الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون يرى أن البلاد تخلصت للأبد من النظام الفاسد، لكن ربما لا يوافقه الجميع.. فكيف يمكن تقييم التجربة الديمقراطية في بلد شهد انتفاضة شعبية قبل عام أطاحت بالرئيس عبدالعزيز بوتفليقة ويظل السؤال هل أطيح بالنظام القديم فعلاً؟
صحيفة New York Times الأمريكية تناولت القصة في تقرير بعنوان: "تلاشي الآمال في تحقيق مسار سياسي جديد في الجزائر بعد عام من الانتفاضة الشعبية"، ألقى الضوء على وجهات النظر المختلفة في ظل الأوضاع الحالية في البلاد.
تبون "سعيد" بما تحقق
من أعلى مرتفعات الجزائر العاصمة وفي قصر على الطراز المغربي، أعلن الرئيس عبدالمجيد تبون عن ميلاد يوم جديد لبلاده، قائلاً إن بلاده الآن "حرة وديمقراطية". وأصر على أن النظام القديم الفاسد – الذي قضى فيه حياته كلها – قد انتهى.
فمن جانبه، قال الرئيس الجزائري البالغ من العمر 75 عاماً، وهو يدخن السجائر في مقابلة استمرت لساعات محاطاً بمساعديه في مكتبه الفخم الشهر الماضي: "نحن نبني نموذجاً جديداً هنا. لقد قررت أن أذهب بعيداً جداً في خلق سياسة جديدة واقتصاد جديد".
لكن العادات القديمة لا تموت بسهولة في هذا البلد الواقع في شمال إفريقيا، الذي عرف ما يقرب من 60 عاماً من القمع والتدخل العسكري والانتخابات المزورة وندرة الممارسات الديمقراطية. في الشوارع تحت مكتب تبون، تعيد الحقائق القديمة للجزائر تأكيد نفسها.
فالدولة تزج بالمعارضين في السجون، والمناصب معروضة للبيع – كان السعر الجاري حوالي 540 ألف دولار وفقاً لشهادة برلماني في المحكمة – في نفس البرلمان الذي صادق على الدستور الجديد الذي اقترحه تبون، والذي جرت صياغته بعد وصوله إلى السلطة في انتخابات متنازع عليها في ديسمبر/كانون الأول 2019. لكن المعارضة تعثرت بسبب الافتقار إلى القيادة والفشل في صياغة رؤية بديلة للبلاد.
بعد مرور عام على انتفاضة شعبية أطاحت بالرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي استمر 20 عاماً، وقادت الجيش إلى سجن الكثير من الطبقة الأوليغارشية الحاكمة، بدأت الآمال تتلاشى الآن في إصلاح النظام السياسي وتحقيق الديمقراطية الحقيقية في الجزائر.
لكن للقصة وجه آخر
على الجانب الآخر، قال محسن بلعباس، سياسي معارض لعب دوراً رئيسياً في الانتفاضة: "إننا نتحرك للوراء بسرعة"، فاليوم هناك روايتان سياسيتان في الجزائر: واحدة من تبون في الأعلى، والأخرى في الشوارع في الأسفل.
بدا أن التمرد في الشوارع الذي بدأ العام الماضي، والمعروف هنا باسم الحراك، يشير في البداية إلى فجر جديد في بلد خنقه جيشها الضخم لعقود، لكن عندما أدى فشل الحركة في الالتحام حول القادة والاتفاق على الأهداف إلى خلق فراغ، تدخلت بقايا الدولة الجزائرية القمعية، بأجهزتها الأمنية الوفيرة.
وعلى الرغم من أن الجيش أجبر بوتفليقة ونخبه الحاكمة في النهاية على ترك مناصبهم، فإن ذلك لم يكن كافياً للمتظاهرين، وطالبوا بإصلاح شامل للطبقة السياسية في البلاد، وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية جديدة لتحل محل البرلمان السيئ في البلاد، وانسحاب الجيش نهائياً من السياسة، كما اعتبروا أن دفع الجيش لإجراء انتخابات رئاسية أمر سابق لأوانه. لكن رئيس أركان الجيش القوي، أحمد قايد صالح، قلب الحركة.
انتخابات عكس رغبة الحراك
ويُعتقد أن تبون، الذي كان ذات يوم رئيس وزراء لفترة قصيرة للغاية في عهد بوتفليقة، قد تلقى دعماً من قايد صالح للوصول إلى الرئاسة، فلقد اُنتخب تبون في ظل انتخابات قال المعارضون إنها لم تشهد سوى إقبال أقل من 10% من الناخبين؛ لكن تبون قال إن نسبة الإقبال تجاوزت 40%.
وبدأ تبون حكمه ببعض الإشارات حسنة النية، حيث أطلق سراح بعض المحتجين المحتجزين، لكن انتشار فيروس كورونا تسبب في وقف المظاهرات في مارس/آذار 2020، ومنذ ذلك الحين لعبت الحكومة لعبة القط والفأر مع بقايا فلول الحراك، وأطلقت سراح البعض واعتقلت آخرين، وقالت جماعة معارضة إن العشرات اعتقلوا.
وأدى اعتقال ومحاكمة أحد أشهر الصحفيين في البلاد، خالد درارني، 40 عاماً، إلى زيادة حدة المزاج في الشوارع ونشر الخوف في وسائل الإعلام الجزائرية، ودرارني هو مؤسس ورئيس تحرير موقع القصبة تربيون واسع الانتشار، ومراسل محلي لمحطة تلفزيون تي في 5 موند الفرنسية، قام بتغطية الحراك بمزيج من النشاط والموضوعية.
وكتب خلال انتفاضة العام الماضي: "النظام يجدد نفسه بلا توقف ويرفض التغيير. نحن ندعو إلى حرية الصحافة. وهم يردون على ذلك بالفساد والمال"، وأثارت هذه التدوينة حنق السلطات، وفي 15 سبتمبر/أيلول 2020، أدين خالد بـ "بالمساس بالوحدة الوطنية" وحكم عليه بالسجن لمدة عامين.
على الجانب الآخر، قال الرئيس الجزائري تبون غاضباً خلال مقابلة تعليقاً على ذلك، "لم يكن لديه حتى بطاقة صحفية" واصفًا دراريني بأنه ناشط ينفذ أجندات أجنبية مريبة، ومع ذلك، أجرى دراريني مقابلة مع الرئيس تبون نفسه، وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
القوة الأبرز في البلاد
وأصر تبون على رواية معارضة بشأن ذلك الأمر خلال المقابلة التي استمرت ثلاث ساعات ونصف الساعة، قائلاً إن بلاده أصبحت الآن "حرة وديمقراطية"، وفي وقت لاحق، جعل أعضاء حكومته المتحفظين عادة متاحين لإجراء مقابلات معهم، بل وطالب رئيس أركان الجيش – الذي لا يمكن الوصول إليه من قبل وسائل الإعلام – بالموافقة على إجراء مقابلات معهم.
على الجانب الآخر، قال الجنرال سعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش، وهو من قدامى المحاربين في الحرب الأهلية في التسعينيات مع الإسلاميين في البلاد حيث خلف اللواء قايد صالح الذي توفي بنوبة قلبية في ديسمبر/كانون الأول 2019: "الجيش محايد. كيف تريدنا أن ننخرط في السياسة؟" وأضاف الجنرال، 75 عاماً، متحدثاً في المجمع العسكري الواسع في مرتفعات الجزائر العاصمة: "نحن لسنا مدربين على الإطلاق على ذلك"، لكن عقوداً من التاريخ لا يمكن عكسها بسهولة.
وتحدث الجنرال عن التغيير، متفاخراً بالدستور الجديد، الذي يقيد الرئيس بفترتين ويعترف بحقوق المعارضة، على الأقل في نظر أنصاره. لكن في الأسبوع الماضي، هددت الحكومة بتجريد محسن بلعباس، السياسي المعارض، من حصانته البرلمانية، وعلى الرغم من كل الحديث عن جزائر جديدة، استخدم الرئيس لغة المستبد القديمة عندما ناقش التعامل مع المعارضة.
وتجدر الإشارة إلى أن الثورة الجزائرية ضد الفرنسيين قبل 58 عاماً قد فشلت لعدم وجود زعيم واضح، وهذه المقاومة لتعيين زعيم، وهي تكتيك لتقليل القمع، قد أضعفت الحراك الآن، فالنشطاء الذين اضطلعوا بدور قيادي في الحراك رفضوا التعامل مع ورثة الزعيم المخلوع، بمن فيهم الرئيس الجديد.
أما الجزائريون العاديون فهم عالقون في المنتصف، فهم متشككون في ادعاءات تبون بالتجديد ودستوره الجديد، والتي تضاءلت بسبب زوال الحراك والغضب من سجن الصحفي دراريني.
وتساءل عيسى منصور، الذي يدير متجراً صغيراً للملابس في حي بلوزداد الذي تسكنه الطبقة العاملة، حيث نشأ الكاتب المسرحي الفرنسي ألبير كامو الحائز على جائزة نوبل قبل 100 عام قائلاً: "إذن، عندما يتحدث صحفي، فأنت تضعه في السجن. فأين الديمقراطية إذن؟"، وأضاف: "لقد سئم المواطنون من كل هذه الوعود. لا يمكنك توقع إصلاحات من الحرس القديم. الجزائر لا تزال تبحث عن الديمقراطية".