وقّعت الأطراف الليبية المتنازعة في جنيف الجمعة 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020 اتفاقاً وصف بالتاريخي، من قبل المبعوث الأممي لليبيا بالوكالة ستيفاني وليامز، هذا الاتفاق الذي وصل لنتائج دراماتيكية تتمثل في وقف دائم لإطلاق النار، وإخراج للقوى الخارجية والمرتزقة من ليبيا في غضون 3 أشهر، بما في ذلك المدربون الذي جاءوا لتدريب القوات الليبية، وفق اتفاقات منشورة أو القوات التي لها التزام مع بعض أطراف النزاع دون اتفاق مبرم، وكذلك تشكيل قوى أمنية لحفظ الأمن في المنطقة الوسطى من ليبيا بعد عودة كل القوات إلى مقارها.
الاتفاق أكد كذلك على ضرورة عودة إنتاج النفط، بعدما خرجت مجموعات من الفاغنر من حقول النفط عن ميناءي السدرة وراس لانوف، ورفعت عنها القوة القاهرة من قبل المؤسسة الوطنية للنفط.
المبعوث الأممي ذكر أن الاتفاق سينقل فوراً لمجلس الأمن لاعتماده كاتفاق رسمي بين الأطراف الليبية، في حين أن كل القوى الدولية المنخرطة في ليبيا رحبت بالاتفاق، كفرنسا وإيطاليا ومصر، والأمين العام للأمم المتحدة والسفارة الأمريكية في ليبيا التي تطلعت إلى أن تصدق النوايا هذه المرة.
ردود فعل إيجابية
ورغم الحذر من بعض المحللين السياسيين والمراقبين إلا أن موجة التوقعات المليئة بالأمل يمكن أن نلمسها في الحوار مع المواطنين والنخبويين وبعض وجوه القبائل في المنطقة الشرقية في اتصالات معهم، كانوا متحمسين جداً للاتفاق وذكروا أن الأوضاع لم تعد تحتمل المزيد من الدماء.
رد الفعل تجاه اتفاق جنيف أكثر إيجابية بكثير من اتفاق بوزنيقة حيث إن اتفاق جنيف جاء بحلول واضحة، فالرحلات بين طرابلس وبنغازي كما نشرت شركة البراق للطيران ذلك في موقعها الرسمي ستبدأ الأسبوع القادم وبدأت الشركة في إصدار التذاكر، كما أن الإعلام الموالي للجنرال خليفة حفتر بدأ في تغيير لهجته وسادت مفردات مثل "الوطن الواحد"، "يكفي حرب"، " في النهاية نحن إخوة". في المقابل سنجد في الإعلام الرافض للعدوان على الغرب الليبي ظهر مرحباً بالاتفاق لكنه حذر من إمكانية أن ترتخي القوات في المنطقة الغربية وتجد نفسها في مواجهة حرب جديدة من قبل حفتر الذي سبق أن انقلب على الاتفاقات.
في اتصال مع بعض القيادات التي شاركت في الحوار كان سقف الآمال مرتفعاً، وأن هذا الاتفاق سينهي سنوات من النزاع والحرب وسط اطمئنان حتى من المقاتلين على الأرض. حكومة الوفاق من جهتها رحبت بالاتفاق لكنها أكدت أن الاتفاق لا يعني إفلات الجاني من العقاب خاصة بعد تعاظم أعداد المقابر الجماعية وأعداد الضحايا الذين تكشف عنهم الجهات المعنية في كل يوم.
تسعى المؤسسة الوطنية للنفط وفق تصريحاتها للوصول إلى 800،000 برميل نفط في اليوم في الأسابيع القادمة وأن حاجز المليون برميل من الممكن تخطيه إذا استمرت هذه الأجواء الإيجابية. إذا تدفق النفط ومعه العملة الصعبة بالدولار، فإن قيمة الدينار الليبية ستقوى وسيؤثر ذلك على معدلات التضخم ومن الممكن البدء في مشروعات عاجلة مثل إصلاح محطات الكهرباء أو التحسين من أدائها الذي شكل أزمة أرقت الليبيين الشهور الماضية. وبالطبع ينتظر الليبيون الكثير من التحسن على أوضاعهم خاصة أن المنطقة الشرقية ومنها مدينة بنغازي تعاني من أزمات أمنية خانقة وصراعات قبلية وتدنٍّ للخدمات وشح في السيولة المالية مما جعل هذا الاتفاق محل ترحيب بالجميع.
وإذا أردنا أن نضع هذا الاتفاق في الصورة الأكبر للصراع الليبي، فإنه اتفاق جاء بعد حربين طاحنتين شهدتهما ليبيا في العام 2014 والعام 2020 وأنه بعد الثورة بثلاث سنوات بدأ الانقسام وفي نهاية العام 2015 كان اتفاق على نهاية الصراع في بنغازي لكن الصراع لم ينته وتجدد ثانية عام 2020 لنصل لهذا الاتفاق.
هذا المسار إذا قارناه بنزاعات أخرى حدثت في التاريخ الحديث لا يختلف كثيراً عنها، فإن هذا المنحنى المتموِّج قد يجعلنا نتوقع نهاية هذا الصراع كما في تجارب سابقة، فإن أكثر النزاعات الدولية بعد العام 1990 استمرت من 4-10 سنوات، كما أن الموقع الجغرافي لليبيا يجعلها بعيدة عن نزاعات دولية كبيرة كما حدث في سوريا كما تؤكد كثير من الدراسات. هذه الاعتبارات لا يمكنها أن تتجاوز الفرص والمخاطر التي ستواجه هذا الاتفاق وفيما يلي محاولة لوضع هذا الاتفاق في إطار تحليلي للفرص والمخاطر.
فرص نجاح اتفاق جنيف
فرص النجاح للاتفاق كثيرة، فإنه جاء بعد حرب دامية خلفت الدمار والمقابر الجماعية والرعب في العاصمة الليبية طرابلس، إذا زرت جنوب طرابلس ستجد آثار تلك الحرب الطاحنة قائمة، وستجد ذكريات مريرة يرويها الناس عن الصواريخ والجراد الذي لا تزال آثاره ظاهرة في مباني العاصمة، وفي الشرق الليبي غصت المقابر بالقتلى وانتشرت ظاهرة المبتورين الذين قطعت أرجلهم أو أيديهم أثناء الحرب.
تلك الذكريات الأليمة وخسارة حفتر الظاهرة في هذه الحرب جعل هذا الاتفاق ضرورة للاستمرار في العيش وهذا ما صرح به رئيس وفد حكومة الوفاق علي أبو شحمة لبعض الصحف "لقد عانينا الكثير، يكفينا انقساماً، يكفينا حرباً ويكفينا سفكاً للدماء".
هذا السياق إذا استمرت هذه الأجواء الإضافية سيجعل تكلفة الانقلاب على هذا الاتفاق كبيرة، فأي طرف يثير الحرب ويبدؤها عليه أن يجد سردية تقنع الشارع الليبي بضرورتها خاصة إذا فتحت الطرق بين الشرق والغرب، وتحسنت الأوضاع المعيشية بعد عودة إنتاج النفط. الاتفاق كذلك فيما يبدو قد وصل إلى تسوية في موضوع المرتزقة واعتبر أن القوات التركية التي بدأت في تدريب القوات الليبية جزء من الاتفاق فعليها أن تخرج لمدة 3 أشهر وهذا قد يرضي مصر وفرنسا ويعيد ضبط التواجد الأجنبي في ليبيا.
الاتفاق كذلك أقر عودة كل القوات إلى مقارها، وإخماد صوت المدافع في خطوط التماس، ووفقاً لتصريح أحد المشاركين في الحوار (لم يعد هناك أصلاً خطوط تماس). هذا الاتفاق سيعني كذلك أن الدول الداعمة للحرب كالإمارات ومصر وفرنسا وروسيا أن تظهر صدق نواياها في إيجاد حل سياسي يصل بليبيا إلى بر الأمان. وهذه قضية محورية فإن اتفاق الصخيرات قد قفز للحل السياسي دون أن يقدم الأطراف على الأرض أي تنازلات، خاصة قوات حفتر التي استمرت في تجويع أهالي منطقة قنفودة في بنغازي بينما يحاول السياسيون حول خارطة سياسية لمستقبل ليبيا. في هذه المرة الأمر مختلف، فإن إجراءات كسب الثقة سبقت البحث عن حل سياسي الذي سيبدأ المتحاورون في الحديث عنه في اجتماع رسمي ترعاه الأمم المتحدة في تونس الأشهر القادمة.
سياق الأزمة الليبية، إنهاك المتحاربين، انكشاف قوة كل طرف للآخر، تمايز الحلفاء، سقف توقعات مجتمعي يحرج الداعين للحرب، وترحيب دولي في عالم غارق في أزمات لم تنتهِ ليس آخرها كورونا والصراع في شرق المتوسط والسلوك الروسي المريب، وترقب الانتخابات الأمريكية… كل ذلك جعل الوصول لحل عبر روزنامة اتفاق جاء بشكل مفاجئ فرصة يمكن البناء عليها. في المقابل لا ينبغي الركون لهذه الاعتبارات فهناك مخاطر لا يمكن إغفالها.
مخاطر اتفاق جنيف
كنت أتوقع أن تنتهي الأزمة الليبية عام 2018، وذلك بناء على أن الحرب التي قد حدثت في تلك الفترة، في الهلال النفطي هي آخر الحروب وفقاً لمنحنى النزاعات الدولية، لكن فيما يبدو أن حرب طرابلس كانت هي الخاتمة. والسبب الذي جعل الحرب تستمر فيما يبدو هو استمرار دول كالإمارات ومصر في دعم الحرب، الفراغ الذي جعل هذه الدول -التي ليس لها خبرة في النزاعات الدولية- تعتقد أن ليبيا بجغرافيتها المعقدة يمكن أن تكون لقمة سائغة لأطماع مصر السيسي أو سراب الإمارات في خلق إمبراطورية غير رسمية في العالم العربي.
هذه التدخلات الخارجية كانت سبباً من أسباب استمرار الحرب بالوكالة التي بدأت عام 2014 حسب بعض المراقبين. هذا يجعلنا أمام مخطر دائم وهو أنه إذا نجح هذا الاتفاق في وقف القتال فإن انسداد آفاق الحل السياسي أثناء الحوار في تونس قد يشعل حرباً أشد وأنكى، بمعنى آخر الاتفاق هو مقدمة لمسار سياسي وأن السياسة صارت هي المحدد للحرب بعد أن كانت الحرب هي المحدد للسياسة أثناء العدوان على طرابلس.
هذا المخطر يتعزز باستمرار تدفق السلاح إلى ليبيا كما أكدت عملية إيريني التي نشرها الاتحاد الأوروبي لمراقبة تدفق الأسلحة إلى ليبيا بأن 120 رحلة جوية مشبوهة ربما تحمل شحنات أسلحة إلى ليبيا خلال مراقبتها 25 مطاراً ومهبطاً في ليبيا. هذا تحدٍّ كبير قد يجعل هذه الدول التي تدعم الحرب خاصة الإمارات ومصر اللتين لم يخلُ تقرير للجنة التابعة لمجلس الأمن لمتابعة خرق توريد الأسلحة إلى ليبيا من ذكرها ونشر الصور التي تؤكد هذه الحقيقة.
هل سيتوقف نقل السلاح إلى ليبيا؟ هل من الممكن أن يتوقف هذا السوق الذي تدل التقارير على أنه شبكة شاركت فيها حتى دول أوروبية عبر شركات عابرة للقارات تجد في هذه الحرب سوقاً رائجة. سوق الأسلحة الآن في ليبيا من أكبر الأسواق التي تبيع السلاح ربما علناً في بعض المناطق، فهل يمكن لهذه الدول أن تتراجع عن هذا السلوك الشبكي الذي مارسته الإمارات وروسيا خلال الحرب في ليبيا؟.
هذه الأسئلة سنجد الإجابة عنها بأن سلوك هذه الدول سيتغير في حال وجدت مصالحها في هذا الاتفاق الجديد والمسار الشرعي والقانوني الذي تتجه إليه الأزمة لكنه يظل أمراً يصعب تصديقه خاصة في الحالة التي عليها المؤسسات الليبية وضعفها. مخطر آخر يحيط بالاتفاق وهو غياب الأدوات والآليات التي يمكن أن تضمن خروج قوات الفاغنر والمرتزقة من وسط ليبيا. الاتفاق لم يبين أي آلية يمكن من خلالها إخراج هذه القوات من ليبيا، فليس هناك توقيت زمني ولا تعهد من قبل روسيا على ذلك، وليس هناك ما يشير إلى تناقص أعداد القوات في هذه المناطق. غياب الآليات قد يكون مخطراً بإمكانية عودة الصراع في حال نشوب أي نزاع أو تعثر في المسار السياسي.
مخطر آخر، وهو أنه حتى في حال وقف إطلاق النار ونجاح المفاوضات، فإن ميليشيات حفتر وبعض الميليشيات التي قاتلت في المنطقة الغربية لجانب قوات حكومة الوفاق قد لا ترضى على الاتفاق السياسي وتتحول إلى قوات مناوئة للحكومة الشرعية، وربما تحولت الميليشيات التابعة لحفتر من التيار التابع للشيخ ربيع المدخلي في السعودية ويسمون (بالمدخلية) إلى جماعة إرهابية تنتشر في الجنوب وربما كانت سبباً لمزيد من التدخل الدولي في حال لم ترض بعض الدول عن المسار السياسي خاصة روسيا التي يصعب التنبؤ بسلوكها.
سيناريوهات الاتفاق
في ضوء هذه الفرص والمخاطر يبدو أن للاتفاق فرص نجاح كبيرة، بينما تبدو المخاطر ممكنة لكنها ليست بالقوة التي قد تواجه هذا التغير السريع في المسار السياسي، فالمتوقع أن يستمر هذا الزخم وأن ينجح الاتفاق في وقف إطلاق النار، دون أن يعني ذلك خروج كل القوات الخارجية من ليبيا، وكل دولة ستسعى للدفع بالمسار السياسي من جانب، وخلق واقع يمكن القبول به من جانب آخر، وهذا سينقل الأزمة الليبية إلى محاولة كل دولة تصميم النظام الليبي وفقاً لمصالحها، من خلال دعم الحوار السياسي وفرض شروط كل دولة بما يخدم رؤيتها لليبيا ومصالحها فيها. وستزداد الأمور صعوبة بعد أن يصل المسار السياسي للانتخابات أو الحديث عن المناصب السيادية وسيبقى شبح الحرب يخيم على الجميع، إلى أن تصل الأزمة لنقطة توازن تتحقق فيها مصالح كل المتدخلين في الأزمة الليبية.
الأزمة الليبية دخلت في عنق الزجاجة وإن الخروج من هذا العنق سيترك آثاره، وإن الدول التي تدخلت في ليبيا لن تتركها بسهولة، كلٌّ وفق سياقه، لكن سيكون على الليبيين التفكير بعمق في بلدهم، وإن الآخر الذي تدخل اليوم قد يرسم مستقبل الغد، وإنه بدون أن يكون لليبيين رؤية جامعة تحدد طبيعة علاقة ليبيا بمحيطها سيظل الفاعل السياسي الليبي في موقع يستقبل الآخر وهو ضعيف غير قادر على أن يضع ليبيا في جملة استراتيجية يمكنها أن تؤثر في محيطها.
الاتفاق سيشكل مرحلة مهمة من تاريخ الأزمة الليبية، وربما نجح في بعض بنوده خاصة وقف إطلاق النار، لكن الأزمة الليبية ستظل تبحث عن رؤية وحل يصل لعمق الأزمة الليبية وهي أزمة دولة فشلت منذ أربعة عقود.