استقلال الأزهر كان مطلباً دائماً لأعضاء المؤسسة الأكبر في العالم السني منذ نحو 1000 عام.
فعلى عكس المؤسسات الدينية المسيحية والشيعية، كانت مسألة استقلال المؤسسة الدينية السنية مسألة صعبة التحقق على مدار 1400 عام.
فلأن المسيحية نشأت كديانة أقلية في مواجهة الإمبراطورية الرومانية، والمذهب الشيعي نشأ كمذهب أقلية في مواجهة الخلافتين الأموية والعباسية، فقد طورتا بنية مؤسسية مستقلة حافظت على نفسها مع الزمن حتى مع هيمنة المسيحية على أوروبا والإمبراطورية البيزنطية أو حتى عندما أصبحت إيران شيعية في عهد الصفويين، بل إن الكنيسة الكاثوليكية كانت لها دولة مستقلة وجيوش خاصة تنطلق من مقرها بروما في كثير من العصور، كما أن المرجعية الشيعية في إيران تصاعد دورها حتى وصل إلى تأسيسها الجمهورية الإسلامية في عام 1979.
ولكن المذهب السني الذي تبلور كمذهب الأغلبية والدولة منذ بداية ظهور الإسلام، لم تتشكل فيه المؤسسة الدينية بشكل هرمي ولم يكن شكل علاقتها مع الدولة محدداً، فتراوح بين التحالف والعداء، فالإمام مالك أحد الأئمة الأربعة للمذهب كان يتلقى أجراً رسمياً من الدولة، بينما الثلاثة الآخرون اعتقل كل منهم في مرحلة من مراحل حياتهم وظلت علاقتهم مع الخلافة الإسلامية ملتبسة ومتباينة.
ورغم أن غياب مؤسسة تراتبية صارمة في المذهب السني كان ينظر له أنه ميزة؛ لأنه لم يخلق دولة أو حالة كهنوتية تحتكر الدين، أو تقدم نفسها كوسيط بين الناس والله، فإنه خلق ضعفاً للمرجعيات أمام الدولة وتعدداً لهذه المرجعيات التي يمكن أن يكون بعضها متطرفاً سواء في تأييده للدولة أو متطرفاً في معاداته لها أو في فهمه للدين، وهو أمر ظهر في العقود الأخيرة بشكل واضح، إذ إن نشأة التطرف في العالم الإسلامي خلال الفترة الأخيرة كان أحد أسبابه ظهور شخصيات ومرجعيات دينية متطرفة استغلت تراجع سُمعة المؤسسات الدينية السنية الرسمية باعتبارها مؤسسات موالية للدولة، أو ما يُعرف في الأدبيات الإسلامية بعلماء السلطان.
وفي خضم هذا الجدل يظهر دور خاص لمؤسستين هما: الأزهر الشريف، والمؤسسة الدينية السعودية.
واللافت أنه بينما تمتعت المؤسسة الدينية السعودية باستقلال جزئي على مدار العقود الماضية، ولكن هذا الاستقلال اختفى تماماً في عهد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بينما الأزهر الشريف تراجع استقلاله، منذ عام ثورة يوليو/تموز 1952، ولكنه حقق استقلالاً جزئياً منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011، إلى اليوم رغم تراجع مساحة الحريات في مصر حالياً بشكل غير مسبوق.
تاريخ صعود الأزهر من مركز للفاطميين الشيعة إلى مسجد مهمل وصولاً لزعامة العالم الإسلامي السني
كان الأزهرُ أولَ مسجدٍ بناه الفاطميون عندما دخلوا مصر قادمين من المغرب مؤسسين القاهرة كعاصمة لهم عام 969 ميلادية أي قبل أكثر من 1000 عام، ويرجع الفضل في بنائه -الذي استغرق نحو عامين- إلى القائد الفاطمي النابه جوهر الصقلي الذي افتتحه للصلاة في السابع من شهر رمضان سنة 361هـ/972م.
ورغم أن الفاطميين هم الذين أسسوا الأزهر، فإنه لم يكن له في عهدهم دور كبير، إما لخوف الناس من المذهب الإسماعيلي الباطني الذي جاء به الفاطميون، رغم أنه لم يكن يدرس في الأزهر أو لأن الدولة الفاطمية كانت تحرص على سلطانها السياسي أشدَّ الحرص، وتُغْرِق في التمسك بعصبيتها المذهبية، ولا تفسح كبير مجال لنفوذ العلماء ورجال الدين خصوصاً إذا لم يكونوا من أوليائها وحملة دعوتها، ولم تكن عنايتها بنشر دعوتها المذهبية إلا توطيداً لدعوتها السياسية، ولم يكن للدعاة من العلماء ورجال الدين من النفوذ المستقل إلا ما يتجه نحو هذه الغاية، ويخضع لسياسة الدولة العامة.
ثم تراجعت مكانة الأزهر في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي لأنه كان ينظر إليه على أنه مركز للمذهب الشيعي الإسماعيلي الباطني، المذهب الرسمي للدولة الفاطمية التي أنهى صلاح الدين وجودها.
وفي عهد المماليك بدأ الأزهر يكتسب مكانته، خاصة بعد صعود القاهرة كحاضرة العالم الإسلامي وعاصمته السياسية والثقافية بعد سقوط بغداد في يد المغول عام 1258م.
لكن رغم أن الأزهر كان جامعة رائدة في العالم الإسلامي واستعاد رعاية حكام المماليك، فإنه لم يتفوق على المدارس الأخرى، كمكان مفضل للتعليم بين النخبة في القاهرة. غير أنه تصاعدت سُمعة الأزهر بوصفه مكاناً مستقلاً للتعليم، في حين أن المدارس الدينية التي تم بناؤها خلال حكم صلاح الدين الأيوبي كانت مندمجة تماماً في النظام التعليمي للدولة.
ولكن استمر الأزهر في جذب الطلاب من مناطق أخرى في مصر والعالم الإسلامي، وتجاوز أعداد الطلاب به أعداد الذين يحضرون المدارس الدينية الأخرى، وجرت دراسة فروع الشريعة الإسلامية بمتوسط مدة دراسة ست سنوات.
ولكن ازدادت أهمية الأزهر الدينية في العهد العثماني وتحديداً منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر، حسب دراسة نشرها مركز مصر للعلاقات الثقافية والتعليمية بإسطنبول.
فقد أظهر العثمانيون احتراماً كبيراً للمسجد وكُليته، على الرغم من توقف الرعاية الملكية المباشرة له، فقد حضر السلطان سليم الأول بعد دخوله إلى مصر صلاة الجمعة في الجامع الأزهر، وذلك خلال الأسبوع الأخير له في مصر، كذلك كان يحضر الأمراء العثمانيون بانتظام لصلاة الجمعة في الأزهر، وقد وفَّر العثمانيون رواتب للطلاب والمعلمين؛ لكن نادراً ما يتم القيام بأي تطويرات أو توسيعات بالمسجد خلال العهد العثماني، على عكس عهد المماليك التي أُجريت فيه الكثير من التوسيعات والإضافات.
وأدى صعود دور الأزهر في هذا العهد إلى تراجع النزاع بين المذاهب الفقهية التي كانت كل مدرسة كبيرة من مدارس القاهرة في العصر المملوكي تتخصص في تدريس واحد منها، وأصبحت كل المذاهب تُدَّرس بداخل الأزهر، فتحولت مكانة الجامع من مؤسسة تعليمية أقل مكانة إلى المؤسسة الأكبر التي تندرج تحتها بقية المؤسسات التعليمية.
أما الموارد المالية للأزهر وأوقافه في ذلك العصر فقد تزايدت بشكل كبير خاصة منذ عهد السلطان سليمان القانوني، وقد عمل الولاة العثمانيون والأمراء المماليك على تطويره طوال فترة الدراسة، وقد أوقف السلطان سليمان جزءاً كبيراً من أموال الجزية الخارجة من مصر على علماء الأزهر والمشايخ والمجاورين.
كيف كان يتم اختيار شيخه عبر العصور؟
تم استحداث منصب شيخ الأزهر في العهد العثماني، وكان يتم اختياره بالانتخاب.
أما أهمية منصب شيخ الأزهر فكانت أهمية سياسية أكبر من أهميته الدينية، وكان دور الشيخ الأكبر منذ نشأة المنصب هو واسطته في العلاقة بين السلطة من جهة والأهالي من جهة أخرى، كما كان الشيخ عضواً في الديوان الحاكم بالقاهرة الذي يُعقد برئاسة الوالي كل أسبوع لمناقشة أحوال مصر السياسية والاقتصادية والإدارية، وعندما كان يتم عزل الوالي وتعيين قائم مقام بدلاً منه كان لابد من أن يصادق شيخ الأزهر على العزل، وبنزول الفرنسيين القاهرة عام 1798 كان شيخ الأزهر أهم شخصية سياسية في مصر بعد انسحاب المماليك.
ولكن منذ عام 1812، أصبح يتم تعيينه بواسطة الوالي محمد علي باشا، وفقد الأزهر استقلاله جزئياً مع نشأة الدولة القوية في مصر.
استقلال الأزهر.. كيف كان يتم انتخاب الشيخ في العهد الملكي؟
لكن فكرة استقلال الأزهر وتحديداً مسألة طريقة اختيار شيخه عادت مع بدء الفترة الليبرالية في مصر، وأصبحت أبرز إشكالية بين الأزهر والدولة في مصر، وكان واضحاً أن مقدار استقلال الأزهر يرتبط بمقدار ديمقراطية الدولة المصرية.
فبعد ثورة 1919، وتحقيق مصر استقلالاً جزئياً عن بريطانيا وإجراء انتخابات برلمانية، وقع نزاع دستوري بين الملك، والحكومة والبرلمان حول حق تعيين شيخ جامع الأزهر والرؤساء الدينيين، مسلمين وغير مسلمين. هذا النزاع منشؤه الأساسي دستور 1923.
فقبل أن تضع لجنة الثلاثين هذا الدستور كان حق تعيين شيوخ الأزهر والرؤساء الدينيين للسلاطين.
يقول الشيخ محمد الأحمدي الظواهري عن هذا الأمر: "رأى بعض أعضاء اللجنة أن حقوق الملك هذه في تعيين الرؤساء الدينيين تنتقل من نفسها وبطبيعة الحكم النيابي إلى الحكومة من جهة التنفيذ، وإلى البرلمان من جهة التشريع وجهة الإشراف، شأنها في ذلك شأن باقي شؤون الأمة الأخرى. ثم طلبوا أن يتنازل الملك عن هذا الحقوق إلى هاتين الجهتين".
هذه المطالَبة التي يشير الشيخ الظواهري إليها تمخضت عن صدور قانون رقم 15 لسنة 192.
الشيخ الظواهري خلص إلى أن القانون المشار إليه "لم ينقل حقوق الملك بأجمعها في تعيين الرؤساء الدينيين إلى الحكومة، بل هو شارك رئيس الوزراء مع الملك في إجراءات التعيين، أو هو جعل حق الاختيار لرئيس الوزراء وحق الموافقة للملك، وظاهر أن كلا الحقين متمم للآخر في تنفيذ التعيين".
استناداً إلى هذا القانون كسبت الوزارة الائتلافية ما بين حزب الأحرار الدستوريين وحزب الوفد الجولة الأولى في النزاع الدستوري على حق تعيين شيخ جامع الأزهر، بتعيين مرشحها مصطفى المراغي عام 1928، وكان مرشح الملك فؤاد محمد الأحمدي الظواهري.
الملك ينتصر
هذا الجولة مدتها قصيرة، فقد اضطر شيخ الأزهر المراغي أن يقدم استقالته في عام 1929. وعين خلفاً له مرشح الملك، الظواهري. وكانت مدة الجولة الثانية التي كسبها الملك أطول من الجولة الأولى.
ومع مشيخة المراغي الثانية للأزهر عام 1935، تعززت تبعية الأزهر للملك وكان المنتظر غير ذلك. فقد فشلت وزارة الوفد في إجباره على الاستقالة، وذهبت هذه الوزارة، وبقي هو شيخ الأزهر إلى أن تُوفّي.
وبعد كسب الملك فاروق لهذه الجولة اختفى النزاع الدستوري على حق تعيين شيخ الأزهر، فأصبح حق تعيينه للملك وحده. وهذا الحق انتقل من الملك إلى رئيس الجمهورية في العهد الجمهوري.
الأزهر في عهد الجمهورية.. توسع في المؤسسات وتقليل في الصلاحيات
ومع بداية العصر الجمهوري أصبحت سيطرة الدولة على الأزهر أكبر مع النشأة الأولى للنظام الإقليمي العربي الذي حرص على تدجين الإسلام الرسمي واستخدامه.
فبعد 23 يوليو/تموز 1952، لم يستطع شيوخ الأزهر أن يتخذوا موقفاً حاسماً ضد تدخل الرؤساء في الأمور الدينية بسبب القانون الذي وضعته الثورة حينها ليصبح اختيار الإمام من مهام الرئاسة، وسعى بعضهم إلى تملق الحكومة، فيما لم يجد آخرون سوى الاستقالة كسبيل للاعتراض على عدم فصل السياسة عن الدين.
وصدر قانون للأزهر، عام 1961 الذي توسع في التعليم المدني ومعاهده العليا، وألغى جماعة كبار العلماء، وقلص سلطات شيخ الأزهر، وغلّ يده في إدارة شؤونه، وأعطاها لوزير الأوقاف وشؤون الأزهر، وهو الأمر الذي عجّل بصدام عنيف بين محمود شلتوت شيخ الأزهر الذي صدر القانون في عهده، وبين تلميذه الدكتور محمد البهي الذي كان يتولى منصب وزارة الأوقاف، وفشلت محاولات الشيخ في استرداد سلطاته وإصلاح الأوضاع المقلوبة.
في 27 مارس/آذار 1974، صدر قرار تعيين الشيخ عبدالحليم محمود شيخاً للأزهر، وما كاد الشيخ يمارس أعباء منصبه، حتى فوجئ بصدور قرار من الرئيس الراحل أنور السادات يقلص اختصاصات الأزهر وشيخه يمنحها لوزير الأوقاف والأزهر، فما كان من الشيخ عبدالحليم محمود إلا أن قدم استقالته لرئيس الجمهورية على الفور، معتبراً أن هذا القرار يغض من قدر المنصب الجليل ويعوقه عن أداء رسالته الروحية في مصر والعالم العربي والإسلامي.
تدخل البعض لإثنائه عن قراره، لكن الشيخ أصر على استقالته، وامتنع عن الذهاب إلى مكتبه، ورفض تناول راتبه، وطلب تسوية معاشه، وأحدثت هذه الاستقالة دوياً هائلاً في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، وتقدم أحد المحامين برفع دعوى حسبة أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة ضد رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف، طالباً وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية.
إزاء هذا الموقف اضطر أنور السادات إلى معاودة النظر في قراره ودراسة المشكلة من جديد، وأصدر قراراً أعاد فيه الأمر إلى نصابه، ثم صدر قرار جمهوري بعد وفاة الشيخ بمساواة منصب شيخ الأزهر بمنصب رئيس الوزراء.
طنطاوي ذروة هيمنة الدولة على الأزهر
ويلاحظ أنه خلال العهد الجمهوري ظلت هيمنة النظام على الأزهر قوية، إلا أن شيوخ الأزهر حاولوا بدرجات متفاوتة الحفاظ على مكانة المنصب بأقل صدام ممكن مع السلطة، وظهر خلال الفترة بعض المواقف المستقلة مثل تحريم شيخ الأزهر الراحل جاد الحق علي جاد الحق التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي ورفض إجازة زيارة القدس.
لكن هيمنة الدولة عبر الآليات القانونية على الأزهر، خاصة من خلال اختيار الرئيس لشيخه تبدت نتائجها واضحة في عهد الشيخ محمد سيد طنطاوي، الذي عُين عام 1996 شيخاً للأزهر بموجب مرسوم رئاسي بعدما كان مفتياً للجمهورية المصرية منذ 1986، واستمر شيخاً للأزهر حتى مارس/آذار 2010.
واتسم عهد طنطاوي بتراجع مكانة الأزهر المعنوية جراء فتاويه المثيرة للجدل التي نُظر إليها على أنها مملاة عليه من السلطة.
ومن أبرز فتاوى طنطاوي جواز التحاق الفتيات بالكليات العسكرية والجيش. كما رأى أن المرأة "تصلح أن تكون رئيسة للجمهورية وتتمتع بالولاية العامة التي تؤهلها لشغل المنصب"، كما أفتى بتحليل فوائد البنوك.
وأثار الكثير من الجدل عند مصافحته الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر حوار الأديان الذي نظمته الأمم المتحدة والسعودية بجنيف عام 2008.
وقبلها في 2003 بقوله إن لفرنسا الحق في منع الحجاب في المدارس، وذلك بعد اجتماع علماء الأزهر مع نيكولا ساركوزي الذي كان يتولى منصب وزير داخلية فرنسا آنذاك (أصبح ساركوزي رئيساً بعد ذلك).
كما قرر طنطاوي منع النقاب في مؤسسات الأزهر ومعاهده حين لا يكون فيها رجال.
كانت مواقف طنطاوي المثيرة للجدل لها تأثير شديد السلبية على مكانة الأزهر، خاصة في ظل زيادة نفوذ التيار السلفي، وكذلك المؤسسة الدينية السعودية.
إلى أن جاء شيخ قادم من أمانة السياسات التي يترأسها نجل مبارك، لكنه فاجأ الجميع
بعد وفاة طنطاوي، بدا أنه لم يحدث تغيير كبير بتولي الدكتور أحمد الطيب مشيخة الأزهر، وهو القادم من أروقة النظام عبر عضويته في أمانة السياسات التي كان يترأسها نجل حسني مبارك جمال مبارك.
ولكن ثورة يناير 2011 التي تحفظ عليها شيخ الأزهر أحمد الطيب كان لها تأثير هائل على الأزهر وشيخه، فجراء الحراك الديمقراطي الذي شهدته البلاد، عزز أحمد الطيب استقلال المؤسسة عبر سلسلة من الوثائق التي رعاها، إضافة إلى المكانة الكبيرة التي اكتسبتها المؤسسة التي أصبحت مرجعية لتفسير الجوانب الدينية في دستور 2012 الذي وضع في عهد الإخوان (مرجعية غير ملزمة).
كما أعاد الطيب "هيئة كبار العلماء"، التي كانت قد أنشئت عام 1911 وتم حلها في سنة 1961 لتعود في عام 2012، ومن ضمن اختصاصها انتخاب شيخ الأزهر، وترشيح مفتي الديار المصرية والبت في الأمور الدينية.
والإنجاز الأكبر الذي تحقق بعد ثورة يناير 2011، كان تمرير قانون لانتخاب شيخ الأزهر بالاقتراع السري، من خلال هيئة كبار العلماء بالأزهر، وهي مجمع البحوث الإسلامية حالياً.
إذ أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الهيئة التي حكمت مصر بعد سقوط مبارك، خطوةً بدت عاجلة قبل بضعة أيام من انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان، الذي انتُخِب بين أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012، حين أصدر بشكلٍ أحاديّ تعديلات على القانون 103 منحت الأزهر على نحو فعّال وضعاً شبه مستقل.
وكان د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، قد شكّل قبل ذلك لجنة ترأسها المستشار طارق البشري، الفقيه القانوني ورئيس لجنة تعديلات الدستور، لإعداد القانون عقب ثورة 25 يناير بعد تصاعد المطالبات بتحرير الأزهر من قيود الدولة عبر اختيار شيخ الأزهر من قبل رئيس الجمهورية.
لم تمنح هذه التغييرات الأزهر الاستقلالية وحسب، بل عزّزت أيضاً مكانة الطيب في داخل المؤسسة. إذ سمحت له باحتكار السيطرة على التشكيل الأولي لهيئة كبار العلماء. وبما أن الهيئة أُعطيَت صلاحية تسمية المفتي، دخل هذا المنصب الذي ينافس تقليدياً المشيخة تحت سيطرة الأزهر فعليّاً. فضلاً عن ذلك، أكدت التعديلات أن الحفاظ على قيادة الأزهر الحالية، وتمكين الطيب من العمل بما يصبّ في مصلحة الأزهر دون فتح مزيد من النقاش في المؤسسة، إلا في صفوف الأشخاص الذين يعيّنهم شيخ الأزهر بنفسه.
والمفارقة أن هذه الخطوة من قبل المجلس العسكري والطيب كان يبدو عند اتخاذها أن الهدف هو تعزيز استقلال الأزهر كإحدى مؤسسات الدولة العميقة في مواجهة الإخوان والسلفيين المسيطرين على البرلمان، ولكن نتيجتها ستكون معاكسة تماماً على العلاقة بين الأزهر والدولة.
الطيب والسيسي من التحالف إلى الجفاء
شارك شيخ الأزهر في اجتماع 3 يوليو/تموز 2013 الذي عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، ولكن بعد مذبحة ميدان رابعة العدوية، اتخذ شيخ الأزهر أحمد الطيب موقفاً لافتاً بإعلانه الاعتزال احتجاجاً على إراقة الدماء.
ومنذ ذلك الوقت، فإن العلاقة بين الطيب والسيسي تتسم بالتوتر، والمنافسة بين الجانبين وتبادل الغمز واللمز، في محطات عديدة، الأمر الذي وصل لذروته إلى التلويح بإدراج تعديلات دستورية في عام 2019، تعيد سلطة اختيار شيخه الأكبر إلى رئاسة الجمهورية، كما كان الحال قبل 2012، وإنهاء اختياره بالانتخاب من قبل هيئة علماء الأزهر.
ولكن تم إلغاء هذه التعديلات بوساطة مشتركة قام بها وزير خارجية الإمارات عبدالله بن زايد، والرئيس المؤقت سابقاً والرئيس السابق للمحكمة الدستورية عدلي منصور، تم التوافق على خطوات متوازية بين كل من السلطة التنفيذية ومشيخة الأزهر لحذف مادة مقترحة في التعديلات الدستورية، التي نظرها البرلمان، والتي كان من شأنها أن تنهي استقلال الأزهر بالعودة إلى وضع سلطة اختيار شيخه الأكبر في يد رئاسة الجمهورية، كما كان الحال قبل 2012، وإنهاء اختياره بالانتخاب من قبل هيئة علماء الأزهر، بحسب مصدر قريب من دوائر المشيخة آنذاك.
القرار بحذف المادة الخاصة بالأزهر من التعديلات صدر بعد أن قبل أحمد الطيب مقترحاً تقدم به الوسيطان بتلبية مطلب السلطة التنفيذية بإبعاد رجلين من رجال الطيب الأقوياء عن المشيخة.
الأول هو عباس شومان، وكيل الأزهر من عام 2013 المقرب من الإمام الأكبر، والذي كانت السلطة التنفيذية قد وافقت على مضض قبل عامين تجديد انتدابه من جامعة الأزهر إلى منصب الوكيل، قبل أن تقرر عام 2018 رفض التجديد فترة أخرى، ما دفع الطيب لنقل شومان من منصبه التنفيذي بالمشيخة واستبقائه عبر عضوية هيئة علماء الأزهر، التي تركها بعد ذلك ضمن التسوية.
الثاني هو محمد عبدالسلام، المستشار القانوني للإمام الأكبر، الذي قبل الطيب ذهابه عن المشيخة.
الشيخ يضحي من أجل عدم استباحة المنصب بعده
"شومان وعبدالسلام كانا من أقوى الشخصيات في الأزهر، وكانا يديران العديد من الأمور الخاصة بعمل المشيخة ويمثل ذهابهما فقداً كبيراً للإمام الأكبر، لكنه في النهاية مدرك أن هناك تنازلاً ما عليه أن يقدمه عوضاً عن أن تأتي التعديلات الدستورية بمادة تتيح لرئيس الجمهورية عزله، وهو ما لا يمانع فيه الرجل لأنه غير مستريح في منصبه بسبب المناوشات المستمرة بينه وبين الرئاسة، ولكن ما يخشاه أن يكون ذهابه هو عنوان لاستباحة الأزهر بما يجعله في خدمة السلطة التنفيذية عوضاً عن أن يكون هيئة دينية لها مهابتها وإسهاماتها"، حسبما قال آنذاك لموقع مدى مصر مصدر قريب من المشيخة.
ثم وقعت جولة جديدة من الصراع بين مؤسسة الأزهر والسلطة في مصر حسمها الأزهر لصالحه بعد أن تراجع البرلمان المصري عن مناقشة وإقرار قانون دار الإفتاء في جلسة عامة.
وتاريخياً كان المفتي يعيّن من قبل رئيس الجمهورية، لكن في عام 2013 انتخبت هيئة كبار العلماء للمرة الأولى مفتي الجمهورية، وفقاً لقانون الأزهر الذي صدر عام 2012.
لكن القانون المقترح الذي قدمته اللجنة الدينية للبرلمان تحت مسمى "قانون تنظيم دار الإفتاء" كان يهدف إلى استقلال دار الإفتاء عن الأزهر، ومنح رئيس الجمهورية حق تعيين المفتي، على أن يتم اختباره من بين ثلاثة أسماء ترشحها هيئة كبار العلماء، خلافاً للوضع الحالي الذي يقتصر على تعيين الاسم الذي ينتخبه كبار العلماء.
وضع شيخ الأزهر الحالي في الدستور والقانون.. وكيف سيتم اختيار الإمام القادم؟
نص الدستور المصري فى مادة 7 على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم، وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء، وهذه المادة هي ذاتها تقريباً كانت موجودة في دستور 2012 الذي وضع في عهد الإخوان".
وحتى قبل اعتماد دستور 2012، تم اعتماد قانون في 2012 -خلال فترة إدارة المجلس العسكري للبلاد- وجاء في بعض بنوده تعيين شيخ الأزهر بطريق الانتخاب من بين أعضاء هيئة كبار العلماء وليس بالتعيين من قبل رئيس الجمهورية، وأن يكون من خريجي إحدى الكليات الأزهرية المتخصصة في علوم أصول الدين والشريعة والدعوة الإسلامية واللغة العربية، وأن يكون قد تدرج في تعليمه قبل الجامعي بالمعاهد الدينية الأزهرية، وتختار هيئة كبار العلماء لهذا المنصب ثلاثة من بين أعضائها الذين تتوافر فيهم الشروط المقررة بشأن شيخ الأزهر عن طريق الاقتراع السري في جلسة سرية يحضرها ثلثا عدد أعضائها، ثم تنتخب الهيئة شيخ الأزهر من بين المرشحين الثلاثة في ذات الجلسة بطريق الاقتراع السري المباشر، ويصبح شيخاً للأزهر إذا حصل على الأغلبية المطلقة لعدد أصوات الحاضرين، ويعامل شيخ الأزهر معاملة رئيس مجلس الوزراء من حيث الدرجة والراتب والمعاش وكافة المزايا.
ووفقاً لهذا القانون، يظل شيخ الأزهر في منصبه حتى سن الثمانين، ثم يعود من جديد لشغل مقعده في هيئة كبار العلماء، وينتخب شيخ جديد من أعضاء هيئة كبار العلماء المكونة من 40 عضواً.
عزل شيخ الأزهر
في ظل الأزمات المتتالية بين شيخ الأزهر والرئاسة تعالت الأصوات التي تنادي بعزل الإمام، وتكهنت أصوات أخرى بأن الرئيس عبدالفتاح السيسي في طريقه لعزل الطيب.
ورغم القانون الواضح والصريح، فإن مطالبات تعديل قانون الأزهر تطفو على السطح مع كل خلاف يظهر بين الإمام والرئيس، وسبق أن أعلن النائب محمد أبوحامد -عضو مجلس النواب- أنه يعمل على إعداد قانون يمنح رئيس الجمهورية حق اختيار هيئة كبار العلماء بدلاً من شيخ الأزهر.
ويهدف هذا المقترح إلى أن تصبح عملية اختيار شيح الأزهر في يد رئيس الجمهورية، لأن اختيار الرئيس لهيئة كبار العلماء هو اختيار غير مباشر لشيخ الأزهر.
المؤسسة الوحيدة شبه المستقلة في مصر
رغم بعض هزائمه أمام السيسي فقد نجح شيخ الأزهر في الحفاظ على قدر من استقلال المؤسسة في وقت خسرت كل مؤسسات الدولة في مصر استقلالها، حتى مؤسسات حافظت على قدر كبير من الاستقلال في عهد مبارك مثل مؤسسات القضاء الكبرى ونادي القضاة.
كما أن شيخ الأزهر يكاد يكون الشخصية الوحيدة التي ما زالت في منصبها أو ما زال لها دور على الساحة من كل الشخصيات المصرية التي لعبت دوراً خلال السنوات الماضية، بمن فيهم شركاء السيسي في 30 يونيو/حزيران 2016.
فالسياسي الليبرالي محمد البرادعي منفيّ خارج مصر، وحزب النور السلفي لا يكاد يسمع له صوت (ومشاهيره الدعاة السلفيون اختفى صوتهم)، ووزير الدفاع السابق صدقي صبحي الذي كان رئيساً للأركان إبان أحداث 30 يونيو/حزيران 2016 أقيل، ومحمود حجازي نسيب السيسي الذي تلا صدقي في المنصب أقيل ويعتقد أنه وضع لفترة رهن شكل من الإقامة الجبرية، والمرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق في نفس الوضع، وأحمد الزند رئيس نادي القضاة السابق وأحد رموز الثورة المضادة الرئيسية والذي لعب دوراً كبيراً ومبكراً ضد الإخوان عُزل من منصبه كوزير للعدل.
والفريق سامي عنان، رئيس الأركان السابق، اعتقل بعد إعلان عزمه الترشح للرئاسة (ثم أطلق سراحه) والمشير محمد حسين طنطاوي، رئيس المجلس العسكري السابق، لا يظهر له أي دور، وكل قادة ورموز المعارضة الذين احتشدوا ضد الإخوان إما صامتون كعمرو موسى أو معتقلون كعبدالمنعم أبوالفتوح، أو هاربون في المنافي كممدوح حمزة والمخرج خالد يوسف.
بالنظر إلى أن المحاذير القانونية والدستورية، وحتى المعنوية لم تقف يوماً حائلاً أمام الرئيس السيسي في تنفيذ أي رؤية أو رغبة له، يبدو مشروعاً التساؤل: لماذا لم يُقِل السيسي الطيب بطريقة ما، أو يُجبره على الاستقالة، أو يعدل الدستور كما لوّح بما يسمح بعزله أو تحديد مدة توليه للمنصب، وماذا سيحدث بعد مرحلة الشيخ الطيب؟
من الصعب معرفة ما يدور في عقل الرئيس، الذي عاتب شيخ الأزهر علناً مراراً، لكن الملاحظ أن الشيخ في النهاية يعرف حدوده مع الجنرال، كما أن الجنرال يعرف قامة الشيخ.
يرى تقرير لمركز كارنيغي الأمريكي أن ملايين الخريجين من مؤسسات الأزهر التعليمية، وأعضاء الجمعيات الصوفية والقبائل المرتبطة بالإمام الأكبر في جنوب مصر، والرأي العام المتديّن المستاء من العنف الذي لجأ إليه النظام في عام 2013، سيرصّون صفوفهم ليس بدافع تحدّي النظام إنما للدفاع عن الطيب ومكانته.
ولكن لا تجب المبالغة في تقييم قدرة هؤلاء المؤيدين على حماية شيخ الأزهر، فقد أثبت النظام قدرته على سحق أي معارضة، لكن الشعبية التي يحظى بها الطيب في الداخل والخارج وعلاقته مع الحليف الإماراتي، تجعل التكلفة المعنوية لإقصائه كبيرة على النظام، ولذلك يبدو أن السيسي يفضل أن يخوض معه معركة بالنقاط عكس كل معاركه الصفرية السابقة.
ولكن الأهم بالنسبة للسيسي هو معركة المستقبل، التي قد تكون معركة الأزهر الكبرى.
ماذا سيحدث للأزهر بعد الطيب؟
السيسي فضّل عدم عزل شيخ الأزهر حتى لا يخوض معركة قد يتعرض فيها الجنرال لبعض الخسائر المعنوية وضغوط من حلفائه الإماراتيين (الذين صمت الشيخ عن تطبيعهم مع إسرائيل)، وأيضاً قد تكون كاريزما الرجل الداخلية، والنظرة العالمية له كزعيم معتدل ومحافظ للإسلام السني مثبطة لرغبة السيسي في الإطاحة به.
ولكن ماذا سيحدث إن غاب الشيخ بهذه المهابة التي خلقها لنفسه، والتي ساعد عليها أن الرجل كان من أشد معارضي الإخوان في ذروة قوتهم (بينما السيسي كان الرجل الذي اختاروه وزيراً للدفاع)، الأمر الذي يجعل من الصعب توجيه الاتهام الذي يوجه لأي شخص مستقل بانه إخوان.
ووفقاً للقانون الذي أصدره المجلس العسكري عام 2012، فإن شيخ الأزهر يحال للتقاعد عند سن الثمانين، وشيخ الأزهر مواليد عام 1946، أي أن الطيب بقي أمامه ست سنوات للخروج للتقاعد.
على الأرجح في حال خروج الطيب من المشهد فإن السيسي سيواصل سياسته الاستحواذية، وسيسعى إلى إعادة تعديل قانون انتخاب شيخ الأزهر بحيث يكون هو صاحب اليد العليا، في اختياره.
خاصة أن الأمر قد لا يستلزم على الأرجح تعديل الدستور؛ لأن الدستور أوكل للقانون تنظيم طريقة انتخاب شيخ الأزهر عبر هيئة كبار العلماء، ولذلك يبدو أنه ممكن في هذه الحالة تطبيق الاقتراح الذي طرح من قبل بتغيير طريقة تعيين هيئة كبار العلماء بحيث يتم اختيارهم من قبل الرئيس (بدلاً من اختيارهم من شيخ الأزهر كما هو جارٍ حالياً) أو أن يوكل لرئيس الجمهورية اختيار أغلبية الأعضاء على الأقل.
وقد تحاول هيئة كبار العلماء في حال غياب الطيب الإسراع باستغلال القانون الحالي، لاختيار خلف مستقل للشيخ، لكن لا يتوقع أن تستطيع الهيئة بعلمائها الموقرين مجاراة أجهزة الدولة الأمنية والسياسية في حسم الأمور وإدارة المكائد السياسية.
وفي حال غياب أو تواري شخصية الطيب المحورية، ستكون الهيئة (التي لا يعرف الرأي العام العالمي والمحلي من أعضائها غير الطيب) أضعف كثيراً من وضعها الحالي، خاصة بعد استبعاد مساعدي الطيب الأقوياء عباس شومان (وكيل الأزهر السابق والعضو السابق بالهيئة، ومحمد عبدالسلام، (المستشار القانوني السابق للإمام الأكبر).
وفي هذه الحالة سيتحقق على الأرجح حلم السيسي بالقضاء على استقلال الأزهر، الذي حققه الطيب بعد 200 من عام من ضياع هذا الاستقلال في عهد محمد علي.
ولكن لن ينسى التاريخ أن الأزهر نال استقلاله المنشود الذي بحث عنه قبل 100 عام في وقت فقدت فيه كل المؤسسات المصرية استقلالها.