من الواضح أن حملة مقاطعة فرنسا اعتراضاً على تمسك الرئيس الفرنسي بالرسوم المسيئة للرسول قد سببت قلقاً لباريس، فطلبت من الحكومات "وقف" تلك المقاطعة، فماذا يعني ذلك بالنسبة للشعوب التي مارست حقها في التعبير من خلال قوتها الخاصة؟
ماذا يعني بيان خارجية فرنسا؟
أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بياناً دعت فيه "حكومات الدول المعنية بحملات مقاطعة منتجاتها إلى وقفها"، مبررة الطلب بأنه صادر عن "أقلية راديكالية تشوه المواقف التي دافعت عنها فرنسا من أجل حرية الرأي وحرية التعبير وحرية الديانة ورفض أي دعوة للكراهية".
ويطرح هذا البيان عدداً من التساؤلات؛ أولها ما علاقة حكومات الدول المعنية بحملات المقاطعة بالقصة؟ فالحملة لمقاطعة المنتجات الفرنسية انطلقت من الشعوب وليس من الحكومات، وهو ما يطرح السؤال الثاني المتعلق بالكيفية التي يمكن للحكومات أن تستجيب بها لدعوة فرنسا "ووقف" تلك الحملة.
تغريدة ماكرون
وتزامناً مع الطلب الفرنسي من الحكومات وقف حملة المقاطعة، نشر الرئيس إيمانويل ماكرون تغريدة باللغة العربية قال فيها: "لا شيء يجعلنا نتراجع، أبداً. نحترم كل أوجه الاختلاف بروح السلام. لا نقبل أبداً خطاب الحقد وندافع عن النقاش العقلاني. سنقف دوماً إلى جانب كرامة الإنسان والقيم العالمية".
ومن المهم هنا التوقف عند عدة نقاط تتعلق بحملة المقاطعة من حيث التوقيت، فالرئيس الفرنسي صرح مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري بأن "الإسلام يواجه أزمة حول العالم"، وهو التصريح الذي أثار غضباً بين غالبية المسلمين، وتعرض ماكرون لانتقادات عنيفة على المستوى الشعبي في الدول العربية والإسلامية، لكن لم تنطلق حملة المقاطعة للمنتجات الفرنسية وقتها.
حملة المقاطعة الشعبية للمنتجات الفرنسية انطلقت بعد تصريح ماكرون الأربعاء 21 أكتوبر/تشرين الأول التي أعلن فيها "تمسك فرنسا بالرسوم المسيئة لنبي الإسلام"، وهو ما تسبب في رفع مستوى الغضب الشعبي لمستويات قياسية أعادت للأذهان بداية قصة الرسوم المسيئة قبل 15 عاماً في الدانمارك، حينما نشرت صحيفة دانماركية تلك الرسوم للمرة الأولى مثيرة عاصفة من الغضب والاحتجاج عبر العالم الإسلامي، وفتحت الجدال حول حرية التعبير وحدودها واحترام الأديان، ومن المهم التوقف عندما حدث وقتها ومقارنته بما يحدث الآن.
كيف ولماذا بدأت المقاطعة؟
مقاطعة الدانمارك عام 2005 لم تكن فقط مقاطعة شعبية، بل كانت رسمية ودبلوماسية أيضاً وهددت غالبية الدول الإسلامية والعربية بقطع العلاقات مع الدولة الأوروبية، ولم تتوقف الاحتجاجات ولم يهدأ الغضب وقتها، إلا بعد أن ظهر رئيس الوزراء الدانماركي راسموسين على القنوات التليفزيونية العربية وقدم اعتذاراً عن الإساءة للرسول ساهم كثيراً في تهدئة الغضب في الشارع العربي والإسلامي.
مقاطعة فرنسا هذه المرة انطلقت بشكل عفوي من جانب الشعوب العربية والإسلامية الغاضبة من إصرار الرئيس الفرنسي على التمسك "بالرسوم المسيئة للرسول" تحت ذريعة حرية التعبير، على الرغم من أن غالبية المؤسسات الإعلامية الغربية امتنعت عن إعادة نشر تلك الرسوم المسيئة لنبي الإسلام من ناحية ورفض غالبية الباحثين والدارسين في مجال حقوق الإنسان ومنها حرية التعبير اعتبار تلك الرسوم تقع في إطار حرية التعبير من الأساس.
وعلى الرغم من أن حملة المقاطعة بدأت وانتشرت من خلال منصات التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية من خلال هاشتاغات متنوعة تتمحور جميعها حول "نبينا خط أحمر"، امتنع زعماء الدول العربية عن توجيه أي انتقاد للرئيس الفرنسي أو حتى نصيحة بأن الرسوم المسيئة للرسول لا تقع ضمن حرية التعبير وتمثل استفزازاً لمشاعر غالبية المسلمين، وهو الموقف الذي يراه كثير من المحللين والمراقبين كامتداد طبيعي لعلاقات ماكرون مع تلك الحكومات التي تشاركه مواقفه السياسية في الملفات الشائكة في المنطقة.
كيف تتوقع فرنسا "وقف" الحكومات للحملة؟
بالعودة إلى بيان الخارجية الفرنسية، نجد أنه توجه إلى حكومات الدول المعنية بالمقاطعة مطالباً إياها بوقف تلك الحملات، ومشدداً على أن الذين يقفون وراءها "أقلية راديكالية"، وهو ما يراه البعض تحريضاً واضحاً للحكومات على أن تتدخل لقمع تلك الحملة الشعبية.
وهذا ما عبر عنه محلل سياسي مصري تحدث لموقع "عربي بوست" طالباً عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وقال إن باريس تدرك جيداً أن حكومات مصر والسعودية والإمارات يمكنها بالفعل أن تتصدى لحملات المقاطعة من خلال "وسائل الإعلام التي تسيطر عليها، وأيضاً من خلال توقيف من يدعو إلى تلك المقاطعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتوجيه التهم الجاهزة من نشر أخبار كاذبة والتحريض على التظاهر والإضرار بمصالح البلاد".
لكنه استدرك بالقول إن تلك الإجراءات على الأرجح ستتأجل مؤقتاً حتى تتضح الصورة "فحملة المقاطعة لا تزال في بدايتها ولا أحد يمكنه توقع زخمها في الأيام القادمة"، مضيفاً أن الأوضاع الداخلية "خصوصاً في مصر والسعودية" ربما تكبح الأنظمة عن الوقوف علناً في وجه الغضب الشعبي العارم بسبب الإساءة للرسول والإصرار عليها تحت ذريعة حرية التعبير.
ويرى البعض أن حملة المقاطعة الشعبية تضع دول المنطقة العربية في مأزق؛ فإما قمع الحملة الشعبية وهو ما يهدد بمزيد من الاحتقان في وقت تواجه فيه تلك الحكومات مأزقاً اقتصادياً صعباً بفعل الوباء وانخفاض أسعار النفط، وإما مساندة تلك الحملات وبالتالي إغضاب فرنسا.
لكن البعض الآخر يرى أن تلك المقاطعة ربما تمثل فرصة لحكومات دول مثل مصر والسعودية ودول المغرب العربي أيضاً كي تنحاز لشعوبها دون أن تغضب فرنسا وذلك من خلال عدم قمع تلك الحملات أو التضييق عليها، فهي في النهاية مقاطعة شعبية وبالتالي فإن تمريرها يصبح نوعاً من التنفيس عن الغضب بين المواطنين، خصوصاً في دولة مثل مصر، وفي الوقت نفسه لا تتخذ مواقف رسمية تضعها في صدام رسمي مع الجانب الفرنسي.
اللافت هنا أن الرئيس الفرنسي نفسه أصدر بياناً قبيل لقائه الأول مع نظيره المصري عبدالفتاح السيسي في أكتوبر 2017 قال فيه إنه سيناقش "سجل حقوق الإنسان في مصر" استجابة لتقارير فرنسية ودولية أكدت أن حقوق الإنسان في مصر تدهورت بصورة غير مسبوقة في عهد السيسي، فكيف بفرنسا اليوم أن تقدم مبرراً لقمع حرية التعبير الشعبية عن الإساءة للرسول من خلال مقاطعة منتجات فرنسا؟
هل حملة المقاطعة مؤثرة فعلاً؟
في ظل الفترة الزمنية القصيرة التي شهدت الدعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية، لا توجد بعد أرقام من مصادر موثوقة تظهر مدى تأثير الحملة، لكن يقرأ البعض بيان الخارجية الفرنسية على أنه قلق حقيقي من التداعيات المتوقعة للحملة الشعبية على الاقتصاد الفرنسي، حيث حدد البيان السلع الزراعية والغذائية: "في العديد من دول الشرق الأوسط برزت في الأيام الأخيرة دعوات إلى مقاطعة السلع الفرنسية وخصوصاً الزراعية الغذائية".
ويتوقع البعض أن تستمر حملة المقاطعة في حالة إصرار الرئيس الفرنسي على التمسك بالرسوم المسيئة للرسول والتشجيع على إعادة نشرها، فهل يستجيب الرئيس الفرنسي لرئيس وزراء باكستان عمران خان الذي اتهم ماكرون بأنه يهاجم المسلمين، مضيفاً في تغريدة: "كان بإمكانه (ماكرون) أن يتبنى خطاباً معتدلاً ويفوت الفرصة على المتطرفين بدلاً من أن يعمق الاستقطاب الذي يؤدي بالضرورة لمزيد من التطرف"؟
الخلاصة هنا هي أن حملة المقاطعة سلاح شعبي ربما يكون قد أثبت فعاليته وأعاد القوة للشعوب العربية التي تعيش في ظل أنظمة متهمة بالاستبداد ولا تعطيها الفرصة للتعبير عن رأيها في القضايا الكبرى، ومنها ملف التطبيع على سبيل المثال، لكن يبدو أن تلك الشعوب لا تستسلم وقد تجد الوسيلة للتعبير عن الرأي وهذا ما يبدو أنه حدث مع مقاطعة فرنسا بعد إصرار ماكرون على التمسك بالرسوم المسيئة، ويظل السؤال إلى أي مدى ستنجح تلك الحملة الشعبية في إقناع الرئيس الفرنسي أن حرية التعبير لا تعني الإساءة لنبي الإسلام وأن الغضب بسبب تلك الإساءة من خلال الدعوة لمقاطعة المنتجات الفرنسية ليس "راديكالية ولا تطرفاً" بل هو في حد ذاته حرية تعبير عن الرأي؟ فهل يعتذر ماكرون كما فعل راسموسين من قبل أم تتجه الأمور لمزيد من التصعيد؟ والإجابة هنا لدى الرئيس الفرنسي الذي يبدو أنه وضع نفسه في مأزق.