يأتي اندلاع القتال بين أرمينيا وأذربيجان في وقت شديد السوء لطهران، بل إن الحرب بين أذربيجان وأرمينيا تهدد بإشعال أزمة داخلية في إيران.
ففي الداخل، يواجه حكام طهران وضعاً اقتصادياً عصيباً بسبب العقوبات الأمريكية، وفي الخارج لا تزال متورطة في عديد من المغامرات الجيوسياسية العصيّة على الانتهاء في العالم العربي، من العراق إلى سوريا وغيرهما من الدول، والتي أوغلت في الاستثمار فيها خلال السنوات الأخيرة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign policy الأمريكية.
الحرب بين أذربيجان تهدد بإشعال أزمة داخلية في إيران
طهران الآن، وإن كانت ترغب في الانخراط في الصراع الدائر في جنوب القوقاز، حيث اضطلعت بدور الوسيط من قبل، فإن القدرات المتوفرة لديها للقيام بذلك أقل بكثير مما قد يُوعز به قربها الجغرافي من الصراع، والأسوأ من ذلك أن طهران لم تعُد تملك الاستقلال الدبلوماسي الذي كانت تتمتع به في أوائل التسعينيات، عندما اندلع القتال الكبير الأخير بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ، المتنازع عليه على نطاق يشابه النطاق الحالي، وعندما تمكن الإيرانيون آنذاك من العمل بفاعلية أكبر على الجانبين.
أما الآن، فيتعين على طهران هذه المرة أن تركن إلى مقعدها في الخلف لصالح روسيا وتركيا والغرب، لأن هذه القوى هي التي باتت تتحكم في مسار الصراع.
ومع ذلك، ولأسباب ترجع إلى الأقلية الأذربيجانية الكبيرة التي تتركز في إيران، والتي يبلغ قوامها نحو 20 مليون نسمة، فإن ثمة احتمالاً حقيقياً وقائماً بأن يتجاوز الصراع الأرميني الأذربيجاني نطاقه الحالي، ويتفاقم ليشكّل خطراً جسيماً على الأمن الداخلي الإيراني. ورغم أن طهران لا تريد أن تخرج بخسائر من هذا الصراع، فإنها لا تملك الكثير للرهان عليه في التورط ومحاولة توجيه الأمور لمصلحتها.
3 أيام قبل أن تتحول من إعلان الحياد إلى الانحياز لأذربيجان مع تمرير السلاح لأرمينيا
بعد اندلاع الأعمال العدائية الأخيرة بين أرمينيا، ذات الأغلبية المسيحية، وأذربيجان، ذات الأغلبية المسلمة الشيعية، في 27 سبتمبر/أيلول، استغرقت طهران ثلاثة أيام لتقبل أن الاشتعال الجديد لأعمال العنف كان يختلف نوعياً عن المناوشات السابقة.
ومن ثم، وبعد أربعة أيام من القتال، وعقب أن أدركت أن النهاية السريعة المعتادة ليست وشيكة، غيّرت طهران فجأة خطابها الدبلوماسي من التركيز على الحياد والإعلان عن الاستعداد للمشاركة في جهود الوساطة بين يريفان وباكو، إلى الادعاء بأنها تنحاز إلى الأذربيجانيين.
وهكذا، في 1 أكتوبر/تشرين الأول، أصدر الممثلون السياسيون للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في أربعٍ من المقاطعات الواقعة في شمال غرب البلاد التي يقطنها عدد كبير من السكان الأذريين، بياناً مشتركاً لدعم أذربيجان.
وصرّح البيان بأنه "لا شك" في أن منطقة ناغورني قره باغ المنفصلة تابعة لأذربيجان. ومع ذلك، فإن ذلك البيان صدر في وقت كشفت فيه تقارير كانت قد فتحت مجالها الجوي أمام الإمدادت العسكرية الروسية المتجهة إلى أرمينيا.
وكانت احتجاجات قد اشتعلت، ليس فقط في محافظة أذربيجان الشرقية الإيرانية، لكن أيضاً في طهران، مع هتافات مثل "قره باغ لنا. ستبقى ملكنا".
إن مجرد الإشارة إلى إمكانية أن تكون إيران قد قامت بدور قناة لنقل السلاح لأرمينيا كان لا بد أن يكون خبراً مشعلاً للأوضاع، وكان من المحتم أن تنكره طهران بسرعة. وهذا هو بالضبط ما حدث، وهكذا خرج الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف وكبير مستشاري خامنئي للسياسة الخارجية، علي أكبر ولايتي، للتأكيد جميعاً على الموقف القائل إن أرمينيا يجب أن تغادر الأراضي الأذربيجانية التي احتلها منذ عام 1994.
زخم شعبي داعم لأذربيجان
كان الزخم الشعبي الداعم لانحيازٍ كامل لباكو من الضخامة لدرجة أن طهران لم تسمح حتى لشيء مثل شراكة أذربيجان الوثيقة مع إسرائيل بأن تقف في طريقها.
فأذربيجان، إحدى أربع دول ذات أغلبية شيعية في العالم (إلى جانب إيران والعراق والبحرين)، لديها علاقات اقتصادية وعسكرية واستخباراتية وثيقة مع إسرائيل، العدو الإقليمي اللدود لطهران، لكن هذا كان واقعاً منذ عقدين، وقد تعلم الإيرانيون التكيف معه.
ببساطة، إيران ليست في وضع يمكنها خلاله التحرك ضد الأقلية الأذربيجانية الموجودة على أرضها هي ذاتها، وذلك لأنه على خلاف الوضع في أوائل التسعينيات فإن المجتمع الأذري الإيراني اليوم أكثر وعياً بكثير بالديناميات الكامنة وراء الصراع الأرمني الأذربيجاني، وأشد تأييداً وحماساً للتعاطف مع باكو.
إيران بلد متعدد الأعراق يشهد بالفعل اضطرابات
وهذا يشكل مصدر قلق خطير لطهران، فإيران بعيداً عن أي شيء هي بلد متعدد الأعراق، وطهران ليست مستعدة للتعامل مع انتفاضة بين الأقليات المتضررة الأخرى بإشعال الصراع بين أرمينيا وأذربيجان.
كما أن واقع الأمور يشهد بالفعل على أن المناوشات الدورية مع الجماعات العرقية المسلحة حقيقة من حقائق الحياة في البلاد، ففي جنوب شرقي البلاد، على الحدود مع باكستان، تستمر جماعة "جيش العدل" البلوشية المقاتلة السنية، التي يُنسب إليها صلات بالقاعدة، في استهداف قوات الأمن الإيرانية. كما أن الاشتباكات المستمرة ضد طهران تعتبر جزءاً من الحياة في المناطق الكردية الواقعة غرب إيران على الحدود مع العراق.
وفي حين أنه من المبالغة تصوير إيران على أنها برميل بارود جاهز للانفجار، سيكون من المضلل أيضاً الادعاء بأن الاضطرابات بين الأقليات العرقية ليست الدافع وراء التحول الخطابي المفاجئ في طهران لدعم باكو.
ويمكن أن يعتمد التحول في خطاب طهران ودعمها المادي على المسار الذي ستتخذه هذه الجولة من الصراع، وقد شهدت إيران بالفعل توسعاً ملحوظاً في العلاقات مع باكو في السنوات الأخيرة، ومن ذلك ارتفاع مستويات التبادل التجاري والسياحة والتعاون العسكري، وقد يصل الأمر إلى تصدير أسلحة إيرانية إلى أذربيجان.
لا تعرف ماذا تفعل مع تركيا؟ لا تريد إغضابها ولكن تخشى تأثيرها على أتراك إيران
ثمة عامل آخر له دور كبير في حسابات إيران، وهو تركيا، التي تمثل الطرف الثالث الفاعل في هذا الصراع الذي ترقبه طهران باهتمام شديد. وكانت طهران اتهمت أنقرة بتأجيج الصراع، من خلال حثِّ أذربيجان على المضي قدماً في محاولة استعادة أكبر قدر ممكن من أراضيها المحتلة قبل الموافقة على وقف إطلاق النار وإجراء محادثات دبلوماسية.
وهناك قضيتان رئيسيتان تتحكمان في تفكير طهران هنا، أولاً تركيا –التي يرى عديد من المراقبين الإيرانيين أنها عازمة على ترسيخ وصايتها على جميع الشعوب ذات الأصول التركية- قادرة بسهولة على الرد على إيران، وأقلها أن تسعى أنقرة إلى تحريض جيوب كبيرة من سكان إيران ذوي الأصول الأذرية التركية على الخروج احتجاجاً ضد سياسات طهران.
ثانياً، على الرغم من الشكوك المتبادلة طويلة الأمد بين القوتين، فإن تركيا تظل دولة جارة مهمة وشريكاً تجارياً رئيساً لإيران.
في الختام، يذهب الواقع القائم اليوم إلى أنه لا أحد يعتبر حقاً أن الاعتماد على وساطة إيرانية بين طرفي الصراع تمثل اقتراحاً جدياً. وبسبب مواجهتها المستمرة مع واشنطن وانشغالها المكثف بصراعات لا تزال مشتعلة في العالم العربي، تبدو طهران اليوم في وضع نادر الحدوث على هذا النحو من الاعتماد على موسكو -وتجنب التصعيد مع تركيا- في جنوب القوقاز.
وفي حين تجلس إيران وهي تراقب بقلق روسيا وتركيا وقد أصبحتا المتحكمتين الخارجيتين الرئيسيتين في الصراع الأرميني الأذربيجاني، فإنها سترغب أكثر من أي شيء في رؤية نهاية سريعة لهذه الجولة من القتال، والتي إذا اتسعت قد تجر إيران إلى حرب إقليمية جديدة لا قبل لها بتحملها.