على مدار 10 سنوات والنظام السوري يزعم أنه يواجه الجماعات الإرهابية من أجل الحفاظ على البلاد وإعلان الانتصار العسكري إلا أن الفشل السياسي والاجتماعي يلاحقانه في كل سوريا بما فيها الأماكن التي كانت تناصره منذ اندلاع الثورة في مارس/آذار 2011.
وبحسب تقرير لمجلة The Economist البريطانية فإن الأوضاع الاقتصادية الآن في سوريا باتت متدهورة إلى حد غير مسبوق، فأسعار المواد الغذائية ارتفعت لدرجة أن النساء بِتنَ يغلِين الأعشاب لإطعام الصغار. وفي مخابز العاصمة دمشق، يتسلق الرجال بعضهم بعضاً للحصول على قليل من الخبز المدعوم المتاح. وفي جميع أنحاء البلاد، تصطف الطوابير بامتداد شوارع للحصول على البنزين. وقد أصبحت أجزاء كبيرة من بعض المدن عبارة عن ركام. وانحدرت قيمة العملة المحلية لدرجة أن السكان المحليين صاروا يستخدمونها كورق لسجائرهم.
كان المفترض أن يكون هذا العام عامَ التعافي لنظام بشار الأسد. بعد ما يقرب من عقدٍ من الثورة على حكمه. وكان قد أمل في أن تؤدي دفعة أخيرة إلى حسم انتصاره، وإعادة الدول الأجنبية، التي لن تجد أمامها بديلاً له، علاقاتها الدبلوماسية مع نظامه، ومن ثم البدء في ضخ تكاليف إعادة الإعمار.
الوضع كما هو
غير أنه، حتى الآن، لم تسر الأمور على هذا النحو. فقد تمكن المعارضون، بدعم من تركيا، من التصدي للهجوم الذي شنه الأسد في الربيع الماضي على آخر معقل كبير للمعارضة في محافظة إدلب شمال سوريا. ورغم الوعود التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب، ظلت القوات الأمريكية متمركزة في شمال شرق سوريا الغني بالنفط، داعمةً الأكراد في تعزيز سيطرتهم على المنطقة. وما فتئت العقوبات الأمريكية تنهك الاقتصاد السوري. كما تفاقم الأزمة المالية التي يعيشها لبنان المجاور تلك المعاناة. ثم هناك جائحة كورونا التي تأثرت بها البلاد بشدة. كل ذلك جعل الأوضاع الإنسانية في الأراضي التي يسيطر عليها النظام أشد سوءاً مما كانت عليه في ذروة الحرب، بحسب الأمم المتحدة.
كانت الحرب قد أفرغت خزائن الاقتصاد السوري بالفعل. تنتج سوريا الآن 60 ألف برميل من النفط يومياً، أي سدس إنتاجها قبل الحرب تقريباً. وكان محصول القمح في العام الماضي نصف الكمية التي كان عليها متوسط ما قبل الحرب. ولطالما وضع السوريون أموالهم في البنوك اللبنانية للاستفادة من عوائد فوائدها، إلا أن هذه البنوك حدَّت عمليات السحب في العام الماضي، ما أدى إلى نقص العملة الصعبة لدى الجميع. ونتيجة لذلك بدرجةٍ ما، فقدت الليرة السورية أكثر من 70% من قيمتها مقابل الدولار هذا العام وحده، لتشتعل أسعار السلع الأساسية. وفي غضون ذلك، قطع النظام الإعانات والمساعدات. ولحماية بنوكها، جمدت الحكومة السورية القروض وحظرت التعاملات بالدولار، وفرضت قيوداً مشددة على عمليات السحب.
كورونا تزيد من الأزمة
جاءت جائحة كورونا لتفاقم من المعاناة الاقتصادية للبلاد. تقول الأمم المتحدة إن نحو 60% من الشركات السورية أغلقت مؤقتاً أو على نحو دائم بسبب الوباء. ورغم إعلان الإغلاق الاقتصادي للبلاد في مارس/آذار، فإن المواطنين المُستَنزفين ما لبثوا أن تجاهلوا تلك القيود. والآن، التكلفة الصحية لكل ذلك باتت أكثر وضوحاً.
حاول النظام إخفاء حجم تفشي الفيروس في البلاد. وأمر مسؤولوه بإلقاء اللوم على الالتهاب الرئوي، وليس فيروس كورونا، في الوفيات التي أخذت تنتشر في البلاد. وهكذا، جاءت البيانات الرسمية بأن أقل من 200 سوري قد تُوفوا بسبب المرض، لكن المؤكد أن العدد أعلى من ذلك بكثير. ويقول مارك لوكوك، منسق الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة: "نحن نعلم على وجه اليقين أن العدوى متفشية في المجتمع، فنحو 90% من الحالات المؤكدة حديثاً لا يمكن تتبعها إلى مصدر معروف".
وكشفت دراسة أعدَّها علماء في "إمبريال كوليدج لندن" عن أن عدد المتوفين في دمشق وحدها قد يصل إلى 80 ضعف العدد الرسمي. وربما يكون ما يقرب من 40% من المواطنين قد أصيبوا بالفعل بالفيروس، ومع ذلك فإنه فقط الأشخاص الذين لديهم علاقات بذوي النفوذ هم من يحصلون على أسرة في المستشفيات، فيما يدور الأطباء في أروقة المستشفيات حاملين عبوات الأكسجين لتقديم الإغاثة الطبية للمرضى الذي يتساقطون.
العقوبات على الحلفاء تضرب اقتصاد بشار
الدول التي أقبلت في الماضي لمساعدة النظام السوري لن تساعد أو لن تستطيع المساعدة هذه المرة. فإيران التي لطالما دعمت الأسد تخضع للعقوبات نفسها ولا تملك تقديم الكثير من المساعدة الاقتصادية. وروسيا، الحليف الكبير الآخر للديكتاتور السوري، تخضع أيضاً لعقوبات اقتصادية. ومع أن السوريين يقولون إن بإمكانها فعل المزيد، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستمتع على ما يبدو بالنفوذ الذي يمنحه إياه تردي الأوضاع في سوريا. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أرسل وزير خارجيته، سيرغي لافروف، إلى دمشق، سعياً وراء عقود جديدة في قطاعات الطاقة والإنشاءات. ويصف رجل أعمال سوري موالٍ للنظام الأمر بالقول: "لقد أصبح منقذونا نسوراً" تقتات على ما تبقى من بلادنا. أما أمريكا وأوروبا، فترسل بعض الأموال الكافية لشراء أشياء مثل احتياجات الغذاء والدواء الأساسية، لكنها ترفض تمويل إعادة الإعمار، على الأقل حتى يجري التوصل إلى تسوية سياسية.
عمد ترامب إلى تكثيف العقوبات على سوريا، على أملِ دفع الأسد نحو تسوية قد تفضي في النهاية، إلى إقصائه من السلطة. وهكذا استهدفت القيود المفروضة في يونيو/حزيران المعاملات التي تجري بالعملات الأجنبية، ومنها التحويلات التي يعتمد عليها كثير من السوريين في تسيير معاشهم. كما قطعوا الطريق على أمل النظام في نقل عملياته المصرفية من بيروت إلى دبي. وفرضت الدول الأوروبية عقوباتها الخاصة على عائلة الأسد وأتباعه. وتحاول بعض الدول محاسبة النظام على فظائعه، وهكذا تجري في ألمانيا محاكمة اثنين من المسؤولين السوريين المتهمين بالتعذيب. وهددت هولندا برفع قضية ضد النظام السوري بتهمة ارتكاب جرائم حرب في محكمة العدل الدولية في لاهاي.
الأسد يفترس رجال أعماله
ورغم كل ذلك، فإن النظام يزداد ضراوة. وبعد أن سحق بالفعل أولئك الذين عارضوه، التفت الآن لافتراس رجال الأعمال والمزارعين الذين لطالما ساندوه. وبحسب ما ورد، احتجز ضباط جمارك وميليشيات عدداً من الشاحنات وصادروا بضائعها، ثم طلبوا رشاوى كبيرة لإعادتها. ولتحصيل الضرائب، تستعين الدولة بالجنرالات وأمراء الحرب وتمنحهم حصة مما يحصلونه. وفي الوقت نفسه، يشتري محاسيب النظام العقارات والشركات بأثمان بخسة من الطبقة الوسطى الآخذة في الافتقار. ويقول أحد الخبراء المشتغلين بالشؤون السورية: "الأسد منشغل بالاستحواذ على مزيد من اقتصاد البلاد لنفسه".
على الجانب الآخر، يتساءل موالون للنظام عما قد تكون عليه الأوضاع في المستقبل. ويقول أحد رجال الأعمال الموالين للأسد: "لم أعد متيقناً مما إذا كان الأسد سينجو". ويحلم آخرون بمخططات بعيدة المنال قد تُخرج سوريا من الدوامة التي وقعت فيها، فيذهب أحد المطلعين على دواخل النظام إلى أن الأسد إذا تمكن من دفن أحقاده حيال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سيُمكن لشركات البناء التركية أن تعود وتعيد بناء سوريا. فيما يحلم آخر باستمالة الولايات المتحدة من خلال تحسين العلاقة مع إسرائيل التي شنَّت مئات من الضربات الجوية على أهداف إيرانية في سوريا.
ومع ذلك، فإن الأسد على ما يبدو غير معني بالسبل الدبلوماسية ولا منشغل بها. فبحسب أحد أصدقاء العائلة: "وضعه لم يتغير عما كان عليه منذ اليوم الأول". وبعد عقدين من الزمن في السلطة، أثبت النظام تمتعه بمرونة ملحوظة. كما أن الموالين وموظفي الخدمة المدنية، وإن سخطوا، فليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه للحصول على شيك الراتب. وشرطته السرية تخمد أي احتجاجات تبرز، فيما تواصل قواته العسكرية الضغط على إدلب. وعندما تنتهي ولاية الأسد التي بلغت سبع سنوات في الصيف المقبل، سيشرع في إجراء انتخابات زائفة أخرى. بل، ويقال إنه وزوجته، أسماء الأسد، يُعدان ابنهما حافظ، البالغ من العمر 18 عاماً، لتسلّم مهمة الحكم من والده يوماً ما. ومن وجهة نظر عائلة الأسد، فإن البقاء في السلطة هو انتصار كافٍ.