يبحث الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون عن دعم شعبي لمشروعه السياسي في بناء "جزائر جديدة"، عبر بوابة الاستفتاء على التعديلات الدستورية المقررة في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
ويقترح مشروع الدستور "تغييراً جذرياً في أسلوب الحكم"، من أجل التحضير لبناء "جزائر جديدة".
لكن الغالبية العظمى من الجزائريين، الذين بالكاد مهتمون في الوقت الحالي بالموضوع، لا يزالون غير قادرين على الاطلاع على النص الذي صادق عليه البرلمان دون مناقشة، في أوائل أيلول/ سبتمبر.
وانطلقت حملة ترويجية للتعديلات الدستورية المقترحة اليوم وتستمر إلى غاية الـ28 من الشهر الجاري.
لكن الاستفتاء وإن كان لقي دعماً من بعض التشكيلات السياسية وفعاليات المجتمع المدني فإنه ليس موضع ترحيب من طيف لا يستهان به من المعارضة وفعاليات الحراك الشعبي بمختلف توجهاتها.
فما التبريرات التي يسوقها الداعمون للتعديلات والاستفتاء عليها؟ وما هي حجج وتبريرات المعارضين لها؟ وأي مصير ينتظر التعديلات في حال التصويت بـ "لا"؟
اختبار لشعبيته ومحاولة لترميم شرعيته
وصف تبون في برنامجه الانتخابي وخطاب التنصيب تعديل الدستور بـ"أولوية الأولويات" واللبنة الأولى لبناء "الجزائر الجديدة".
ولكن خطوته اصطدمت بجائحة كورونا، وخلطت أولويات الأجندة الرئاسية، بعد أن تم الدفع بالإصلاحات الاقتصادية قبل التعديل الدستوري الذي كان مقرراً خلال الربع الأول من العام الجاري.
ويراهن تبون على "دستور توافقي" يقطع مع ممارسات النظام السابق، ويضع حداً لصلاحيات رئيس البلاد، ليكون ميثاقاً يجمع مطالب الحراك الشعبي ووسيلة تغيير سلمي تضمن الانتقال الديمقراطي.
كما يعتبر فرصة لترميم شرعيته المتضررة بسبب نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات الرئاسية في سياق عملية تحصيل توافق تام حول المسار السياسي الذي يقوده.
ولكن الإعلان عن المسودة الأولية لمشروع الدستور، في مايو/أيار الماضي، أثار نقاشاً شعبياً وسياسياً واسعاً، وانقسم الجزائريون بين مؤيد لما تضمنه من مواد جديدة ورافضاً لها، ومترقب للوثيقة النهائية للدستور المقبل.
وتسلم الرئيس الجزائري 2500 اقتراح لتعديل النصوص الـ74 الجديدة المتضمنة في المسودة من قبل الأحزاب والشخصيات السياسية ونقابات وممثلي المجتمع المدني.
ومن أبرز المواد الدستورية التي قوبلت بتفاعل شعبي وسياسي واسع وتكرس لنظام "شبه رئاسي"، ما يتعلق بالفصل بين السلطات الثلاث واستقلالية القضاء، وتقليص صلاحيات رئيس البلاد، وإعادة العمل بنظام رئيس الحكومة وتوسيع صلاحياته وصلاحيات البرلمان والقضاء، وإنشاء محكمة دستورية تراقب قرارات السلطات الثلاث، وتعيين نائب لرئيس الجمهورية.
وجعل إرسال الجيش في مهمات خارجية محددة لـ"حماية الأمن القومي" مشروطة بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان، و"إدراج اللغة الأمازيغية ضمن الأحكام التي لا تخضع للتعديل الدستوري.
لكن حجم الرفض لمحتوى الدستور تراجع قليلاً بعد إلغاء مقترح تعيين نائب لرئيس الجمهورية، وأيضاً إثر الإبقاء على الأمازيغية لغة وطنية، ضمن المواد الصمّاء غير القابلة للتعديل لاحقاً. ومع ذلك، فإن تقديرات قطاع من الموالين والمعارضين أيضاً تشير إلى أن الوثيقة المقترحة من الدستور لم ترق إلى المستوى الذي يحقق تغييراً جذرياً في منظومة الحكم.
رافضون وداعمون.. لكن الكلمة الفصل للشعب
خلفت التعديلات الدستورية انقساماً بين الجزائريين، ففريق يراها "تكريساً فعلياً للجزائر الجديدة والوعود الانتخابية للرئيس تبون، وقطيعة مع إرث نظام بوتفليقة، ويجسد الديمقراطية التشاركية التي طالب بها الحراك الشعبي".
فيما يرى الفريق الآخر أن الوثيقة النهائية لا تختلف عن المسودة الأولى، ويقول إنها مجرد "عملية ترقيعية" تتجاهل المساءلة الحقيقية للنظام الرئاسي، وتسعى لوأد الحراك الشعبي، وأن بعض مواده يكتنفها الغموض.
تمثل "مبادرة قوى الإصلاح الوطني" حديثة النشأة الجناح المؤيد للتعديلات الدستورية
وقد أعلنت موافقتها على المشاركة في الاستفتاء مع إبقاء الخيار للتصويت بـ"نعم" أو "لا" للهيئات الحزبية المتخصصة.
ويضم التكتل 50 مكوناً، أبرزهم حركة البناء الوطني وجبهة المستقبل والفجر الجديد والوطنيين الأحرار ونقابة القضاة.
ويبدو أن هذا الجناح يحظى بثقة السلطات العليا على حساب أحزاب الموالاة المهيمنة على غالبية المقاعد في البرلمان، أي "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي"، اللذين يُنظر إليهما كأوعية حزبية موروثة عن الحقبة السياسية السابقة.
وأبدت تلك الأحزاب استعدادها لخوض حملة لكسب تأييد القواعد الشعبية من أجل تمرير الدستور في الاستفتاء، لكن تبون يحاول النأي بنفسه عنها.
على اعتبار أنها كانت المسؤولة عن تمرير مخططات حكومات الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة المتعاقبة ومشاريعها عبر البرلمان بغرفتيه.
كذلك التحقت منظمات الرئيس السابق، التي كانت وراء ترشحه لولاية رئاسية خامسة، بدائرة الداعمين للدستور الجديد، وأطلق عشرات الناشطين ورؤساء الجمعيات والتنظيمات المدنية تحالفاً جديداً أطلق عليه اسم "المسار الجديد"، وأظهر استعداده للمشاركة في حشد الشارع.
من يرفض ؟
؟في المقابل يشكل "العقد السياسي من أجل البديل الديمقراطي" المعسكر الرافض للتعديلات الدستورية والمسار السياسي الذي أدى إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ويضم هذا التكتل كلاً من حزب "التجمع من أجل الثقافة الديمقراطية"، و"حزب العمال" و"الحزب الاشتراكي للعمال" وأيضاً "الاتحاد من أجل التغيير والرقي" و"الحركة الديمقراطية والاجتماعية" و"الحزب من أجل اللائكية والديمقراطية"، إضافة إلى الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان وشخصيات جامعية وتاريخية مستقلة.
ويعتبر موقف هذا التكتل قريباً من موقف بعض الفعاليات التي تفضل استمرارية مسيرات الحراك الشعبي، حيث يبني موقفه على أساس رفض المسار السياسي الحالي ككل، وليس بناء على محتوى نص وثيقة الدستور، ويدعو إلى مجلس تأسيسي وصياغة دستور جديد.
في المقابل، لا يعلن نشطاء الحراك موقفاً جماعياً بسبب غياب جسم تمثيلي يتحدث باسمه، لكن برزت بعض المواقف الفردية لشخصيات قريبة منه.
من بين تلك الشخصيات، المحامي مصطفى بوشاشي، الذي راسلته رئاسة الجمهورية رسمياً على أمل إبداء رأيه في الوثيقة، وكان رد بوشاشي "أتفهم جيداً أنه بمناسبة حملتكم الانتخابية (يقصد الرئيس تبون) وعدتم بتعديل الدستور ليلبي تطلعات الشعب الجزائري إلى الديمقراطية والحرية. كنت أعتقد أنكم ستلجأون إلى عقد مؤتمر وطني تشارك فيه كل الحساسيات والأطياف السياسية والمجتمع المدني، ويعمل على وضع وثيقة توافقية، ثم تقوم اللجنة التقنية بصياغة مخرجاته، ولكن الذي حدث هو أنكم شكلتم لجنة لصياغة رغبات وتوجهات النظام لإعطاء انطباع بأن لجنة الخبراء هي التي وضعت المسودة.
وخلص يقول "أصدقكم القول بأنني تفاجأت من محتوى المسودة، التي جاءت في نهاية المطاف لتؤسس لحكم فردي… إن المسودة من ناحية الموضوع لا تبرز نظاماً محدداً، لا برلمانياً ولا رئاسياً ولا شبه رئاسي، بل هو مناف، بالشكل الذي ورد في الوثيقة، لكل المبادئ التي تتضمنها الدساتير التي تؤسس للديمقراطية".
من جهتها تخندقت الأحزاب الإسلامية التي تتبنى النظام البرلماني في الكتلة المعارضة للدستور الجديد كغيرها من الأحزاب العلمانية الاشتراكية، وأعلنت حركة مجتمع السلم (أكبر حزب إسلامي)، مشاركتها في الاستفتاء، داعية إلى التصويت بـ"لا"، واعتبرت مشروع الدستور "غير توافقي" مثلما يصفه الرئيس.
كذلك أعلنت جبهة العدالة والتنمية التصويت بـ"لا" على المشروع، ووجه رئيسها عبدالله جاب الله انتقادات للجنة الخبراء، التي أشرفت على إعداد المسودة، وقال إن "التيار التغريبي العلماني" سيطر عليها.
كما قررت حركة النهضة هي الأخرى التصويت ضد المشروع، معتبرة إياه تكريساً لخيار الأقلية، والتمييز بين الجزائريين والنظام الرئاسي بصلاحيات واسعة في غياب أي آلية قانونية للمساءلة.
وفي وقت مبكر أعلنت المبادرات المحسوبة على التيار الإسلامي، مثل حركة "عزم"، و"المسار"، و"التيار الأصيل" رفضها القاطع لمشروع للدستور.
المجتمع المدني.. حصان طروادة السلطة لإقناع الجماهير
تعقد السلطة الآمال على نسيج مدني لدعم مشروع الدستور، من خلال توظيف المجتمع المدني الذي أولته السلطة أهمية معتبرة، وخصصت له مستشاراً خاصاً في رئاسة الجمهورية، أوكلت إليه مهمة حشد الجمعيات والمنظمات والنقابات للموعد المذكور، في خطوة تمهد لبداية استغناء السلطة عن أحزاب الموالاة وفك الارتباط معها، بعدما صارت محل استياء الشارع وعبئاً على السلطة نفسها.
أي سيناريوهات في حال رفض التعديلات الدستورية؟
أضاف المشروع النهائي للدستور مادة قانونية، حسم من خلالها حالات قبول أو رفض الشعب لأي تعديل دستوري.
وورد في المادة 220 منه بأنه "يصبح القانون الذي يتضمن مشروع التعديل الدستوري لاغياً، إذا رفضه الشعب، ولا يمكن عرضه من جديد على الشعب خلال نفس الفترة التشريعية"، وأشار إلى كلمة "نفس" باللون الأحمر في إشارة إلى إضافتها في التعديل الجديد.
وأثارت المادة الدستورية غموضاً في الجزائر حول مصير التعديل الدستوري، في حال تصويت أغلبية الهيئة الناخبة على رفضه، وهل يعني ذلك أنه يمكن للرئيس طرح وثيقة تعديل دستوري جديد في حال تغيير البرلمان؟
غير أن الرئيس الجزائري كشف عن مصير الدستور الذي طرحه على الاستفتاء الشعبي، وأشار إلى أنه في حال تصويت أغلبية الجزائريين بـ"لا" عليه، فإن ذلك "يعني العودة للعمل بدستور بوتفليقة" الذي صدق عليه البرلمان، في فبراير/شباط 2016، دون تمريره على الاستفتاء، وأثار الكثير من الجدل.
وهو الاحتمال الذي يبقى وارداً، لاسيما أن الرئاسة الجزائرية كشفت اعتزام تبون حل البرلمان والمجالس المحلية قبل نهاية العام الحالي، والدعوة لانتخابات تشريعية ومحلية مسبقة.
ويطرح عدم حصول الدستور المقبل على الأغلبية المطلوبة بنعم مصداقية رئيس الجمهورية والطبقة السياسية على المحك، وليس من السهل عودة العمل بالدستور الحالي.
ويشير الخبير الدستوري عامر رخيلة في هذا الصدد إلى ما سماه "الحاجز القانوني والسياسي"، وأوضح بأن "حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مسبقة يتطلب قانون انتخاب جديد يتماشى مع مضمون الدستور الجديد المعدل، وفي حال عدم المصادقة شعبياً على الدستور لا يمكن تعديل القوانين إلا من منطلق دستور 2016، وهذا ما يضع السلطة الحالية في ورطة قانونية.
لا يبدو من السهل التكهن أو استشراف نتيجة الاستفتاء الشعبي في ظل رفض طيف واسع من الأحزاب العلمانية والإسلامية التي تتمتع بوعاء انتخابي لا يستهان به لمشروع الدستور، إلى جانب الموقف الحاسم لقطاع من نشطاء الحراك والمتعاطفين معهم.
كما أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب للجزائريين إلى جانب التضييق الممارس على حرية التعبير والإعلام وخنق الأصوات المعارضة في الأشهر الأخيرة جعل البعض يشكك في نوايا السلطة، وقد يدفع بالبعض منهم إلى العزوف عن المشاركة أو رفض التعديلات الدستورية.