يجعلها حلبة صراع بين دولها المختلفة. إضافة إلى تلك الأهمية الاقتصادية للمنطقة، توجد إسرائيل، بأطماعها السياسية والاقتصادية والثقافية، في قلب المعادلة المعقدة أصلاً في شرق المتوسط.
لذلك تشهد منطقة شرق المتوسط حالياً اهتماماً ملحوظاً من عدة دول تُشرف على بحرها، مثل تركيا واليونان وتحاول كلٌّ منهما كبح جماح الأخرى في التمدد البحري أو محاولات التنقيب عن الغاز الطبيعي؛ حيث نتج عن هذا الاهتمام قضيتان رئيسيتان هما: (1) إقدام دول شرق المتوسط على ترسيم حدودها البحرية مع صديقاتها، تركيا مع ليبيا (حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً) ومع قبرص التركية. مقابل توقيع اليونان لاتفاقيات مع مصر وإسرائيل وقبرص اليونانية إضافةً لفرنسا "الماكرونية" وهي بذلك تُحيك تحالفاً ضد الحقوق التركية في البحر المتوسط. فمن نافلة القول التأكيد على أن "الرباعي" يناصب تركيا العداء. (2) أحدثت تلك التحركات توتراً في العلاقات الدبلوماسية بين تركيا و"الرباعي" وتحديداً اليونان (أحد الأعداء التاريخيين لتركيا) وردة الفعل على توقيع أنقرة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية.

إذن من الصعب نظرياً وعملياً التفكير في إدماج دول شرق المتوسط في منظمة إقليمية تتشاطر وتحل القضايا التي تهم دول شرق المتوسط، لعدة أسباب، يُمكن إيجازها بـ4 نقاط: أولاها، التصعيد الخطير بين أثينا وأنقرة ومخاوف الانجرار لحرب بين البلدين، والتي إن حصلت ستطرح أسئلة في دور حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الأزمة، كون تركيا واليونان عضوين فيها، وموقف الاتحاد الأوروبي المتعهد بحماية اليونان ونبرته الحادة تجاه تركيا.

ثانياً، انتقال الاهتمام الدولي التدريجي من الشرق الأوسط إلى شرق المتوسط؛ لعقود خلت كانت منطقة الشرق الأوسط بؤرة للصراع والتنافس على الموارد النفطية في منطقة الخليج العربي. وتمثل الصراع في ثلاث حروب انتهت بإعادة ترتيب المنطقة بتواجد وحضور عربي ضعيف، وسطوة وسلطة إيرانية متنامية، مع الإبقاء على القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج، واستمرار تدفق البترول للغرب وتدمير العراق والمشروع العربي. حالياً تُمثل منطقة شرق المتوسط بؤرة جديدة للصراع عليها ولمحاولات الهيمنة من دول عظمى؛ فالعلم الروسي يرفرف بميناء اللاذقية السورية، ويسعى الرئيس الفرنسي بالتأثير على لبنان وتعقيداته أن يضع قدماً ثابتة هناك.

ثالثاً، التنافس الإقليمي لقيادة المنطقة العربية. تحدث أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت علي الجرباوي في إحدى مقالاته حول ذلك: "ما يزيد الاضطراب في المنطقة هو هذا التنافس بين هذه القوى الإقليمية متوسطة القوة لملء الفراغ الناجم عن غياب الدور الفاعل للقوة العظمى". وهذا ما بدا واضحاً في تنافس تركيا وإيران وإسرائيل لقيادة المنطقة العربية كلاً بأدواته وأساليبه ورغباته وقدراته.

رابعاً، ستحاول أوروبا والولايات المتحدة وروسيا وربما الصين تحويل تركيا إلى "العراق الجديد". ناهيك عن دول أخرى تكن العداء للرئيس التركي أردوغان ومتخوفة من إنجازاته. فالتوتر مع تركيا تخطى اليونان ولامس الاتحاد الأوروبي. فمن البدهي ألا يقاتل الناتو ضد فرنسا أو اليونان لمصلحة تركيا. لذلك يتوجب على تركيا موازنة علاقاتها وتحالفاتها لحماية مصالحها وأمنها القومي والبحري.

ومن الضروري دائماً قراءة التاريخ لتحليل الواقع واستشراف المستقبل فما حدث مع تركيا العثمانية قبل قرنِ ونيف يتشابه إلى حد قريب مع حال تركيا الجديدة، فعدوها القديم هو الحاضر الآن!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حذيفة حامد
كاتب فلسطيني مهتم بمسألة التحول الديمقراطي في العالم العربي.
كاتب فلسطيني مهتم بمسألة التحول الديمقراطي في العالم العربي.
تحميل المزيد