هل تستطيع مصر ضرب سد النهضة كما توقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حفل توقيع اتفاق التطبيع السوداني الإسرائيلي الذي أقيم الجمعة 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، والذي طرح فيه بشكل فج سيناريوهات الخيار العسكري في أزمة سد النهضة.
فمنذ أن قال ترامب إن مصر قد تقصف سد النهضة، ولا أحد يعلم هل ما قاله تم بالتنسيق مع القاهرة لإرسال رسالة لإثيوبيا، لإنهاء تعنتها أم أن ما قاله مجرد سقطة من سقطاته المتكررة.
ولكن في كل الأحوال ما قاله ترامب أعاد للواجهة الخيار العسكري في أزمة سد النهضة الذي كان دائماً مطروحاً إعلامياً (ولكن مصر لم تتطرق إليه رسمياً)، ثم تراجع الحديث عنه بعدما ملأت إثيوبيا خزان سد النهضة دون رد فعل مصري أو سوداني يذكر.
وردت إثيوبيا على تصريحات ترامب بالتأكيد على رفضها التام لأي تهديدات موجهة إليها بشأن سد النهضة، واصفة إياها بأنها أسلوب خاطئ وغير قانوني.
وأشار مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في بيان صحفي إلى أن إثيوبيا: لن ترضخ لأي عدوان ولن تعترف بأي حق يعتمد على اتفاقيات استعمارية"، في إشارة إلى عدم اعتراف بلاده بالاتفاقات التي تنظم توزيع مياه النيل بين مصر والسودان، والتي أبرمت في عهد الاحتلال البريطاني للبلدين.
وقال آبي أحمد أن "النهضة سد إثيوبيا، والإثيوبيون سيكملون هذا العمل لا محالة، ولا توجد قوة يمكنها أن تمنعنا من تحقيق أهدافنا التي خططنا لها، لم يستعمرنا أحد من قبل، ولن يحكمنا أحد في المستقبل".
ماذا حدث في المواجهات العسكرية السابقة بين البلدين؟
وتواجهت مصر وإثيوبيا مرتين خلال القرنين الماضيين، وكان الفوز حليف الجانب الإثيوبي فيهما، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
فقد بزغت مصر كقوة عسكرية كبرى في إفريقيا مع غروب شمس الإمبراطورية العثمانية، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر اتجه خديوي مصر إسماعيل لإقامة إمبراطورية مصرية كبرى في إفريقيا تسيطر على القرن الإفريقي ومنابع النيل، لذلك عمل على إقامة جيش مصري كبير بقيادة ضباط أوروبيين وأمريكيين، من المنتمين لولايات الجنوب والذين غادروا بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية.
ويبدو أن الصدام بين الإمبراطورية المصرية في إفريقيا وإثيوبيا كان حتمياً وهذا ما حدث في معركتي غوندت وغورا.
وقعت الأولى أي معركة غوندت في 7 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1875، إثر توغل مصري داخل حدود إثيوبيا.
فعندما وردت الأنباء للجانب الإثيوبي بأن المصريين يعززون قواتهم داخل الأراضي الإثيوبية بنحو ألفي جندي قدموا بقيادة مونزينغر باشا من كسلا فنصب لها الإثيوبيون كميناً بالقرب من العدوة حيث لقي مونزينغر وكل القوة التي كان يقودها تقريباً حتفهم على يد قبائل الدناكل في 7 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1875.
وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني هوجمت قوات الكولونيل آريندوب في غوندت، وكانت القوات المصرية تتكون من 2500 جندي بقيادة ضباط أوروبيين وأمريكيين وقد فوجئوا باستخدام القوات الإثيوبية للبنادق وقد لقي آريندوب حتفه في هذه المعركة وكان ذلك مصير ضباطه أيضاً ومنهم أراكل نوبار ابن شقيق رئيس وزراء مصر حينئذ نوبار باشا.
وبحلول يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني كانت المعركة قد انتهت، ولم ينج منها سوى عدد قليل.
بعد هزيمة غونديت جرد الجيش المصري حملة أكبر قوامها 20 ألف جندي على إثيوبيا عام 1876 بقيادة محمد راتب باشا والجنرال الأمريكي وليام لورينغ، حيث تقدم المصريون إلى غورا وأقاموا حامية هناك.
وفي 5 و 6 نوفمبر/تشرين الثاني شن الجيش الإثيوبي، وكان قوامه 200 ألف مقاتل، هجوماً على القوات المصرية، وكانت القوات الإثيوبية المهاجمة مسلحة بالبنادق ومدفع واحد.
وكان راتب باشا يريد المبادرة بمهاجمة الإثيوبيين غير أن الجنرال لورينغ فضل التحصن في المعسكر الذي كان محاطاً بتلال اعتلتها القوات الإثيوبية التي فتحت نيرانها على من في المعسكر المصري.
وفي 8 و9 مارس/ آذار هاجمت القوات الإثيوبية غورا، وفي 10 مارس/آذار قاد رشيد باشا وعثمان بك نجيب هجوماً مضاداً ضد الإثيوبيين الذين صدوه وأنزلوا بالقوات المهاجمة خسائر فادحة واستولوا على الكثير من المعدات.
من الأقوى عسكرياً؟
هناك فارق هائل في القوة العسكرية بين مصر وإثيوبيا لصالح القاهرة، ولكن هذا التفوق لا يعني أن الأمور سهلة بالنسبة لمصر لأن الجغرافيا في صالح أديس أبابا.
ولا يوجد أي حدود مشتركة بين البلدين، وبالتالي لا تستطيع مصر استخدام قواتها البرية الضخمة ضد أديس أبابا، إلا عبر عمليات إنزال جوي ضخمة، وهو أمر لا تستطيعه سوى دول قليلة في العالم، غالباً هي الولايات المتحدة وبصورة أقل روسيا.
البديل الثاني هو عملية عسكرية عبر الحدود السودانية، وهو ما يعني توريط السودان في الحرب، والسودان أبدت رغبة واضحة في عدم التصعيد مع إثيوبيا، بل إنها تجاهلت الرد عدة مرات على تحرشات إثيوبية على الحدود.
كما أن إثيوبيا واحدة من أعقد البلدان جغرافياً في العالم، وتتكون من هضاب ضخمة وسلاسل جبال وأودية تقلل من فاعلية المدرعات بشكل كبير، وتعطي أفضلية لصاحب الأرض الذي يستطيع استغلال الجغرافيا التي يعرفها جيداً، خاصة في حروب العصابات التي تخسرها عادة الجيوش النظامية.
هل تستطيع مصر قصف ضرب النهضة؟
تبعد إثيوبيا عن مصر أكثر من ألف كيلومتر مما يجعل استخدام الطائرات لتنفيذ غارات جوية على السد مسألة معقدة.
إذ إن أقرب قاعدة مصرية لإثيوبيا تبعد عن سد النهضة نحو 1500 كلم، ولا تمتلك القاهرة سوى عدد قليل من الطائرات القادرة على الوصول لإثيوبيا، منها طائرات رافال الفرنسية التي يبلغ نصف قطرها القتالي ١٨٠٠ كم إضافة إلى نحو 12 مقاتلة من طراز إف 16 بلوك 52، ولا تمتلك مصر طائرات تزود بالوقود.
ورغم أن الرافال قادرة على تزويد نظيراتها بالوقود فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة محدودة في مداها.
وهناك غموض حول كيفية حماية إثيوبيا للسد، إذ إن معظم نظمها الجوية قديمة، ولكن يعتقد أنها محمية بنظام بانتسير الروسي الحديث نسبياً.
وهي منظومة متوسطة المدى مضادة للطائرات والصواريخ الكروز والطائرات بدون طيار، إلا أن الشكوك حامت حول قوة وكفاءة المنظومة بعد تدمير الطائرات المسيرة التركية للمنظومة في ليبيا وسوريا عدة مرات.
ومؤخراً، حظرت إثيوبيا الطيران فوق سد النهضة.
ولكن يظل بُعد المسافة وقلة الطائرات المصرية القادرة على الوصول لإثيوبيا أمراً يزيد صعوبة أي محاولة مصرية لقصف السد، خاصة أن الطائرات السوخوي 27 الإثيوبية رغم قدمها وتأخرها في مجال الإلكترونيات والرادارات مقارنة بالرافال والإف 16 بلوك 52 فإنها تظل لديها قدرات مميزة في مجال القتال الجوي التلاحمي، في مقابل أن الطيارين المصريين سيكون عليهم أن يقاتلوا بعيداً عن قواعدهم.
تفجير السد بعملية أمنية
يمكن ملاحظة أن ترامب قال تفجير السد، وليس قصف السد، وإذا افترضنا أن كلام الرئيس الأمريكي يستند إلى معلومات جاءته من مصر مباشرة أو تقدير موقف من أجهزته، فإن ذكره لكلمة تفجير قد يشير إلى أن أحد السيناريوهات المطروحة هو عملية تفجير أمنية قد تستطيع القاهرة أن تتبرأ منها، عكس غارات الطيران.
وسبق أن قامت مصر بعمل مماثل حسب بعض التقارير.
فقد كشفت برقية للسفارة الأمريكية تعود إلى عام 2010، نشرها موقع "ويكيليكس" لاحقاً، أنَّ المصريين فجَّروا معدات كانت في طريقها إلى إثيوبيا في منتصف السبعينيات.
وينقل الصحفي البريطاني الشهير ديفيد هيرست عن مصدر مصري يوصف بالموثوق كان على تواصل مع حسني مبارك ومدير الاستخبارات العسكرية في إدارته، اللواء الراحل عمر سليمان، أنه قد أبلغ الأمريكيين بأنه: "لن يكون هناك أي حرب بين مصر وإثيوبيا. إذا وصل الأمر إلى أزمة، سوف نرسل طائرة لتفجر السد وتعود في نفس اليوم، بكل بساطة".
ولكن تنفيذ أي عملية أمنية استخباراتية لاستهداف السد أصبح أصعب بعد استكمال بنائه، إضافة إلى تأثيراتها على السودان في حال تدمير السد وما قد يؤديه من اندفاع المياه لأراضيه.
ولكن لماذا أصبح الخيار العسكري في أزمة سد النهضة أكثر صعوبة؟
من الواضح أن الخيار العسكري ضد إثيوبيا كان مطروحاً، بل سبق أن استخدم من قبل في عهد مبارك، كما تشير برقية السفارة الأمريكية.
ولكن هذا الخيار يفترض أن يرتبط بخط أحمر محدد كمسألة بدء إثيوبيا ملء السد، وهو ما تغلبت عليه أديس أبابا عبر خداع الجانبين المصري والسوداني، من خلال ملء السد ثم نفي ذلك، دون أن ترد مصر والسودان بحزم على هذه المواقف رغم إعلان وزارة الري والموارد المائية السودانية أن مقاييس تدفق المياه في محطة الديم الحدودية مع إثيوبيا، أظهرت أن هناك تراجعاً في مستويات المياه بما يعادل 90 مليون متر مكعب يومياً، ما يؤكد إغلاق بوابات سد النهضة.
ففي 15 يوليو/تموز 2020، نقلت وسائل إعلام إثيوبية ودولية عن وزير الري الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، في ذلك الوقت، إعلانه البدء في عملية تعبئة سد النهضة، وطلبت مصر إيضاحاً رسمياً عاجلاً من الحكومة الإثيوبية بشأن صحة ذلك.
ثم سرعان ما نفى وزير الري الإثيوبي، واكتفت مصر والسودان بهذا النفي الذي كان واضحاً أنه كاذب، بالنظر إلى أن وزارة الري والموارد المائية السودانية في اليوم ذاته قالت إن مقاييس تدفق المياه في محطة الديم الحدودية مع إثيوبيا، أظهرت أن هناك تراجعاً في مستويات المياه بما يعادل 90 مليون متر مكعب يومياً، ما يؤكد إغلاق بوابات سد النهضة.
وبعد ذلك بعدة أيام وبعد أن اختبرت أديس أبابا رد فعل مصر والسودان على خطوة ملء السد، فوجدته ضعيفاً، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، رسمياً عن ملء خزان السد بالتزامن مع قمة إفريقية لمناقشة الأزمة دون أي رد فعل من قبل رئيس مجلس السيادة السوداني أو الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بل على العكس توجهت مصر آنذاك للتصعيد في الساحة الليبية.
وعزا آبي أحمد، الذي حضر القمة الإفريقية المصغرة التي عقدت عبر الفيديوكونفرانس في يوليو/تموز 2020، ملء السد إلى إرادة الطبيعة، بسبب انهمار الأمطار، فيما كان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يؤكد خلال القمة على نية بلاده الصادقة لحل الأزمة.
الخيار العسكري في الأصل بالنسبة لمصر صعب من الناحية الواقعية والفنية، ولكن لم يكن مستبعداً خاصة في ظل الإمكانيات العسكرية والاستخباراتية المصرية، وهو ما يظهر من طريقة إدارة الملف في عهد الرئيس حسني مبارك، حسب ما ورد في موقع Middle East Eye البريطاني.
ولكن ازدادت صعوبة هذا الخيار مع تمييع إثيوبيا للخطوط الحمراء المفترضة في أزمة النيل، وهو التمييع الذي لم تتصدّ له القاهرة والخرطوم.
فمثل هذا الخيار كان يستلزم تهيئة للرأي العام الدولي، وإشعاره بأن أديس أبابا ارتكبت جريمة بملئها السد واخترقت خطاً أحمر مصرياً سودانياً، إضافة إلى إهانتها للوساطات الدولية المتعددة، مما يمثل خروجاً عن الأعراف الدولية، إضافة إلى ما يمثله ذلك من تهديد للأمن القومي المصري.
كما أن الخيار العسكري في أزمة سد النهضة، يتطلب من القاهرة عقد تحالفات مع خصوم أديس أبابا في الداخل والخارج، وهو ما تقدمت به القاهرة ببطء.
ولكن اللافت أن مصر والسودان قامتا منذ إعلان آبي أحمد الغريب أن الطبيعة ملأت السد، بتبريد غريب للقضية، بينما أقوى المواقف في هذه القضية جاء من واشنطن التي فرضت عقوبات على إثيوبيا، وهو ما لم تفعله الإمارات والسعودية حليفتا مصر المقربتان واللتان لديهما أدوات ضغط هائلة على أديس أبابا؟
فهل هذا التبريد يعني أن هناك صفقة تختمر بين الأطراف الثلاثة، ولذا سكتت القاهرة والخرطوم عن أفعال أديس أبابا في إطار هذه الصفقة، أم أن القاهرة تدبر خطة أخرى ضد إثيوبيا تستلزم تهدئة الملف، أم لم يعد بيدها حيلة.
وهل يعني ذلك أن تصريحات الرئيس الأمريكي عن احتمال تفجير السد تأتي بالتنسيق مع الجانب المصري، لتوصيل رسالة للإثيوبيين تستطيع مصر التبرؤ منها أم هناك مبادرة من الجانب الأمريكي لمعاقبة إثيوبيا على عدم التزامها بنتائج الوساطة الأمريكية أم أنها مجرد غزوة كلامية من مغامرات ترامب غير المتوقعة.