الوعد الذي قدمه رئيس وزراء العراق خلال جنازة أحد شباب الحراك ينقلب عليه، حاول محاسبة المجرمين فقتلوا أنصاره

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/10/07 الساعة 11:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/08 الساعة 14:19 بتوقيت غرينتش
رئيس الوزراء العراقي خلال زيارته لإيران/رويترز

وصل رئيس جهاز المخابرات دون إعلان، مع مرافقيه من الحراس الشخصيين في ليلة شتوية باردة. التفتت الرؤوس ببطء، وانتشرت الهمهمات بين المُعزِّين، وكان أكثر المتفاجئين هو علي المختار، الأب المكلوم.

وروى الأقارب بعد ذلك أنَّ علي سار ببطء عبر قاعة الجنازة بصوتٍ أجش وأكتاف تتدلَّى لتحية المعزين. ونظر الضيف غير المتوقع إلى عيني علي.

أمسك علي بشهادة وفاة نجله الأوسط، محمد، وقال، وهو يشير إلى سطر سبب الوفاة الذي تُرِك فارغاً: "نريده مكتوباً. عليك أن تخبر الجميع ماذا حدث".

ما لم يعلمه أحدٌ تلك الليلة هو أنَّ رئيس المخابرات، مصطفى الكاظمي، سيصبح قريباً وعلى نحوٍ غير متوقع رئيساً لوزراء البلاد. وستكشف الطريقة التي سيرد بها على طلبات مثل طلب علي أنَّ الكاظمي قائد عازم على وضع العراق على مسارٍ جديد لكنَّه يلاقي مقاومة من قوى قوية، وفي كثير من الأحيان عنيفة، عازمة على إحباطه، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.

كان محمد صاحب العشرين عاماً واحداً من بين 500 عراقيّ أُردوا قتلى على يد قوات الأمن ومجموعات الميليشيات خلال الاحتجاجات المناهضة للحكومة على مدار العام الماضي.

وحين كان رئيساً للمخابرات، دعم الكاظمي سراً مطالب المحتجين بإيجاد حكومة جديدة خالية من الفساد والتأثيرات الطائفية والهيمنة الأجنبية. لكن بعدما صار قائداً للبلاد، ستتصادم مساعيه لتحقيق المساءلة عن مصرعهم وتقديم عناصر من أجندتهم الثورية مع المصالح التي شكَّلت العمود الفقري للنظام السياسي العراقي منذ إطاحة صدام حسين.

قال مقرَّبون من الكاظمي لاحقاً إنَّ حضوره الجنازة في تلك الأمسية من شهر فبراير/شباط الماضي لم يكن مصادفة، لأنَّه كان متعاطفاً مع مظالم المحتجين.

رداً على مناشدة علي، وضع الكاظمي يده على صدر بدلته الداكنة وتعهَّد بأن يواجه القتلة العدالة، وذلك بحسب الأقارب الذين حضروا المراسم. وقال الكاظمي له: "دم محمد لن يذهب هدراً".  

تعهَّد الكاظمي منذ خرج من الظلال في مايو/أيار ليصبح رئيساً للوزراء بالتحقيق في الكيفية التي قُتِل بها عدد كبير للغاية من شباب البلاد في الشوارع.

لكنَّ الكثير من العراقيين يشككون في ما إن كان يجرؤ على تسمية مَن أصدروا الأوامر. وهل سينجح في فرض الانضباط على ميليشيات البلاد المدعومة من إيران؟ بمجرد أن اتضحت نواياه، استهدفت واحدة من تلك المجموعات دائرته الداخلية هذا الصيف من خلال قتل باحث بارز كان مقرباً وثيق الصلة به. كان ذلك تحذيراً واضحاً لرئيس الوزراء.

حين همَّ الكاظمي بمغادرة المأتم ورافقه حراسه الشخصيون، يروي أقارب عليّ أنَّ هذا الأخير ناداه مرة أخيرة.

وقال: "من فضلك"، وكان هذه المرة يتوسل.

وقال الكاظمي إنَّه يَعِدُ علي.

ثُمَّ رحل.

أديان مختلفة وقضية واحدة: "إنقاذ بلادي"

كان محمد متحمساً لحلمٍ للمرة الأولى. وكذلك كان الحال مع شابين آخرين سيموتان إلى جانبه في ذلك اليوم الكئيب من فبراير/شباط. لم يكن أيّ منهم يعرف الآخرين. وقد أتوا من خلفيات دينية مختلفة. لكنَّ قصصهم الشخصية كانت منسوجة من تاريخ مشترك.

كان محمد يبلغ 3 سنوات حين غزا الأمريكيون العراق، وأجبروا صدام حسين على ترك السلطة في 2003 واستبدلوا ديكتاتوريته بنظام سياسي جديد أدى لترسيخ سماسرة السلطة الدينيين والعِرقيين، والذين عملوا في كثير من الأحيان كما لو كانوا مافيات متنافسة. وبحلول الوقت الذي بلغ فيه محمد 6 سنوات، كانت هناك حرب كابوسية جارية بين المسلمين السُنَّة والشيعة. ويروي أقارب محمد أنَّه كان يبلغ 7 سنوات حين اقتحم مسلحون مدرسته لإعدام الناظر على بُعد أمتار من مكان جلوس محمد.   

كان محمد، وهو ابن لأسرة شيعية ثرية، يخطط للتخرُّج من الكلية ليكون مهندس حاسوب، لكنَّ مساره المهني كان مسدوداً. فتوفير وظيفة حكومية يتطلَّب رشوة كبيرة، وكان القطاع الخاص ضعيفاً.

المحتجون العراقيون يرغبون في القضاء على الفساد/رويترز

في الناحية الأخرى من المدينة، نشأ علاء الشمري، وكان ابناً لأسرة شيعية عانت طويلاً لتلبية احتياجاتها. كان قد وُلِد على أطراف مدينة الصدر، وهي منطقة شيعية مترامية تقطنها الطبقة العاملة وتضم مئات آلاف الأسر التي تركت جنوب العراق على أمل العثور على حياة أفضل في العاصمة. لكن بدلاً من ذلك، تداعت الطرق بعد عقود من الإهمال، وكانت الكهرباء التي توفرها الحكومة حلماً بعيد المنال.

يروي أقارب محمد أنَّه ترك المدرسة مراهقاً من أجل دعم أسرته. وبعدما أصبح الآن في سن 26، كان يعاني تحت وطأة قرض أخذه ليدفع رشوة من أجل الحصول على وظيفة. لكنَّ الحكومة أخفقت في تمرير موازنة جديدة، وكان هذا بالنسبة لعلاء يعني عدم وجود راتب.

وبعد ذلك هناك ريمون ريان، وكان يبلغ 16 عاماً ويتحسس طريقه على استحياء خلال فترة مراهقته. وكانت حياته متأثرة بديانته. كان عدد مسيحيي العراق يبلغ ذات مرة 1.4 مليون شخصاً، لكن يُعتَقَد أنَّ ثلثيهم فروا من البلاد.

وُلِد ريمون في مدينة الموصل شمالي البلاد، وتهجَّرت أسرته عدة مرات بسبب القتال. واختطف تنظيم القاعدة والده، ريان، عام 2009 ولم يُطلَق سراحه إلا بعدما باعت أسرته ما أمكنها لجمع الفدية. ثُمَّ وصل تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في عام 2014. ونزح المسيحيون في رعب. وسرقهم المسلحون عند نقاط التفتيش في طريقهم للخروج. ويقول أقاربه إنَّ الأسرة لم يتبقَ معها إلا القليل حين وصلت بغداد. وكان يُدفَع لشقتهم الضيقة من راتب ريمون وأي شيء يمكن للصبي المراهق جنيه من خلال الوظائف الجانبية.

لم يخبر ريمون والديه عن المكان الذي كان ذاهباً إليه صباح ذلك اليوم الذي غادر فيه المنزل في فبراير/شباط للمرة الأخيرة. لكنَّه تحدث مع صاحب متجر محلي.

يروي الرجل أنَّه صاح قائلاً لريمون: "إلى أين تذهب؟"، فابتسم المراهق النحيف وقال: "لأنقذ بلادي".   

جانبان، ووجهاً لوجه

فيما كان ريمون في طريقه متجهاً نحو وسط بغداد في 25 فبراير/شباط، كان محمد في شقته قرب المطار يستعد هو الآخر للانضمام إلى الحراك، وذلك بحسب روايات العائلة. وكان والد محمد، علي قد سأله ذات مرة ما الذي قد يستحق المخاطرة؟ وكان المئات قد ماتوا بالفعل في الاحتجاجات. يروي علي أنَّ ابنه أجابه قائلاً: "الأمر ليس بشأني فقط. إنَّه لنا جميعاً. نريد وطناً".

وفي الجهة المقابلة من المدينة، كان علاء يجتاز حركة المرور في المدينة متجهاً لعمله في وزارة الكهرباء.

وفي ساحة التحرير وسط بغداد، كان اليوم يبدأ لتوه. فاستيقظ الشباب العراقي المعتصم في خيام الاحتجاج، وأشعلوا السجائر، وكانوا يتحققون من هواتفهم.

بدأ إطلاق الغاز المسيل للدموع في منتصف اليوم.

حمى المحتجون أصدقاءهم بأذرعهم أثناء فرارهم. وأعاد آخرون إلقاء قنابل الغاز شديدة الحرارة إلى الجهة الأخرى من الجدار الخرساني الذي يفصل بين الشرطة والمحتجين في الساحة، في حين وقف البعض الآخر هناك وحسب وهم يرفعون أيديهم ويحدقون في شرطة مكافحة الشغب.

وقالت شقيقة محمد، زينب، إنَّها بالكاد كانت تسمعه حين اتصلت لتسأله عن مكانه.

بعدها، انطلقت مجموعة من شرطة الشغب نحو الجدار، وصوَّرهم سائق توك توك شاب وهم يتخذون مواقعهم، ويُوجهِّون بنادقهم، ويبدأون في الإطلاق.

وحين اتصلت زينب بمحمد مجدداً، رد شخصٌ آخر وسرعان ما أنهى المكالمة. واتصلت مرة ثانية ثُمَّ ثالثة.

كان شقيقها فاقد الوعي تماماً. وكانت الدماء تتدفق من الفتحة التي أحدثتها قنبلة الغاز المسيل التي هشَّمت وجهه. وبالقرب منه كان يوجد ريمون، وكانت الشظايا قد ملأت جسده النحيف. وحين بلغت أنباء العنف علاء، قال صديقه المقرب لاحقاً إنَّه أسرع بنفسه إلى المشهد.

أُصِيب علاء بطلق ناري في غضون دقائق. وسرعان ما مات.

سبب الوفاة: "بانتظار التحديد"

وجد علي نجله المصاب بشدة في المستشفى العصبية في بغداد، وكانت جمجمة محمد مهشمة، وكان مصاباً بنزيف داخلي.

ويتذكَّر علي أنَّ أحد كبار الأطباء قال له: "سنكذب إن قلنا لك إنَّه سيكون بحالٍ جيدة".

توفي محمد في أمسية 25 فبراير/شباط، وفي القسم المخصص لسبب الوفاة في شهادة الوفاة كتب علماء الأمراض في مشرحة بغداد "بانتظار التحديد".

وقالت أسرة محمد إنَّها تواصلت مراراً مع المشرحة من أجل المتابعة، لكن لم يرد أحد على المكالمات. وقال علي: "لا أحد في هذا البلد يجرؤ على كتابة كلمات على ورق تشير إلى أنَّ رجال شرطتنا مجرمون".

وبعد أسبوع من عمليات القتل، وفي الجهة الأخرى من البلدة في حي الكرَّادة، سمعت أسرة ريمون طَرْقاً على الباب، وقال ريان إنَّه كان يوجد بالخارج ضابط شرطة ينتظر، وقال الضابط لهم إنَّه شهد وفاة ريمون، وإنَّ المراهق قُتِل على يد فرد آخر بشرطة مكافحة الشغب.

انفجرت الأسرة حزناً، وصدَّقوا ضيفهم –الذي سيُقدِّم لاحقاً إفادة مُوقَّعة تحدد هُوية القاتل المزعوم- لكنَّهم شعروا بأنَّهم بلا حول ولا قوة. 

حين كان الكاظمي رئيساً للمخابرات، يروي مقربون وثيقون منه أنَّه قاطع جلسات مجلس الأمن الوطني العراقي حين وصل العنف ضد المتظاهرين إلى ذروته في أواخر العام الماضي.   

وقال أحد الحلفاء السياسيين له: "كان سيستقيل آنذاك، لكن ضُغِط عليه لئلا يفعل".

وفي مايو/أيار الماضي، اختارت الأحزاب السياسية الكاظمي رئيساً للوزراء.

الاستعداد للمعركة

بعد 10 أشهر تقريباً من اليوم الذي بدأت فيه الاحتجاجات، قال المتحدث باسم الكاظمي، هشام داود، للصحفيين، إنَّ المرحلة الأولى من التحقيقات اكتملت، وأفاد بمقتل 561 شخصاً، معظمهم من الشباب، ومعظمهم حول ساحة التحرير.

أعلنت الحكومة الضحايا "شهداءً"، ما يمنح كل أسرة الحق في الحصول على نحو 8400 دولار لتغطية نفقات الجنازة والدفن، مع تبقي مبلغ بسيط ربما. وقال داود إنَّ التحقيقات قد تفضي إلى محاكمة القتلة.

لكنَّ الصحفيين المتشككين سألوا داود ما إن كان المسؤولون يجرأون على التحقيق مع الميليشيات المدعومة من إيران، والتي يجري تحميلها مسؤولية بعض أكبر الانتهاكات.

ردَّ داود بحزن: "لا نريد لجنة بعد لجنة، هناك مقولة عراقية شهيرة تقول: إن أردت دفن قضية أنشِئ لها لجنة".

وتستعد نفس المجموعات المتهمة بإطلاق النار على المتظاهرين لمعركة مع الكاظمي، ففيما يضع الرجل حلفاءه على رأس القوى الأمنية العراقية ويُضيِّق الخناق على عائدات الميليشيات، تُتَّهم المجموعات المرتبطة بإيران بتحدي رئيس الوزراء يومياً تقريباً، من خلال شنّ هجمات صاروخية على مواقع يستخدمها الجيش الأمريكي.

وقد أوصل اغتيال الباحث الشهير المقرب من الحكومة، هشام الهاشمي، في يوليو/تموز الماضي، رسالةً مفادها أنَّ شخصيات قليلة في العراق لا يمكن المساس بها.

اختفى المقرّبون من الكاظمي من الإعلام. ويتساءل البعض مَن منهم قد يكون التالي. وقال أحد مستشاري الكاظمي: "إنَّه يريد العدالة، لكنَّ يديه مقيدتان، لم يكن يعلم أنَّ رد الفعل سيكون بهذه القوة".

في غضون ذلك، بدأ قتل المحتجين مجدداً، لكن هذه المرة في مدينة البصرة، جنوبي البلاد. وكما هو الحال في بغداد كان القتلى مدافعين عن وجود عراقٍ أفضل، ويُلقي النشطاء باللائمة على الميليشيات المدعومة من إيران.

وبالنسبة لأفراد أسر ضحايا بغداد تبدو التحقيقات التي أُجريَت حتى الآن أمراً بسيطاً للغاية ومتأخرة جداً.

ويحثهم والد ريمون على عدم فقدان الأمل في الكاظمي.

تحميل المزيد