"فرنسا ارتكبت أخطاء أحياناً باستهدافها المسلمين بشكل غير عادل: لم يكن هذا التصريح صادراً من جهة ناقدة لسياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه المسلمين، بل هو موقف ماكرون من المسلمين قبيل توليه الرئاسة.
كان هذا قبل 3 أعوام عندما كان ماكرون مرشحاً شبه مغمور في حاجة لأصوات المسلمين والليبراليين الفرنسيين.
ثم لم يلبث أن انقلب ماكرون على المسلمين وأصبح يغازل اليمين المتطرف للبقاء في الإليزيه، فهل تفلح هذه السياسة في جلب الفوز له في الاننتخابات الرئاسية المقرر 2020.
تقلبات صادمة في موقف ماكرون من المسلمين
تظهر مواقف ماكرون من المسلمين تقلبات لافتة، فالرجل صدم فرنسا، عندما غازل الناخبين المسلمين الجزائريين في انتخابات 2017، بقوله إن "الاستعمار جريمة ضد الإنسانية"، وإن الدولة ينبغي أن تكون محايدة تجاه الدين.. وهو ما يأتي في صلب العلمانية.. فعلينا واجب ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة". بالإضافة إلى ذلك دعا ماكرون إلى تدريس الشؤون الدينية في المدرسة.
بل إنه أيد البوركيني، وهو لباس البحر الذي ترتديه النساء المسلمات المتدينات.
ولكن اليوم انقلب ماكرون على مواقفه، حيث يسعى لمنع أحواض السباحة من أن تخصص أوقاتاً منفصلة للنساء المسلمات، قبيل نحو 16 شهراً من رئاسيات 2022.
والأسوأ أنه أيد نشر الصور المسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولم يسعَ للنأي بنفسه وحكومته عنها، وكان من الممكن أن يكتفي بإدانتها مع التأكيد على أنه لا يستطيع منعها في إطار حرية التعبير.
واليوم ماكرون الذي جاء بأصوات المسلمين، وقدم نفسه على أنه الرجل الذي سيصالح فرنسا مع مسلميها ويتبرأ من تاريخها الاستعماري يدخل في مواجهة عبثية مع ملياري مسلم، لن تفيد إلا المتطرفين على الجانبين.
وها هو يعلن أن بلاده لن تتخلى عن "الرسوم الكاريكاتيرية" المسيئة والمنشورة على واجهات المباني بعدة مدن فرنسية بينها تولوز ومونبلييه (جنوب)، التي يقيم فيها عدد كبير من المسلمين خاصة من البلدان المغاربية، ويكتب باللغة العربية رداً على دعوات مقاطعة المنتجات الفرنسية "لن نستسلم".
يزايد على اليمين المتطرف، ويستعير من لوبان "قناع الخوف"
"كاهنة الخوف الكبرى"، بهذه الكلمات وصف ماكرون، الزعيمة اليمينية المتطرفة مارين لوبان، منافسته في الدور الثاني للرئاسيات التي جرت في فبراير/شباط 2017، منتقداً خطابها العدائي ضد المسلمين والمهاجرين على فرنسا وثقافتها العلمانية.
لكن ماكرون الرئيس في 2020، بدأ يأخذ مساراً ليس بعيداً عنها عبر رغبته في خوض حرب ضد ما وصفه بـ"الانعزالية الإسلامية" بعد هزيمة حزبه في الانتخابات البلدية الأخيرة.
فقبيل 16 شهراً من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يزايد ماكرون على اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان، لاستقطاب أكبر قدر من أنصاره إلى معسكره، من خلال الهجوم بشكل عنيف على الإسلام والمسلمين بدون استثناء، بعد أن استهدف رمزاً من رموزهم، التي عليها إجماع باختلاف طوائفهم واتجاهاتهم وجنسياتهم.
حمل لواء الإسلام في 2017.. كيف أوصل المسلمون ماكرون للرئاسة؟
رغم أن ماكرون المرشح في 2017، كان يحمل "لواء الإسلام" على حد قول الكاتب الفرنسي "ميشال براسبارت"، بهدف استقطاب أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين، الذين يمثلون نحو 6% من الناخبين، والتي كان من المتوقع أن يتقاسمها كل من مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلونشون (4%)، والمرشح الاشتراكي بونوا هامون (2%).
ويقدر براسبارت أن النسبة الفعلية للمسلمين تقارب 20% (وليس 8.8 كما هو شائع)، لكن ثلث هؤلاء فقط من يشاركون في الانتخابات الفرنسية.
وأظهر استطلاع لمركز إيفوب أن 86% من المسلمين صوتوا لفرانسوا هولاند عام 2012، ولكن في انتخابات عام 2017، تراجع مرشح اليسار المعتدل بونوا آمون، حيث حصل في الجولة الأولى على 6.35% من الأصوات فقط.
ومن الواضح أن المسلمين وغيرهم لم يعطوا أصواتهم لمرشح اليسار المعتدل، كما أن مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلينشون في الأغلب لم يحصل على أصوات كثير من المسلمين لأنهم لم يريدوا المراهنة على حصان يُعتقد أنه خاسر، ومرشح اليمين المحافظ طاردته فضيحة في ذلك الوقت، إضافة إلى موقف اليمين السلبي من المسلمين، وبالتالي يرجح أن نسبة كبيرة من أصوات المسلمين ذهبت في الجولة الأولى لماكرون بعد أن قدم خطاباً بدا مشجعاً ناحية المسلمين.
فلقد اتسم خطاب إيمانويل ماكرون خلال الحملة الانتخابية تجاه الجالية العربية والمسلمة بالانفتاح.
ففي أحد مهرجاناته الانتخابية بمدينة مارسيليا في الجنوب الفرنسي والتي تقطنها جالية مغاربية كبيرة العدد، خاطب ماكرون جمهوره قائلاً: "أرى الجزائريين والمغاربة والتونسيين والماليين، والسنغاليين.. أرى أبناء مارسيليا، أرى فرنسيين.. إنها فرنسا التي أفتخر بها".
وقبل هذه الانتخابات قال ماكرون إن "العالم اليوم أمام مرحلة تتسم بالهجرات الجماعية، وعلينا الاستعداد للمزيد من تلك الهجرات". وأثنى في زيارة له لبرلين على سياسة ميركل في التعامل مع ملف اللاجئين وسياسة الباب المفتوح، مشيراً في نفس الوقت إلى أن "الاتحاد الأوروبي لم يتعامل مع هذه الملف بالشكل المطلوب". حتى إن المرشحة اليمينية الفرنسية مارين لوبان هاجمت آنذاك منافسها إيمانويل ماكرون ووصفته بـ"مفوض العولمة الماجنة والهجرة الجماعية".
وتبقى تصريحاته تجاه المسلمين في أكتوبر/تشرين الأول 2016 هي الأبرز، حيث أثارت جدلاً كبيراً في فرنسا، عندما قال إن باريس ارتكبت أخطاء في بعض الأحيان باستهدافها المسلمين بشكل غير عادل، مشيراً إلى أن البلد يمكن أن يكون أقل صرامة في تطبيق قواعده بشأن العلمانية.
وقال آنذاك: "لا يمثل أي دين مشكلة في فرنسا في وقتنا الحالي. وإذا كان ينبغي أن تكون الدولة محايدة.. وهو ما يأتي في صلب العلمانية.. فعلينا واجب ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة". بالإضافة إلى ذلك دعا ماكرون إلى تدريس الشؤون الدينية في المدرسة. كما طالب بتكوين الأئمة في الجامعات الفرنسية، وإغلاق المساجد التي تدعو للتطرف والإرهاب.
وأشارت صحيفة لوفيغارو الفرنسية أيضاً إلى موقفه المؤيد للبوركيني في المناظرة التي جمعته مع لوبن وغيرها من المرشحين. كما طالب ماكرون بإعادة هيكلة الجمعيات الإسلامية في فرنسا، والتي يعتبرها غير ممثلة بشكل جيد.
لم يتحدث ماكرون في ذلك الوقت عن الانفصالية الإسلامية، ويبدو أنها ظهرت فجأة بعد هزيمته في الانتخابات البلدية.
فأصوات المسلمين كانت حاسمة في وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه، بعد أن كانت المنافسة في الدور الأول حادة والنتائج متقاربة.
والنتيجة في المرحلة الأولى حصول ماكرون على نسبة 23.86% من الأصوات بينما حصلت مارين لوبن على 21.43%، ليشكل فوزاً مفاجئاً لمرشح لم يكن معروفاً في فرنسا، أسس حركته السياسية قبل عام من الانتخابات فقط. إلا أن النتيجة التي يحصل عليها الفائز الآن في الجولة الأولى كانت الأضعف منذ عام 2002.
كانت هذه خطة ماكرون، التي جذب من خلالها أصوات الناخبين المسلمين من اليسار الفرنسي بجناحيه، ليسحق في الدور الثاني مارين لوبان، بتأييد من جميع التيارات الأخرى التي اتحدت ضد اليمين المتطرف.
وخلال الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2017، دعا مسجد باريس الكبير دعا المسلمين في فرنسا من أجل التصويت، وبكثافة، لصالح مرشح الانتخابات الرئاسية الفرنسية إيمانويل ماكرون في الجولة الثانية المقبلة من الانتخابات.. "هو المرشح الذي يقدم نفسه على أنه حازم في موضوع مصير وقدر فرنسا مع أقلياتها الدينية".
والنتيجة حصول ماكرون على أصوات 92% من مسلمي فرنسا في الجولة الثانية.
صناعة "إسلام فرنسي"
ورغم أن العلمانية تعني الحياد مع الأديان، واحترام تنوع ثقافات الأفراد، فإن ماكرون، مثل بعض العلمانيين المتطرفين، يحاول فرض طريقة عيش بعينها على المسلمين بدعوى أنها تتوافق مع القيم العلمانية ولو تناقضت مع جوهر عقيدتهم، وهو ما يسمونه "الإسلام الفرنسي" بدل "الإسلام في فرنسا".
وفي هذا السياق تحاول باريس أن يكون لها "إسلامها الخاص"، عبر "مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا" (CFCM)، الذي أعلن، السبت، أنه يعمل على تطوير "برنامج تدريب مشترك للأئمة" و"خطة لمحاربة التطرف".
وترغب باريس بأن تتولى بنفسها تدريب الأئمة، بما لا يتعارض مع قيمها العلمانية، بدل أن تتولى الدول ذات الجاليات الكبيرة مثل الجزائر والمغرب وتركيا وتونس.. إرسال أئمتها إلى فرنسا خاصة في شهر رمضان.
مسلمو فرنسا تحت التهديد
لكن استهداف ماكرون للمسلمين، حسب وصف زعيم اليسار الفرنسي الراديكالي جان لوك ميلينشون، تسبب حتى الآن في مزيد من الاعتداءات العنصرية ضد المسلمين، على غرار الاعتداء الإرهابي الذي تعرضت له محجبتان من أصل جزائري، الأربعاء، حيث تم طعنهما بسلاح أبيض أسفل برج إيفل بباريس.
وبعد يوم واحد فقط، تعرضت فتاتان تركيتان للعنف والتمييز من الشرطة الفرنسية، وأصيبت إحداهن بجروح.
لكن هذين الاعتداءين لم يحركا في ماكرون ساكناً، ولم يُدن التطرف والعنصرية الممارسين ضد النساء المسلمات خاصة، ولم يهدئ حالة الشحن ضد المسلمين، وكأنه يخاطر بإشعال حرب أهلية في بلاده، (حسب تعبير سياسية فرنسية) من خلال بث الكراهية ضد المسلمين، متجاهلاً أنهم أصبحوا يمثلون الديانة الثانية في فرنسا.
شعبيته تتراجع
قبيل انتخابات فبراير/شباط 2022، اقتنع ماكرون بخسارة أصوات المسلمين، لذلك يحاول المزايدة على اليمين المتطرف لتعويض خسائره الانتخابية المقبلة، خاصة أن شعبيته تتراجع.
إذ أظهرت استطلاعات الرأي، أجريت في سبتمبر/أيلول 2020، أن شعبية الرئيس الفرنسي تراجعت من 41% إلى 38.7% خلال شهر واحد فقط.
لكن ليست فقط رئاسيات 2022 ما يؤرق ماكرون ويثير غضبه من الإسلام والمسلمين، فنكساته العسكرية والدبلوماسية في ليبيا، وفشله في استعراض قوة فرنسا في شرق المتوسط وفي جنوب القوقاز (الحرب بين أذربيجان وأرمينيا)، يفقد حاكم الإليزيه أعصابه، في ظل إثارته المستمرة للعداء مع تركيا إحدى الدولة المسلمة الديمقراطية القليلة، مقابل تحالفه مع الحكام العرب المستبدين، وتغاضيه عن جرائمهم.
ولكن أخطر تحدٍّ حقيقي يواجه ماكرون فشله في إدارة أزمة وباء كورونا في فرنسا.
إذ تجاوز عدد المصابين بكورونا مليون شخص، السبت، وارتفع المعدل اليومي إلى 40 ألف مصاب، ووفاة أكثر من 160 يومياً.
وتداعيات كورونا على اقتصاد البلاد المتراجع أيضاً، قد تتزايد مع انطلاق حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية في عدة دول عربية وإسلامية، ولا شك أن ذلك سيكون له أثره على استثمارات الشركات الفرنسية وسوق العمل وعلى الناخبين أيضاً.
المشكلة أن استراتيجية ماكرون في التعامل مع المسلمين قد تأتي بنتيجة عكسية فعندما يهاجم ماكرون الإسلام ويتحدث عن أنه في أزمة، ويدافع عن الصور المسيئة للرسول، فإنه يفقد تأييداً شعبياً كبيراً؛ لأن نحو خُمس شعبه مسلمون، وجزء كبير منهم له حق الانتخاب، وقد يحفزهم على التصويت لحماية حقوقهم، كما أن جزءاً من اليسار والليبراليين الفرنسيين غير راضٍ عن هذا التوجه.
فهل تؤدي موقف ماكرون من المسلمين إلى مزيد من التراجع في شعبتيه، خاصة أن مثل هذه السياسات الإثارية قد تفقد تأثيرها مع الناخب الفرنسي العادي مع مرور الوقت، ولكن في المقابل فإن الناخب المسلم الذي تضرر بشكل شخصي لن ينساها.