12 شاباً تم خطفهم وإعدام 8 منهم رمياً بالرصاص ومصير الباقين مجهول، وتكررت الوعود بمحاسبة منفذي المجزرة دون خطة واضحة لتنفيذ تلك الوعود، فإلى متى يستمر شلال الدم الذي يستهدف العراقيين المطالبين بمحاربة الفساد واستعادة استقلال القرار؟
جريمة ليست الأولى وقد لا تكون الأخيرة
حين استيقظ العراقيون فجر السبت 17 أكتوبر/تشرين الأول الجاري على مجزرة هزت البلاد، وبالتحديد في ناحية "الفرحاتية" بقضاء "بلد" جنوبي محافظة "صلاح الدين"، ذات الأكثرية السُنية، شمالي البلاد، حيث قتل مجهولون ثمانية أشخاص رمياً بالرصاص، ولا يزال مصير أربعة آخرين مجهولاً.
وتفاصيل المجزرة جاءت على لسان محافظ صلاح الدين عمار جبر خليل، في تصريح متلفز، حيث قال: "جهة مسلحة مجهولة الهوية ترتدي الزي العسكري قامت بخطف 12 شاباً من أهالي الفرحاتية، واقتادتهم إلى جهة مجهولة".
"وبعد ساعة واحدة فقط، تم العثور على ثمانية منهم تمت تصفيتهم رمياً بالرصاص"، وأغلب الإصابات في منطقتي الرأس والصدر من أجساد الضحايا، وأظهرت صور تداولتها وسائل الإعلام المحلية جثة إحدى الضحايا منكبة على وجهها ومقيدة اليدين، بينما كانت الجثث الأخرى مغطاة ببطانيات.
المجزرة أعادت لأذهان العراقيين مشاهد الرعب الدموية التي عاشوها عامي 2006 و2008 إبان العنف الطائفي بين الشيعة والسُنة، وكذلك سنوات الحرب ضد "داعش" (2014 – 2017)، حين كانت الجثث متناثرة في الأرجاء، ولا تزال في العراق خلايا لـ"داعش" تشن هجمات من آن إلى آخر.
الكاظمي يتعهد ويتوعد
سارع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بالتوجه إلى "صلاح الدين" برفقة قادة الأمن، وبينهم رئيس هيئة "الحشد الشعبي" فالح الفياض، وذلك لطمأنة سكان المحافظة، وأمر الكاظمي بتحويل مسؤولي الأمن في منطقة المجزرة إلى التحقيق بتهمة "التقصير" في أداء واجبهم، وتعهد، خلال مشاركته في مجلس عزاء الضحايا، بحماية سكان المحافظة، وملاحقة المتورطين ومحاسبتهم.
ومن المهم هنا ذكر ملابسات المجزرة التي وقعت بعد يوم واحد من هجوم شنه مسلحون من "داعش" على فصيل "عصائب أهل الحق" في منطقة "الفرحاتية" ذاتها، ما أدى إلى مقتل أحد مقاتلي "العصائب" وإصابة آخر بجروح.
المركز العراقي لتوثيق الجرائم (غير حكومي) أصدر بيانا السبت اتهم فيه مقاتلي فصيل "عصائب أهل الحق" الشيعي بالوقوف وراء مجزرة "بلد"، وهو ما نفاه المتحدث باسم الفصيل جواد الطليباوي بقوله للأناضول إن "منطقة الفرحاتية ليست من مسؤولية عصائب أهل الحق من الناحية الأمنية، ولا وجود لعناصرنا بالمنطقة"، مضيفاً أن "الاتهامات التي صدرت باطلة، ويراد منها خلط الأوراق، وننتظر نتائج التحقيقات بالحادثة".
من الجاني؟
"عصائب أهل الحق" من أبرز الفصائل الشيعية العراقية المسلحة المقربة من إيران ويتزعمها قيس الخزعلي، وفصائل الحشد الشعبي هي ميليشيات مسلحة تشكلت أثناء الحرب على داعش وأصبحت الآن تمثل رمزاً للسلاح المنفلت في البلاد وفشلت محاولات رئيس الوزراء السابق والحالي ضمها تحت قيادة الجيش العراقي.
وكتب رعد الدهلكي، وهو نائب سُني في البرلمان عن محافظة ديالى، المجاورة لـ"صلاح الدين"، تغريدة على "تويتر" قال فيها إن "جريمة بلد في محافظة صلاح الدين ليست الأولى ولن تكون الأخيرة التي تنفذها الميليشيات الطائفية المنفلتة"، متابعاً: "على الكاظمي إنهاء هذا الاستهتار، في حال أراد استمرار العملية السياسية في شكلها المعترف به دولياً"، مطالباً بـ"إخراج الجهات السياسية المسلحة من محافظاتنا".
كما كتب فلاح الزيدان، وهو نائب عن محافظة نينوى (شمال)، على "تويتر": "لن نصبح مشروع قتل دائم من قبل الميليشيات الطائفية، ولن نقبل بذلك"، وأردف: "سندافع عن أنفسنا ما لم يتخذ القائد العام للقوات المسلحة (رئيس الحكومة) إجراء حازماً وفورياً بإخراج هذه الميليشيات من محافظاتنا، وسنتخذ كل المسارات الدستورية الضامنة لحقوقنا. جريمة بلد لن تمر مرور الكرام ولن نساوم على دماء أهلنا".
أمريكا أيضاً دخلت على الخط
وأضافت أن "هذه الميليشيات تشن هجمات على ناشطين ومتظاهرين سلميين وعلى مقرات أحزاب سياسية ودبلوماسية"، معتبرة أن "أفعال الجماعات التي تدين بالولاء لإيران تمنع المجتمع الدولي من مساعدة العراق، وتقود البلاد نحو العنف الطائفي وعدم الاستقرار".
واتهمت واشنطن، مراراً، هذه الفصائل، بشن هجمات على سفارتها في بغداد وقواعد عسكرية تستضيف قوات التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، وذلك تنفيذاً لأوامر إيرانية، وتصاعدت وتيرة هذه الهجمات في أعقاب اغتيال كل من قائد "فيلق القدس" الإيراني، قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، في غارة جوية أمريكية ببغداد، في 3 يناير/كانون الثاني الماضي.
هل يعود الاقتتال الطائفي؟
أحيت مجزرة "بلد" دعوات قديمة للسُنة إلى إبعاد الفصائل الشيعية المسلحة عن المناطق ذات الغالبية السُنية، وإسناد مهمة حفظ الأمن فيها إلى الشرطة والجيش، وبعد اجتماع لهم مساء السبت، دعا نواب محافظة "صلاح الدين" في البرلمان الحكومة إلى "اتخاذ موقف صارم وحقيقي وإخراج الفصائل المسلحة من محافظتهم".
وقال النواب، في بيان مشترك، إنّ "وجود جماعات مسلحة تصادر القرار الأمني وتمنع القوات الأمنية بجميع صنوفها من القيام بواجبها في حماية أمن المواطنين، أصبح غير مقبول"، مضيفين أن "المواطنين في المحافظة بين نارين، فلا يسمح لهم بحمل السلاح ليدافعوا عن أنفسهم ضدّ العصابات المجرمة والجماعات الإرهابية الداعشية، ولا توجد حماية لهم من الأجهزة الأمنية التي هي نفسها تعاني من تدخل بعض الجماعات المسلحة في عملها وخططها، مما يربك الأوضاع الأمنية في المحافظة".
وتنتشر فصائل "الحشد الشعبي" الشيعية في المناطق ذات الأغلبية السنية شمالي وغربي العراق منذ استعادة تلك المناطق من قبضة "داعش" خلال سنوات الحرب بين 2014 و2017، و"الحشد الشعبي" تابع رسمياً للقوات المسلحة العراقية، ويضم تحت مظلته فصائل تتلقى التمويل والأسلحة من إيران، مثل "عصائب أهل الحق" و"حزب الله العراقي".
وتواجه فصائل الحشد اتهامات محلية ومن منظمات حقوقية دولية، بينها "هيومن رايتس ووتش"، بارتكاب انتهاكات بحق السُنة خلال سنوات الحرب ضد "داعش"، منها تعذيب وإخفاء القسري واحتجاز وقتل تحت التعذيب، وعادة ما ينفي قادة الفصائل ارتكاب انتهاكات "ممنهجة"، ويعتبرون ما يحدث أحياناً ممارسات فردية مرفوضة.
وفي ظل هذه المعطيات والاتهامات، أرسل الكاظمي، الأحد، لجنة إلى محافظة "صلاح الدين" للتحقيق في ملابسات المجزرة وملاحقة المتورطين ومحاسبتهم، ومنذ تشكيل حكومة الكاظمي، في مايو/أيار الماضي، تعهدت مراراً بملاحقة ومحاسبة الضالعين في قتل المئات من المتظاهرين والنشطاء والصحفيين، لكن لم يتم حتى الآن تقديم أي متهم للقضاء.