فاجأ رئيس الحكومة الأسبق وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري، اللبنانيين قبل أيام بمبادرة أعلن فيها قبوله تسمية وزير المالية من التيار الشيعي الذي تقوده حركة أمل وحزب الله، واشترط الحريري في مبادرته أن يكون التنازل بتسمية وزير شيعي، استثناء لمرة واحدة فقط وألا يشكل عرفاً يبنى عليه تشكيل الحكومات في المستقبل.
وفي بيانه أعلن الحريري عزمه على مساعدة أديب لإيجاد مخرج بتسمية وزير مالية مستقل من الطائفة الشيعية، يختاره هو، شأنه شأن سائر الوزراء على قاعدة الكفاءة والنزاهة وعدم الانتماء الحزبي.
لكن تساؤلات عدة طرحت نفسها على المشهد، فهل أتت مبادرة الحريري بقرار فردي، أم بعد تنسيق واتصال مع الرئيس الفرنسي ماكرون؟ وهل ما أثارته المبادرة من جدل قد يفتح باب العودة إلى نظام المحاصصة الذي سبَّب كل أزمات لبنان؟
ماذا جرى بين ماكرون والحريري؟
أتت مبادرة رئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، بناء على طلب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فأعلن مبادرته بمنح وزارة المالية لوزير شيعي، لكنها لم تنجح في الحصول على تأييد رؤساء الحكومات السابقين كما كان يُنتظر.
وبحسب مصادر خاصة لـ"عربي بوست"، فإن الحريري قبل يوم من إصدار بيان التسوية الذي طرحه، استقبل اتصالاً هاتفياً من الرئيس الفرنسي ماكرون، وخلال الاتصال طلب الأخير من الحريري القبول بمنح الثنائي الشيعي- حركة أمل وحزب الله- وزارة المالية في حكومة أديب والاتفاق معهما على تسمية الوزراء الشيعة في الحكومة.
وأكدت المصادر، أن الحريري رفض الفكرة في البداية وقال لماكرون إن هذا القرار مغامرة كبيرة قد تقضي عليه وسط مؤيديه وتهدد شعبيته التي يسعى لاستعادتها.
فيما ردَّ ماكرون على الحريري بتذكيره بأن إيران تستهدف صناعة الفوضى وأن حزب الله يعتمد عليها لتقوية نفوذه في لبنان، بينما هي تستخدم ورقة الفراغ الحكومي في الضغط على الإدارة الأمريكية لإعادة التفاوض الأمريكي الإيراني بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية.
فيما شدد ماكرون للحريري، حسب المصادر، على أنه في حال قبل بالتنازل ومنح الثنائي الشيعي وزارة المالية، فإن باريس سوف تبدأ بالعمل على مؤتمر مساعدة لبنان وسوف تحاول تمرير جزء من مساعدات مؤتمر سيدر ، الذي عُقد في عام 2018، ووعد بتقديم قروض ومِنح للبنان شريطة الإصلاحات.
ونقلت المصادر أن ماكرون هدد، في حال تعطيل الثنائي الشيعي للمبادرة التي سيطلقها الحريري، بأن فرنسا سوف تحمِّل حزب الله المسؤولية كاملةً عن انهيار التسوية، وسوف تقر عليه عقوبات.
جدل بعد الإعلان
أصدر الحريري بيانه المتفق عليه مع ماكرون، ولم تمضِ دقائق على المبادرة إلا وأصدر رؤساء الحكومات السابقون بياناً تبرأوا فيه من مبادرة الحريري، معتبرين أنها فردية وتمثله وحده فقط.
ووفق المصادر فإن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي كان بصدد الانضمام إلى مبادرة الحريري؛ أملاً في أن يتمكن مصطفى أديب من إنهاء التشكيلة الحكومية، لكن ميقاتي خشي الوقوع في حرج أمام رؤساء الحكومات السابقين الذين أجمعوا على رفض مبادرة الحريري.
على الجانب الآخر، رحب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بالمبادرة، وأجرى اتصالاً مع الحريري، مبدياً تأييده لفكرة منح وزارة المالية للئنائي الشيعي، على أن يشارك رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب في اختيار الاسم.
وتوضح مصادر مقربة من جنبلاط لـ"عربي بوست"، أنه سعى من خلال زيارته لباريس إلى أن إقناع الإدارة الفرنسية بالضغط على الحريري ومن خلفه رؤساء الحكومات السابقون للقبول بتسمية الثنائي لوزير المالية.
المبادرة بعيون الثنائي
أكد مصدر بالثنائي الشيعي لـ"عربي بوست"، أن المبادرة التي أطلقها الحريري أُخضعت لتقييم فوري من قِبل حركة أمل وحزب الله، خاصةً المعاون السياسي لحسن نصرالله، الحاج حسين الخليل، ومستشار الرئيس نبيه بري، الوزير علي حسن خليل.
وأكدت المصادر أن الثنائي الشيعي لم يشعر بالارتياح لتبنّي فرنسا طرح الحريري بأن يشارك الرئيس المكلّف في تسمية الوزراء بنفسه، وأن هذا يتطلّب تفسيراً من الجانب الفرنسي، فإذا كان المقصود أن يسمّي الوزراء بناء على لوائح نقدّمها للاختيار منها، فلا مشكلة على الإطلاق، وأما إذا كان يقصد أن يسمّي الوزراء الشيعة بمعزل عن الثنائي، فإن الأمور سوف تعود للمربع الصفر.
واعتبر مصدر الثنائي أن التسليم العلني في مبادرة الحريري بأن وزارة المالية من حصة الشيعة، خطوة إيجابية.
الرئيس ممتعض من المبادرة
تؤكد مصادر دبلوماسية لـ"عربي بوست"، أن رئيس الجمهورية ميشال عون ممتعض من بيان الحريري ومبادرته، ويعتبرها تجاوزاً للأعراف واستخداماً لصلاحيات ليست له.
وتؤكد المصادر أن بيان مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية أبدى انزعاجاً رئاسياً من مضمون بيان الحريري، إذ استهجن أنه قرر مساعدة الرئيس المكلَّف على إيجاد مَخرَج بتسمية وزير مالية مستقلّ من الطائفة الشيعية.
ويشدد المصدر على أن بيان الرئاسة حرص على تأكيد وجود دور مباشر لرئيس الجمهورية في عملية تأليف الحكومة، بخلاف كل الاجتهادات التي يسعى عون لتسويقها، إلا أن هناك خشية لدى كثيرين من أن يكون بيان رئيس الجمهورية مقدّمة لظهور مشكلات جديدة بعد حلّ مشكلة وزارة المالية.
وقال المصدر: "عنوان هذه المشكلة التي يخشاها البعض، هو الحصة المسيحية، فقد لا تقلُّ حجماً عن إشكالية الشيعة في إصرارهم على وزارة المالية، فقد تظهر أصوات مسيحية في التيار الوطني الحر تطالب بوزارة الدفاع أو الخارجية كما أخذ الشيعة وزارة المالية، وربما يدفع هذا إلى مطالبة الأحزاب والقوى الأخرى بوزارات لها، ما قد يعيد الأمور للمربع صفر، وتنهار المبادرة الفرنسية".
بين موسكو وواشنطن
تؤكد مصادر مطلعة على الموقف الأمريكي، أن واشنطن لن تسمح لحزب الله وطهران بالتحرك في الملفات الكبرى بالمنطقة، وأنها تراقب تطورات المبادرة الفرنسية ولن تسمح لحزب الله وحلفائه باستغلال تلك المبادرة للعودة من جديد لبسط سيطرتهم على لبنان.
فيما تقول المصادر إن موسكو تؤكد أنها معنيَّة بإنجاح المبادرة الفرنسية في تشكيل الحكومة، وتؤيد منح وزارة المال للثنائي الشيعي، وهذا ما أبلغته للمعنيين في لبنان، على الرغم من تغيير سفيرها وتعيين سفير جديد وهو ألكسندر روداكوف، الذي سيصل إلى لبنان قريباً.
ماذا بعد مبادرة الحريري
رحب عضو كتلة الحزب التقدمي الاشتراكي، بلال عبدالله، بمبادرة الحريري واعتبرها مهمة في الشكل والمضمون لتحصين لبنان وإنقاذ مبادرة ماكرون، باعتبارها الملاذ الأخير لخلاص لبنان.
وأبدى عبدالله لـ"عربي بوست"، مخاوفه من أن تبدأ قوى وأحزاب لبنانية أخرى بالمطالبة بحصص وزارية، بحجة أن الثنائي نجح في ضغطه على الحكومة واستطاع الحصول على حصة وزارية.
ويشدد على أن حزبه لا يشعر بالغبن، فقد حسم مبدأ عدم المشاركة في الحكومة من قبل تكليف مصطفى أديب، ولم يشارك في الحكومة السابقة؛ حرصاً على الشفافية وعلى أن يتولى المستقلون والاختصاصيون مناصب وزارية وتتاح لهم فرصة للتغيير والإصلاح.
على الجانب الآخر يرفض عضو المجلس المركزي لحزب القوات اللبنانية جاد دميان، مبدأ التسويات على حساب الثوابت والدستور، ويؤكد أن مبادرة الحريري بمنح وزارة المالية للثنائي تأتي تحت عنوان إنقاذ المبادرة الفرنسية.
وقال دميان لـ"عربي بوست: "هذه التسوية ضربة للدستور في الصميم، لأن حصول الثنائي الشيعي على الحصة الشيعية في الحكومة سوف يفتح المجال لتيارات أخرى بمطالبات المحاصصة التي تعودت السلطة السياسية عليها طيلة السنوات الأخيرة، على حساب إنقاذ البلد".
ويستهجن دميان الحديث عن حكومة إصلاحية توافق على منح حزب الله وحركة أمل وزارة المالية، واعتبرها بداية غير إصلاحية.
وتساءل: "كيف سيتم مقاربة بقية الملفات في الحكومة؟".