تتزايد المخاوف من نشوب اضطرابات من جراء جائحة كورونا، خاصة مع تزايد التذمر من الإغلاقات التي بدأت تتجدد مع عودة موجات جديدة من المرض.
بينما تباشر الحكومات عملية تحقيق التوازن الصعب بين احتواء انتشار الفيروس واستئناف الأنشطة التجارية، فإنَّ تهديدات الاضطرابات الاجتماعية والسياسية آخذة في الازدياد.
عادت الاحتجاجات إلى الظهور مُجدَّداً منذ شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول، ضد الإجراءات الحكومية المفروضة لاحتواء جائحة فيروس كورونا، والتي تتزامن أيضاً مع موجة ثانية من الإصابات في عدة مناطق حول العالم، بكثير من الدول في جميع أنحاء العالم.
آثار كورونا المستدامة
في حين أنَّ معظم الآثار المباشرة لوباء كورونا كانت على الصحة العامة والأداء الاقتصادي، فيُرجح أن يتمثّل الإرث طويل المدى للأزمة الحالية في الاضطرابات السياسية والاجتماعية. يُظهر الوباء بالفعل علامات على مفاقمة الأزمات الجارية بجميع أنحاء العالم، سواء كانت عدم المساواة العرقية في الولايات المتحدة الأمريكية أو الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية بأمريكا الجنوبية أو الديون غير المستدامة في أوروبا أو المواجهة الجيوسياسية الجارية بين الولايات المتحدة والصين.
وإضافة إلى موجة التحديات الفورية التي واجهتها الحكومات في خضم أزمة تفشي كوفيد -19، فإنَّ الانعكاسات طويلة المدى لهذه الأزمة على الاستقرار السياسي والاجتماعي سَتولّد مزيداً من عدم اليقين لسنوات مقبلة.
اضطرابات من جراء جائحة كورونا في دولة غنية وقوية
في البداية، عندما فرضت الحكومات بجميع أنحاء العالم تدابير إغلاق صارمة في مارس/آذار، بدا معظم المواطنين يدعمون هذه الخطوة أو على الأقل لم يخرجوا إلى الشوارع لمعارضتها.
مع مرور الوقت، بدأ الأثر الشخصي والاجتماعي-الاقتصادي لهذه القيود يُحدث ضرراً. أدى ذلك إلى استياء متنامٍ بين أولئك الأكثر تضرراً من قيود الإغلاق، نجمت عنه احتجاجات ومظاهرات عامة. بدأت الحكومات بحلول يونيو/حزيران ويوليو/تموز في التخفيف من قيود كورونا، مدفوعة بانخفاض معدلات الإصابة والوفيات في العديد من الدول، إضافة إلى التكاليف الاقتصادية المتزايدة لعمليات الإغلاق.
ومع ذلك، ساهم تخفيف القيود جزئياً في حدوث موجة ثانية من الإصابات، لاسيما في أوروبا، وهو ما أجبر السلطات على إعادة فرض بعض القيود، التي حفّزت في نهاية المطاف اندلاع احتجاجات في ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة وسويسرا، من بين دول أخرى.
خرج غالبية المتظاهرين إلى الشوارع مدفوعين بالسخط الاجتماعي والاقتصادي. وعلى الرغم من توقيع القادة الأوروبيين في يوليو/تموز، على حزمة تحفيز مالية بقيمة 1.8 تريليون يورو لمواجهة تداعيات أزمة فيروس كورونا، لم يساهم ذلك في تقليل مخاوف الناس من أنَّ هذا الدعم الحكومي مؤقت وأنَّ الركود الاقتصادي الجاري سيزداد سوءاً في حال استمرت عمليات الإغلاق. تغذي هذه العوامل المشاعر المناهضة للمؤسسة، جنباً إلى جنب مع الإحباطات الموجودة على مدى عقد من الركود الاقتصادي.
ففي 29 أغسطس/آب، على سبيل المثال، احتج ما يقدر بنحو 30 ألف شخص في برلين على عودة الإغلاقات.
في أواخر سبتمبر/أيلول، احتشد آلاف الأشخاص في لندن، حيث اشتبك بعضهم مع قوات الشرطة بعد محاولتها تفريقهم. يشكو المتظاهرون، الذين عادةً ما يُوصفون بـ"المتظاهرين المناهضين للإغلاق"، من مظالم مختلفة ولديهم دوافع متباينة، لكنّهم متحدون بوجهٍ عام على معارضتهم للقيود الحكومية المفروضة على النشاط التجاري والحريات الفردية.
اليمين المتطرف يستغل الفرصة
علاوة على ذلك، يزداد خطر العنف مع وجود الجماعات اليمينية المتطرفة في بعض الاحتجاجات المناهضة لإجراءات الإغلاق.
في يونيو/حزيران على سبيل المثال، اشتبك متظاهرون من اليمين المتطرف مع قوات الشرطة في روما، حيث ألقى المحتجون زجاجات وحجارة وقنابل دخانية باتجاه الشرطة والصحفيين.
كما حاول متظاهرون ينتمون للتيار اليميني المتطرف اقتحام البرلمان الألماني خلال احتجاجات اندلعت ببرلين في 29 أغسطس/آب، ضد القيود المفروضة لمواجهة فيروس كورونا.
ونظّمت أيضاً جماعات يمينية متطرفة منادية بتفوق العرق الأبيض العديد من الاحتجاجات المناهضة للإغلاق بالولايات المتحدة.
وفي واقعة خطيرة حدثت في أواخر أبريل/نيسان، اقتحم متظاهرون مسلحون مقر مجلس نواب ولاية ميشيغان.
انقسام أمريكي عميق.. أوقِفوا تمويل الشرطة
كما عزَّزت أزمة فيروس كورونا التحزّب في الولايات المتحدة، إضافة إلى كونها أحد العوامل المساهمة في الاستجابة الواسعة النطاق والمستدامة للأمريكيين على حادثة وفاة جورج فلويد في مدينة مينيابوليس وحالات وفاة أخرى لأمريكيين سود تورطت فيها الشرطة.
تتمثّل إحدى نتائج الاضطرابات حتى الآن في أنَّ سياسات مثل "إلغاء تمويل الشرطة" تحوّلت في أقل من شهر من شعار احتجاجي هامشي متطرف إلى دعوة مقبولة من الاتجاه العام السائد. ولا تزال قضايا الهجرة وتغيُّر المناخ وحقوق العُمّال مثيرة للاحتجاجات تتربص حالياً تحت السطح وتتأثر إلى حدٍّ كبير بأزمة تفشي الوباء.
تعارض مجموعة ثانوية صغيرة من المحتجين القيود التي تفرضها الحكومة -مثل الارتداء الإلزامي لأقنعة الوجه أو التباعد الاجتماعي- لأنَّهم يعتقدون أنَّ مثل هذه الإجراءات تنتهك حرياتهم الفردية.
ثمة محتجون مدفوعون أيضاً بنظريات مؤامرة مختلفة، على غرار أنَّ فيروس كورونا المستجد غير موجود بالأساس أو أنَّ اللقاحات ما هي إلا جزء من أجندة حكومية شريرة.
آسيا تفقد معجزتها الاقتصادية
الوضع لا يقل سوءاً في آسيا، وفقاً لصندوق النقد الدولي، ستشهد الاقتصادات الآسيوية نمواً صفرياً هذا العام، وذلك لأول مرة منذ 60 عاماً، حيث يوظّف قطاع الخدمات، الذي كان الأكثر تضرراً من جراء تفشي الوباء، 55% من العمال الآسيويين.
في أبريل/نيسان، بلغ عدد العاطلين عن العمل في الهند نحو 122 مليون شخص.
في الوقت الحالي، أسفرت القيود التي فرضتها الحكومات على التجمعات الكبيرة والسفر، عن تحقيق درجة من الهدوء في جميع أنحاء المنطقة. بينما اندلعت احتجاجات أو إضرابات أو اشتباكات أو أعمال تخريب أو نهب في أماكن مثل أفغانستان وبنغلاديش وكمبوديا وهونغ كونغ والهند وإندونيسيا والفلبين وتايلاند، فإنَّ قوات الأمن استطاعت حصار معظم هذه الأحداث وتفريقها سريعاً.
ومظاهرات ضد تعديل قانون المواطنة (CAA) في الهند؛ وأزمة سياسية أدت إلى انهيار الائتلاف الحاكم في ماليزيا.
لكن يُرجح عودة ظهور الاضطرابات مُجدّداً مع البدء في تخفيف القيود وسط تدهور الظروف الاجتماعية-الاقتصادية. تفتقر معظم حكومات المنطقة إلى القدرة على حماية فرص العمل أو خلق فرص عمل جديدة أو مواصلة توزيع مساعدات الإغاثة إلى أجل غير مسمى. ومما يزيد الأمور سوءاً، اتُّهم مسؤولون بسرقة موارد الإغاثة في العديد من الدول. يُرجح أن تسير جهود تحقيق التعافي الاقتصادي ما بعد الجائحة بوتيرة بطيئة ومُتقطّعة؛ وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية القائمة.
الصين رغم تعافيها الاقتصادي تواجه مشكلة محتملة
فحتى قبل تفشي كوفيد-19، كانت هناك احتجاجات مناهضة للحكومة في هونغ كونغ.
وشهدت هونغ كونغ بالفعل زيادة في الاحتجاجات منذ أبريل/نيسان. زادت الحكومة الصينية من حدة خطابها العدائي تجاه المتظاهرين، في حين اعتقلت سلطات هونغ كونغ العديد من النشطاء البارزين المناهضين للحكومة. يُرجح أن يؤدي هذا النهج تجاه الحركات الاحتجاجية إلى مزيد من المظاهرات والعنف في حال عدم معالجة الأسباب الرئيسة الكامنة وراء الاستياء الشعبي.
علاوة على ذلك، ستتراجع على الأرجح جهود السلام والعمليات الأمنية في بؤر الصراع الساخنة، في ظل تركيز الحكومات الإقليمية على مكافحة تفشي الوباء.
قد يؤدي ذلك إلى زيادة نشاط الجماعات الإرهابية والمتشددة والانفصالية في مختلف أنحاء المنطقة. اندلعت أحداث عنف مسلح كبيرة بمنطقة جامو وكشمير، التي تسيطر عليها الهند، وفي جنوب الفلبين وغرب ميانمار وفي مختلف أنحاء العراق وأفغانستان طوال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار. قد تستغل الجماعات المسلحة، في ظل الظروف السائدة، انشغال قوات الأمن بالأعباء التي تثقل كاهلها، لتتمدّد وتبسط نفوذها.
يُتوقع تزايد الاحتجاجات خلال الشهرين إلى اﻷشهر الـ3 المقبلة، مع استمرار حالة الإغلاق في العديد من البلدان، فضلاً عن حقيقة أنَّ الشعور بالصدمة الاقتصادية لتفشي الفيروس لم يصل إلى مداه الكامل بعد.
لا يرجع عدم ثقة المحتجين بالقيود الحكومية إلى استيائهم الاجتماعي-الاقتصادي فحسب، بل أيضاً إلى حالة عدم اليقين الكبيرة بشأن مسار هذه الجائحة، وهو ما يزيد من إذكاء نظريات المؤامرة المختلفة. من ناحية أخرى، تجد الحكومات نفسها عالقة بين معالجة مشاكل الصحة العامة غير المسبوقة والشواغل الاجتماعية-الاقتصادية، في الوقت الذي تحاول فيه أيضاً حماية مصالحها السياسية.
ومع ذلك، إذا استمر ارتفاع عدد الإصابات بدرجة تُهدّد البنية الصحية الأساسية وتتجاوز قدرات نظام الرعاية الصحية، فسيتعيّن على الحكومات حتماً الإبقاء على القيود. سيؤدي هذا إلى اتّخاذ بعض القرارات التي لا تحظى بشعبية واستمرار عمليات التعبئة الجماهيرية المناهضة للإغلاق والحكومة خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
يُحتمل أن يتعرض الاستقرار السياسي للتهديد مع تصاعد المظالم السياسية والاجتماعية الاقتصادية من ناحية، فضلاً عن السلطات الموسّعة للحكومات من أجل إنفاذ القانون من ناحية أخرى. ستنجح الإدارات الحالية على الأرجح -في معظم الحالات- في إحباط أي تحديات سياسية تواجه حكمها. سوف يستخدمون مزيجاً من القوة والطمأنة؛ من أجل البقاء في السلطة -إذ إنَّهم يتمتعون بوضعٍ أفضل وخبرة أكبر تتيح لهم التغلّب على الأزمة الجارية.
قد يضع الخصوم السياسيون وأصحاب المصلحة الآخرون خلافاتهم جانباً، للعمل معاً خلال تلك الفترة. ومع ذلك، لا يُعتبر هذا المسار مضموناً، لأنَّ الحكومات التي لا تستطيع التعامل جيداً مع أزمة اقتصادية وصحية عامة كبيرة قد تكون السبب في احتشاد الناس بأعداد كبيرة. على أقل تقدير، ستتواصل بعض الاحتجاجات والاشتباكات وأعمال النهب المتفرقة على مدى الأسابيع والأشهر المقبلة.
سيناريوهات للدول التي تواجه مشكلات حالياً
– الولايات المتحدة الأمريكية: من غير المرجح أن تحافظ الجولة الحالية من الاحتجاجات على المستوى نفسه من القوة المزعجة حتى نهاية العام، لكن لا يزال هناك كثير من المظالم التي يمكنها دفع حركات احتجاجية أخرى خلال عام الانتخابات.
– ألمانيا: ستواصل الحركة اليمينية المتطرفة النشطة على نحو متزايد، الضغط من أجل احتجاجات مناهضة للحكومة في المستقبل القريب.
– هونغ كونغ: يُرجح عودة ظهور الاحتجاجات المناهضة للحكومة مع تخفيف قيود التباعد الاجتماعي.
– ماليزيا: لا تزال الأزمة السياسية التي أدت إلى انهيار الحكومة في فبراير/شباط مستمرة، مع مواصلة خصوم رئيس الوزراء الجديد، محي الدين ياسين، التشكيك في شرعيته.
– ميانمار: ثمة مخاوف متنامية من استخدام الجيش جائحة كورونا كذريعة ليصبح أكثر قوة وسطوة، خاصةً قبيل الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني، ووسط التوترات المستمرة مع الحكومة المدنية بشأن الإصلاحات الدستورية.
– البرازيل: أدَّت جائحة فيروس كورونا إلى مفاقمة الانقسامات الحزبية بين القادة المحليين والرئيس المثير للجدل، جاير بولسونارو.