تسبب إعلان رئيس الحكومة اللبنانية المكلف مصطفى أديب اعتذاره عن مهمته في أزمة جديدة بلبنان، إذ أتى بعد إصرار كبير من الثنائي الشيعي -حزب الله وحركة أمل- على تسمية وزراء شيعة، على خلاف التوافق الذي اجتمعت عليه القوى اللبنانية بعد لقائها بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية تدخلة لحل الأزمة.
فما الذي جرى في كواليس المشهد ودفع أديب للاعتذار بهذه الصورة، وهل كانت أزمته فقط مع الثنائي الشيعي، أم أن أطرافاً جديدة بدأت تدخل على خط الأزمة دفعته لاتخاذ قراره بتعجيل الانسحاب وإعادة الأمور إلى المربع صفر؟
اللقاء الأخير
بعد ظهر أمس الأول التقى الرئيس المكلف مصطفى أديب بوفد من الثنائي الشيعي -حزب الله وحركة أمل- وقد ضم الوفد المعاون السياسي لأمين عام حزب الله، الحاج حسين الخليل، والوزير السابق علي حسن خليل.
وتؤكد مصادر مقرّبة من أديب أن اللقاء جاء بعد لقاء أديب الأخير مع رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر الرئاسة في بعبدا، بعد إعلان رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري استعداده التنازل عن وزارة المالية للطائفة الشيعية.
وبحسب المصادر فإن عون طلب من أديب ضرورة التواصل مع الثنائي الشيعي لتذليل العقبات، خاصة أنها فرصته لإنقاذ المبادرة الفرنسية، وأن أديب استجاب وعقد معهما لقاء، سبقه تواصل مع رئيسي الحكومة السابقَيْن، نجيب ميقاتي وسعد الحريري من جهة، والثنائي الشيعي من جهة أخرى، وتضمنت الاتصالات وضع أسس مشتركة حول ضرورة الإسراع بتشكيل الحكومة، والاتفاق على الأسماء التي سيقترحها الثنائي الشيعي لوزارة المالية.
وأكدت المصادر أن الثنائي لم يفاتح الحريري وميقاتي بموضوع الإصرار على تسمية بقية الوزراء الشيعة في الحكومة، ما فُهم من الأطراف أنه تسهيل لمهمة أديب، كما أن اللقاء الذي جرى أمس الأول بين أديب والثنائي الشيعي دفع أديب لحسم موقفه، فإما أن يقدم تشكيلة الحكومة للرئيس كما يراها هو، أو أن يعتذر عن المهمة كلياً.
وشدّدت المصادر على أن حزب الله وحركة أمل أبلغا أديب استعدادهما للتعاون في تسهيل تشكيل الحكومة، لكن دون تقديم أية تنازلات، وتمسكا باختيار أسماء الوزراء الثلاثة الشيعة في الحكومة، باعتبار أن الموضوع بالنسبة لهما يمس جوهر التركيبة اللبنانية، وأن إبعادهما عن الحكومة قد يحول الحكومة لمنصة لاستهداف مشروع المقاومة والتصويب عليه، خدمة لأهداف خارجية.
وبحسب المصادر فإن هذه الصيغة تُجبر أديب على منح حزب الله وحلفائه حق تسمية الوزراء الشيعة الثلاثة، بالإضافة لوزير لتيار المردة ووزير للمعارضة الدرزية، بما يضمن لهم الاستحواذ على 5 وزارات في الحكومة.
وكشفت المصادر أن وفد الثنائي الشيعي حاول تسليم أديب قائمة بعدة أسماء مرشحة للوزارات الشيعية، إلا أن أديب رفض تسلمها، مؤكداً لهما أنه لن يقبل بهذا الأمر، الذي يمسّ صلاحياته كرئيس للحكومة، ثم انتهى الاجتماع دون اتفاق واضح على الشروط.
اتصالات بين إيمييه وأديب
على الجهة الأخرى، تؤكد مصادر دبلوماسية خاصة لـ"عربي بوست"، أن الرئيس المكلف مصطفى أديب تلقى اتصالاً قبل يومين من برنار إيمييه، مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، لمتابعة سير المفاوضات بينه وبين القوى السياسية، وقد نقل أديب لإيمييه تمسك الثنائي الشيعي بتسمية الوزراء الشيعة في الحكومة، وأكد له أن منح حزب الله وحركة أمل حق تسمية الوزراء سيفتح الباب للقوى السياسية الأخرى للمطالبة بتسمية وزراء في الحكومة.
كما كشف أديب لإيمييه أن حزب الله لم يكتفِ بالمطالبة بوزراء شيعة، بل بدأ يطالب بمنح حلفائه حق المشاركة في اختيار وزارات وتسمية وزراء، كما أبلغه أن رئيس تيار المردة سليمان فرنجية يطالب بالحصول على وزارة في الحكومة لتياره.
كذلك شرح أديب لإيمييه موقف الرئيس اللبناني ميشال عون، ومحاولة تدخله في تشكيل الحكومة مؤكداً لإيمييه أن هذا التدخل يعد اعتداء على الدستور، ومحاولة لفرض مجموعة وزراء من الحصة المسيحية تحت مسمى، وزراء محسوبين على الرئاسة.
ونقلت المصادر أن أديب أكد لإيمييه أنه لم يكن بمقدوره فعل أي شيء، وأن الاعتذار هو أفضل قرار، احتراماً للتعهدات التي قطعتها باريس للمجتمع الدولي، والوعود التي قطعها هو شخصياً للبنانيين بتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين عن الأحزاب السياسية، معتبراً أن ما تعهّدت به الأحزاب السياسية للرئيس ماكرون في زيارته الأخيرة كان حبراً على ورق.
وتكشف المصادر أن برنار إيمييه استمهل أديب، وطلب منه التريث لساعات قليلة حتى يحاول مع القوى السياسية فعل شيء ينقذ الخارطة السياسية التي وعدت باريس بتنفيذها في لبنان، إلا أن كلاً من إيمانويل بون، مستشار ماكرون لشؤون الشرق الأوسط، وبرنار إيمييه مدير المخابرات الخارجية الفرنسية لم يتمكنا من إقناع الأحزاب المعرقلة بتسهيل مهمة أديب؛ لذا فإنهما أبلغا ماكرون بوصول الاتصالات لحائط مسدود مع الثنائي الشيعي.
فيما أكدت مصادر قيادية في الحزب التقدمي الاشتراكي أن زعيم الحزب وليد جنبلاط قدّم مبادرة للحل قبل وصول رئيس الحكومة المكلف أديب إلى قصر الرئاسة، لتأخير اعتذاره، إلّا أنه فشل في ذلك.
وكان جنبلاط قد وجّه مبادرته للفرنسيين والثنائي الشيعي وأديب ورؤساء الحكومات السابقين، ولم يعلن عن تفاصيلها وبنودها حتى الآن، لكن حسبما تؤكد المصادر فإنها تدعو لمحاولة حل الأزمة، وتحميل المسؤولية للأطراف التي تعرقل إنجاز الحكومة.
سيناريوهات محتملة
على وقع اعتذار أديب خرجت القوى السياسية، على رأسها تيار المستقبل، والحزب التقدمي الاشتراكي، ورؤساء الحكومات السابقون، وأعلنوا مواقفهم بشكل حاد وصريح، واتفقت القوى السياسية على تحميل الثنائي الشيعي مسؤولية ضياع الفرصة المهمة لتشكيل حكومة اختصاصيين، وأن فعلتهما هذه قد تقود البلاد إلى كارثة كبرى، في ظل ارتفاع الدولار مقابل الليرة اللبنانية، وقد تؤدي لمشكلات أمنية متنقلة قد تستغلها قوى خارجية.
يؤكد الصحفي والمحلل السياسي منير الربيع لـ"عربي بوست" أن مآلات اعتذار أديب سوف تدفع لبنان إلى منعطف جديد، وستزيد من استياء الفرنسيين، وتُعرضهم للكثير من الضغوط الأمريكية لوقف التفاوض مع حزب الله لتصنيفه حزباً إرهابياً.
ويرى الربيع أن مخاطر سياسية وأمنية واقتصادية سوف تبرز بقوة، وسيكون لبنان أمام احتمالين، إما العودة إلى التوافق على رئيس للحكومة، وهذا الاختيار يحتاج إلى وقت وإلى شروط متعددة، وإما تشكيل حكومة بشروط حزب الله، ما سيؤدي لتصعيد أمريكي مستمر، برفض مشاركة حزب الله وحركة أمل في أي تركيبة حكومية قادمة، ما سيصعب الموقف.
وعن مآلات اعتذار أديب، يؤكد المحلل السياسي جوني منير أن المبادرة الفرنسية تلقّت ضربة قوية، بعد تعويل ماكرون على مضي القوى السياسية في التخلي عن مكتسباتها التي حصلت عليها طيلة 30 عاماً بهذه السهولة.
ويرى منير أن ماكرون لم يكن مع تسرع أديب في الاعتذار، لأنه كان يتحاور مع طهران لحل الأزمة بأقل الخسائر.
ويرى منير أن حزب الله يريد نظاماً سياسياً جديداً في لبنان، ومؤتمراً تأسيسياً يقود إلى فرض نظام المثالثة بعد عقود من نظام المناصفة.
فقد كانت المناصفة تكمن في توزيع المناصب بالدولة بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ثم يتقاسم الشيعة والسنة فيما بينهم، أما الصيغة الجديدة التي يسعى إليها حزب الله فهي أن تقسم المناصب على 3 فرق: مسيحيين، وسُنة، وشيعة. وبحسب جوني منير فإن لبنان بعد اعتذار أديب دخل في الجحيم السياسي والاقتصادي، وإن أي صيغة اجتماعية حديثة وميثاق سياسي جديد يحتاج إلى أحداث كبيرة قد لا تتوفر في الوقت الحالي.