الرئيس الفرنسي يعتبر الرسوم المسيئة لنبي الإسلام حرية تعبير تتسق مع قوانين العلمانية في بلاده، بينما يراها المسلمون تشويهاً لنبيهم، فكيف أصبحت القصة التي بدأت دنماركية إلى قضية فرنسية، وإلى أين تتجه الأمور في ظل التصعيد الخطير؟
البداية من الدنمارك
بدأت القصة يوم 30 سبتمبر/أيلول عام 2005 بقيام صحيفة محلية دنماركية تدعى يولانس-بوستن بنشر 12 رسماً كاريكاتيرياً مسيئاً للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، ما أثار غضب الجالية المسلمة في الدنمارك، وسرعان ما انتشرت قصة الرسوم المسيئة لنبي الإسلام حول العالم، بعد أن أقدمت صحف أوروبية في النمسا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا على إعادة نشر الرسوم المسيئة تأكيداً على الحق في حرية التعبير.
أدى ذلك إلى احتجاجات شعبية ورسمية من جانب الدول الإسلامية والعربية في ذلك الوقت وتصاعدت حملة مقاطعة البضائع الدنماركية، وهو ما أدى إلى ظهور رئيس وزراء الدنمارك وقتها أندرياس فوغ راسموسين على شاشات التلفزيون العربية وتقديم اعتذار رسمي للمسلمين عن تلك الرسوم المسيئة، بعد أن هددت دول عربية وإسلامية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدنمارك، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC يشرح كيف بدأت القصة.
القضية وقتها أثارت أمرين رئيسيين: الأول غضباً عارماً بين غالبية المسلمين وخروج تظاهرات حاشدة في دول إسلامية أبرزها باكستان في ذلك الوقت، مع انتشار دعوات لمقاطعة المنتجات الدنماركية في البلاد الإسلامية والعربية.
أما الأمر الثاني الذي أثارته القصة فهو قضية حرية التعبير في مقابل احترام الأديان والعقائد والعلاقة الشائكة بين القضيتين؛ وكان واضحاً أن السياق العام يشهد ما يشبه الإجماع على أن "حرية التعبير ليست مبرراً لإغضاب المسلمين" وهذه النتيجة عبرت عنها جينيفر إليسا فانينغا، أستاذة العلوم الدينية واللاهوت في جامعة سانت إدوارد في تكساس، وبشرت بحثها بنفس العنوان قبل 5 أعوام تزامناً مع إعادة نشر مجلة تشارلي إيبدو الفرنسية للرسوم المسيئة للرسول.
كيف دخل الرئيس الفرنسي على الخط؟
وعلى مدى العقد ونصف الماضيين ظلت قصة الإساءة لنبي الإسلام وإغضاب المسلمين تأخذ منحنى صعوداً وهبوطاً بالتزامن مع أحداث يرى البعض أن لا علاقة لها بحرية التعبير أو احترام الأديان من الأساس بقدر ما ترتبط بعوامل سياسية بالأساس، وهو ما يبرز بشكل واضح من آخر فصول القصة والتي شهدت تصريحات للرئيس الفرنسي أثارت عاصفة من الغضب بين المسلمين حول العالم.
ومنذ تصريح ماكرون الأخير يوم الأربعاء 21 أكتوبر/تشرين الأول، الذي قال فيه إن فرنسا "لن تتخلى عن "الرسوم الكاريكاتيرية" (المسيئة للنبي محمد)، اشتعلت عاصفة من الغضب في أنحاء العالم الإسلامي وتصدرت هاشتاغات الدفاع عن الرسول والدعوة لمقاطعة كل ما هو فرنسي منصات التواصل الاجتماعي.
وعبر شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب عن مشاعر كثير من المسلمين في بيان قال فيه: "نشهد الآن حملة ممنهجة للزج بالإسلام في المعارك السياسية، وصناعة فوضى بدأت بهجمة مغرضة على نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم. لا نقبل بأن تكون رموزنا ومقدساتنا ضحية مضاربة رخيصة في سوق السياسات والصراعات الانتخابية".
ووجّه خطابه لمن يخلطون بين حرية التعبير وعدم احترام الأديان بقوله: "أقول لمن يبررون الإساءة لنبي الإسلام إن الأزمة الحقيقية هي بسبب ازدواجيتكم الفكرية وأجنداتكم الضيقة"، داعياً إلى "عدم تأجيج الصراع باسم حرية التعبير".
تصريحات لأغراض انتخابية
الحملة المتصاعدة لمقاطعة كل ما هو فرنسي بعد تصريحات ماكرون يمكن رصدها من خلال منصات التواصل الاجتماعي في الدول العربية والإسلامية، ويبدو أنها تتجه لمزيد من التصعيد وهو ما يطرح تساؤلات حول موقف الرئيس الفرنسي ودوافعه من وراء تلك التصريحات التي ينطلق فيها من علمانية الجمهورية الفرنسية، حسبما يزعم.
فرنسا دولة علمانية تضمن حرية التعبير وفي هذا تشترك مع دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة وأستراليا وكندا، فلماذا يتصدر ماكرون هذا المشهد؟ ولماذا الآن؟ الإجابة عن السؤالين تناولتها مجلة Foreign Policy الأمريكية في تقرير لها بعنوان "ماكرون ليس قلقاً من الإسلام. إنه قلق من لوبان".
تقرير المجلة وضع تصريحات ماكرون بشأن "الإسلام في أزمة" مطلع الشهر الجاري، ثم تصريحاته الأخيرة بشأن الرسوم المسيئة للرسول في سياق توجه عام من السياسيين الغربيين الذين يحاولون استمالة الناخبين من اليمين المتطرف، في ظل تنامي تيار اليمين المتطرف بصورة لافتة مؤخراً.
فالغرض الأساسي من وراء تصريحات الرئيس الفرنسي -بحسب المجلة الأمريكية- هو تلميع صورته كسياسي صارم في "مواجهة التطرف وتهديد قيم العلمانية الفرنسية" في بيئة سياسية يغلب عليها الطابع الشعبوي، على حساب الأقلية المسلمة التي تتعرض بالفعل لاضطهاد يناقض ذات القيم التي يزعم ماكرون أنه يدافع عنها.
والسخرية هنا هي أن ماكرون فشل في اتباع المبدأ الأساسي في الفصل بين الكنيسة والدولة في فرنسا وحياد الدولة تجاه الأديان وهو المبدأ الذي يحظر على الرئيس أن يتدخل في الشؤون الدينية لمواطنيه، لكن الموقف أكثر خطورة من هذا التناقض، فقد نشرت صحيفة الغارديان تقريراً العام الماضي بعنوان "كيف أصبحت نظرية مؤامرة اخترعها اليمين المتطرف أمراً منتشراً كحقيقة"، ألقى الضوء على استهداف المهاجرين بشكل عام والمسلمين بشكل خاص من جانب زعماء تيار اليمين المتطرف في البداية، ثم انضمام الزعماء الطامحين للفوز والبقاء في مناصبهم للمزايدة على حساب الأقليات المسلمة، خاصة في فرنسا التي يوجد بها أكبر أقلية مسلمة وتعدادها 6 مليون نسمة.
غياب ردود الفعل الرسمية تقريباً
اللافت هذه المرة أن حملة الغضب بين المسلمين يغلب عليها الطابع الشعبي، وسط صمت رسمي إلا من جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي قال إن الرئيس الفرنسي "يحتاج للكشف على قواه العقلية"، واستدعت فرنسا اليوم الأحد 25 أكتوبر/تشرين الأول سفيرها في أنقرة للتشاور اعتراضاً على تصريحات الرئيس التركي بحق ماكرون.
وتأتي تصريحات الرئيس التركي متسقة مع مواقفه وتصريحاته المعلنة والتي يدافع فيها عن قضايا المسلمين حول العالم، لكن صمت زعماء الدول الإسلامية والعربية بصفة خاصة على تصريحات ماكرون التي أغضبت المسلمين حول العالم ليس غريباً، بحسب المراقبين.
فالعلاقة بين ماكرون وزعماء مصر والسعودية والإمارات على وجه الخصوص تجعل من الصمت تجاه تصريحاته التي أثارت غضب شعوب تلك الدول وغيرها من المسلمين أمراً متوقعاً؛ فزعماء الدول الثلاث يوظفون "الحرب على الإرهاب" كذريعة للتخلص من معارضيهم وخصومهم السياسيين ويسعون جاهدين لوصم أحزاب الإسلام السياسي بالإرهاب، وهكذا تتلاقى مصالحهم السياسية مع مصالح الزعماء الغربيين الذين يغازلون اليمين المتطرف من خلال الهجوم على المسلمين.
لذلك نجد أن ردود الفعل الغاضبة تجاه إصرار ماكرون على التمسك بالرسوم المسيئة للرسول تخرج من جانب المؤسسات الدينية بالأساس، باستثناء تركيا، إضافة إلى الغضبة الشعبية التي تنعكس من خلال الدعوات لمقاطعة كل ما هو فرنسي في وجه ما يراه غالبية المسلمين إساءة لنبيهم، لذلك تصدر هاشتاغ "نبينا خط أحمر" منصات التواصل الاجتماعي في غالبية الدول العربية والإسلامية، مع دعوات المقاطعة.
ماذا يريد ماكرون؟
ماكرون يريد الفوز في الانتخابات وقطع الطريق على ماري لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، عن طريق اتخاذ مواقف صارمة تجاه ما يراه "تطرفاً أو انعزالية" من جانب المسلمين، كما يرى كثير من المراقبين، لكن هناك بعض المحللين داخل فرنسا وخارجها يرون أن له غرضاً أكثر عمقاً.
الرئيس الذي يواجه صعوبات داخلية من خلال مظاهرات السترات الصفراء المطالبة بالعدالة الاجتماعية وتراجع كبير في شعبيته منذ وصوله لقصر الإليزيه عام 2017، يبدو أنه بدأ حملة إعادة انتخابه مبكراً، فالانتخابات لا تزال العام بعد القادم، وذلك من خلال ركوب موجة اليمين المتطرف مبكراً وتحقيق ما يراه هدفاً فشلت فيه الحكومات السابقة منذ ثمانينات القرن الماضي.
والقصة هنا تتعلق برغبة ماكرون في فرض رؤيته لكيفية إدماج المسلمين في المجتمع الفرنسي من خلال القانون الذي يسعى لتمريره وتبدأ مناقشته في ديسمبر/كانون الأول المقبل ويراه كثير من المشرعين غير قانوني أو على الأقل يواجه ثغرات قانونية تتعارض مع الدستور الفرنسي ذاته، ونشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً بعنوان "ماركون يريد بدء ثورة إسلامية"، رصد آراء محللين فرنسيين يرون أن ماكرون يظهر أنه يريد محاصرة تأثير التطرف، لكنه يضمر أمراً "أكثر شراً"، فهو يريد أن يوحد الفرنسيين حول هدف يبدو قومياً، وهو إعلاء قيم الجمهورية أو العلمانية، بينما هو في الواقع يريد أن يفرض على المسلمين في فرنسا كيف يمارسون شعائرهم الدينية كما يراها هو.
ويتوقع معارضوه أن يفشل في هذا الملف أيضاً، كما فشل حتى الآن في مواجهة مشاكل البلاد الداخلية أو في فرض رؤيته في الملفات الخارجية، خصوصاً استعادة نفوذ فرنسا في مستعمراتها القديمة كلبنان والجزائر والمستعمرات في إفريقيا، لكن يظل السؤال بشأن اتجاهات التصعيد في الفصل الحالي من الرسوم المسيئة للرسول وغضب المسلمين والدعوات لمقاطعة فرنسا، ولا أحد يمكنه توقع إلى أين قد تصل الأمور.