يأتي اعتذار رئيس وزراء لبنان المكلف مصطفى أديب عن الاستمرار في منصبه وقبول الرئيس ميشال عون للاستقالة بمثابة انتكاسة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي فرض أديب وأعطى قادة الأحزاب مهلة لإعلان التشكيل، فهل أصبح لبنان "أقرب إلى الجحيم" الذي حذر منه عون قبل أيام؟
في تقرير لوكالة الأناضول، اعتبر مراقبون أن اعتذار أديب عن تشكيل الحكومة الجديدة وقبول الرئيس عون لهذا الاعتذار بمثابة "انتكاسة جديدة" لماكرون في لبنان و"شهادة وفاة" لمبادرته.
وهو ذات السياق الذي أوردت فيه وكالة الأسوشيتدس برس الأمريكية قصة اعتذار أديب في تقرير بعنوان "استقالة رئيس وزراء لبنان المكلف، في ضربة لماكرون"، راصدة وصف مسؤول في مكتب الرئيس الفرنسي لما حدث بأنه "خيانة جماعية" من جانب الأحزاب السياسية اللبنانية.
والحديث هنا عن المبادرة التي أطلقها ماكرون عقب زيارتين أجراهما للبنان إثر كارثة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الماضي، بلهجة التهديد وإعطاء التعليمات، وشملت تشكيل حكومة جديدة بنظام سياسي جديد، وإصلاح البنك المركزي والنظام المصرفي، بحلول نهاية أكتوبر/تشرين الأول.
يعلنون جميعاً التمسك بالمبادرة
الكاتب والمحلّل السياسي اللبناني طوني أبي نجم رأى أنّ "المبادرة الفرنسيّة طارت منذ اللحظة الأولى لأنّ هناك قراراً إيرانياً برفض الذهاب إلى المفاوضات إلا مع الطرف الأساسي وهي الولايات المتحدة وذلك بعد الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة".
وقال للأناضول: "إيران لم تأخذ فرنسا على محمل الجدّ وتعتبر أن باريس لن تقدّم أي طروحات جديّة، لذلك كان هناك قرار واضح منذ اللحظة الأولى بعرقلة تشكيل الحكومة وفق ما يريده الغربيون"، مؤكداً أن "حزب الله ترجم الرغبة الإيرانية على الأرض بإفشال هذه المبادرة عندما شعر الحزب أن بري سيدفع باتجاه تقديم بعض التسهيلات". وشدّد على أن "الإيرانيين يفضلون البقاء على هذا الوضع إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة".
وعن المواقف التي أطلقت عن ضرورة إبقاء المبادرة الفرنسية أجاب: "الدولة الفرنسيّة بعد نسف المبادرة تسعى إلى الحفاظ على ماء الوجه خصوصاً أن ماكرون لا يودّ أن يظهر أن الجهد الذي وضعه في بلد صغير كلبنان غير قادر على الوصول إلى نتيجة".
ولفت إلى أن "فشل مبادرة ماكرون في لبنان سيكون لها ارتدادات في الداخل الفرنسي بشكل كبير لأن ماكرون له أزمات داخليّة وحاول الحصول على خرق خارجي ما، لكنه لم يوفّق في الموضوع"، وانتقد أبي نجم، المواقف التي صدرت من الأطراف الداخلية حول تمسّكهم بالمبادرة، قائلاً: "أسخف ما يمكن سماعه أن من أفشلوا المبادرة متمسّكين بها".
هل هي نكسة فعلاً؟
من جانبه، رأى الكاتب والمحلّل السياسي، قاسم قصير (مقرّب من حزب الله) أنّ "فرنسا لا تزال مستمرّة في جهودها لمعالجة الوضع اللبناني"، واعتبر قصير في حديثه للأناضول أن "ما سقط هو الاتفاق على تكليف الرئيس مصطفى أديب بتشكيل حكومة جديدة"، موضحاً أن "هذا الشقّ هو الذي سقط الآن"، وقال: "هذا الأمر يقتضي الآن متابعة المبادرة أو توضيح ما حصل"، مؤكداً أن "المشكلة في أن المبادرة لم تكن واضحة في التفاصيل لذلك وقع خلاف في الرأي حيثُ عمد البعض إلى إفشالها".
وعن سبب إصرار فرنسا على إنجاح المبادرة مع سقوطها اليوم بعد اعتذار أديب، ردّ قصير: "فرنسا لديها مصالح اليوم مهمة واستراتيجيّة في لبنان سواء بحماية الوجود المسيحي، أو بسبب خوفها من تطور الدور التركي في المنطقة خصوصاً في المتوسط، وبعض المصالح الاقتصاديّة في لبنان"، وشدّد على أن "فرنسا تسعى جاهدة لأنّ يكون لها دور فاعل في لبنان ولاسيّما مع تراجع الدور الأمريكي المباشر".
وعن تقييمه لما حدث اليوم بالنسبة لفرنسا، قال قصير: "لا شكّ أنها نكسة وما حصل نتيجة خلافات سياسيّة داخليّة لبنانيّة وبسبب عدم وضوح المبادرة بتفاصيلها، لكنّ على الجميع البحث على حلول لإخراج البلاد مما هي عليه".
الصراع الإيراني الأمريكي في لبنان
بدوره، أوضح الكاتب والمحلّل السياسي، جورج حايك، أن ما حدث اليوم هو نتيجة عوامل خارجيّة وداخليّة، وقال حايك للأناضول: "العامل الخارجي كان طاغياً خصوصاً في ظلّ شدّ الحبال القائم بين إيران وأمريكا، وسط رهانات إيرانيّة على فشل دونالد ترامب في الانتخابات المقبلة"، متابعاً: "إيران تسعى لكسب الوقت وتعلي السقف في لبنان، وأوعزت لحزب الله أن يتشدّد في موضوع الحكومة".
وقال: "رغم مبادرة الحريري بقي حزب الله متمسّكاً بشروط حقيبة الماليّة، لذلك كان معلوماً رفض الحزب تسهيل المبادرة للأسباب المذكورة"، وعن قدرة الاستمرار في انعاش المبادرة الفرنسية، أوضح: "اليوم الأطراف اللبنانيّة وبالأخص الثنائي الشيعي غير مبالين للأوضاع التي تمرّ بها البلاد ويراهنون على الوقت".
من جهته، نعى الكاتب والمحلّل السياسي يوسف دياب المبادرة الفرنسيّة، قائلاً: "مع اعتذار أديب ماتت المبادرة الفرنسيّة لأن مقوّمات تشكيل الحكومة ضمن مهل محدّدة وقصيرة سبق وأن وضعها ماكرون سقطت"، ومضى شارحاً: "أي محاولة لإنعاش مبادرة ماكرون لن يكتب لها النجاح خصوصاً أن أي رئيس حكومة يقبل بأي عمليّة تكليف سيعود إلى نفس المخاض الذي عاناه أديب"، وتصوّر دياب في حديثه للأناضول أن "كلّ الحلول باتت مقفلة حتى لو أعلن الفرنسي أنّ المبادرة قائمة".
ويعتقد دياب أن "مقوّمات المبادرة الفرنسيّة انتهت وإنجاح أي مبادرة أخرى في الوقت الراهن غير متوفرة"، وقال: "حزب الله ومن خلفه إيران ليس من مصلحتهما تقديم أي تنازلات في موضوع الحكومة قبل تبلور صورة الانتخابات الأمريكيّة التي يُبنى عليها بالنسبة لهما".
واستطرد دياب: "إذا كانت هناك تنازلات سيقدّمها الإيراني وحزب الله على طاولة التفاوض ستُقدّم للأمريكي وليس للفرنسي"، مشدداً على أن "ماكرون خسر أوراقه من خلال إجهاض المبادرة وبالتالي هو لن ينعيها وربما سيبحث عن كبش فداء جديد أي رئيس جديد للحكومة"، وختم: "ما حصل مع ماكرون في الداخل اللبناني سيترتّب عليه نتائج في فرنسا، وبالتالي سيسعى للحفاظ على ما تبقى له من ماء الوجه".
لبنان ذاهب إلى الجحيم؟
وبعيداً عن التداعيات الداخلية في فرنسا بالنسبة لرئيسها الذي حاول أن يحقق نجاح في سياسته الخارجية هروباً من مشاكله الداخلية، يتساءل اللبنانيون الآن عما قاله عون قبل أيام بشأن أن "لبنان ذاهب إلى جهنم إذا لم يتم تشكيل الحكومة"، فها هو فشل تشكيل الحكومة أصبح أمراً واقعاً.
وأمس السبت 26 سبتمبر/أيلول عبر رؤساء وزراء سابقون عن أسفهم إزاء عدم استغلال السياسيين فرصة إنقاذ البلاد، في إشارة إلى المبادرة الفرنسية بشأن تشكيل الحكومة، وذلك في بيان باسم رؤساء الحكومة السابقين نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة، وتمام سلام.
وذكر البيان أن الرؤساء الثلاثة آسفون من "أن يصار إلى الالتفاف على الفرصة التي أتيحت للبنان، ومن ثم إلى إجهاض جميع الجهود"، مشيراً إلى أنه "مع تكليف أديب بتشكيل الحكومة الجديدة لاحت فرصة إنقاذ لبنان بتأليف حكومة تبدأ بالعمل على استعادة الثقة ووقف الانهيار الاقتصادي".
بيان الرؤساء الثلاثة أشار إلى أن "التكليف جاء استجابة لمطالبة شعبية عارمة بتأليف حكومة إنقاذ مصغرة، من الوزراء أصحاب الاختصاص والكفاءة المصممين على تنفيذ خطة تستهدف إنقاذ البلاد من الأزمات العميقة والمستفحلة".
وأضافوا في البيان أنه "أصبح واضحاً أن الأطراف المسيطرة على السلطة لا تزال في حالة إنكار شديد ورفض لإدراك حجم المخاطر الرهيبة التي أصبح يتعرض لها لبنان"، مضيفين: "بالتالي هي (الأطراف التي لم يذكرها بالاسم) امتنعت عن تسهيل مهمة، ومساعي الرئيس المكلف ما أدى إلى إفشالها".
وفي ظل الأزمة الطاحنة التي يعانيها لبنان اقتصادياً، وتحذيرات رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب من تعرض البلاد قريباً لنقص حاد في المواد الغذائية، أو بمعنى آخر خطر المجاعة أو ثورة جياع، يصبح السيناريو "الجهنمي" الذي أشار إليه عون أقرب من أي وقت مضى.