الصمت الذي يحيط بأزمة سد النهضة حالياً، يبدو غريباً، لأنه يأتي بعد اختراق إثيوبيا الخط الأحمر الرئيسي في الأزمة، وهو إعلانها نهاية المرحلة الأولى لملء السد، وفي الوقت ذاته فشلت المفاوضات التي تُدار بواسطة الاتحاد الإفريقي لحل الأزمة.
ومضى 25 يوماً على آخر جولات مفاوضات "سد النهضة" بين مصر وإثيوبيا والسودان، برعاية الاتحاد الإفريقي، ورغم فشل التوصل إلى توافق واضح فإن الأمر ما زال معلقاً، ما أثار تساؤلات حول مصير "المسار الإفريقي"، في ظل صمت لافت للدول الثلاث.
وتشدد مصر والسودان أيضاً على "ضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم يضمن حقوق ومصالح الدول الثلاث، وفق اتفاق إعلان المبادئ الموقع عام 2015، ومبادئ القانون الدولي، على أن يضمن آلية فاعلة وملزمة لتسوية النزاعات".
وبحسب بيان أصدرته وزارة الري المصرية بتاريخ 28 أغسطس/آب 2020، فإن المفاوضات انتهت بعدم التوافق بين الدول الثلاث حول العديد من النقاط القانونية والفنية، بشأن النسخة الأولية المجمعة، المُعدة بواسطة الدول الثلاث، وتتضمن حصراً لنقاط الخلاف والتوافق، لكنها لم ترْقَ إلى عرضها على هيئة مكتب الاتحاد الإفريقي برئاسة جنوب إفريقيا، ليتم الاتفاق على أن تقدم كل دولة ورقة منفصلة تتضمن رؤيتها.
وتلك الاجتماعات التي انتهت بالفشل كانت قد انعقدت بناءً على مخرجات القمة الإفريقية المصغرة التي عُقدت 21 يوليو/تموز 2020، وكذلك الاجتماع السداسي لوزراء الخارجية والري من الدول الثلاث (مصر، السودان، إثيوبيا) الذي عقد يوم 16 أغسطس/آب الماضي.
سر الصمت الذي يحيط بأزمة سد النهضة
ولوحظ في الفترة الأخيرة حالة صمت تثير القلق بشأن مفاوضات سد النهضة، ولم تظهر تصريحات مطمئنة من أي طرف، حتى خرج قبل أيام وزير الإعلام السوداني والناطق الرسمي باسم الحكومة الانتقالية، فيصل محمد صالح، في تصريحات صحفية، أكد فيها وجود حالة من الجمود تسود بين الدول الثلاث؛ السودان ومصر وإثيوبيا بشأن ملف السد.
جاءت كلمات أخرى على لسان الوزير مثيرة للقلق، حول هذا الملف، بقوله: "لا تلوح في الأفق أي بوادر من أجل بدء التفاوض حول القضايا العالقة"، وزاد على ذلك بقوله: "لا وجود لأي اتصالات من أجل استئناف التفاوض حول القضايا العالقة بين الدول الثلاث".
كلام الوزير السوداني مؤشر على حالة مريبة في ملف يمس الأمن القومي المصري والسوداني، وحياة المصريين والسودانيين، في الوقت الذي تتمسك فيها الحكومة الإثيوبية بمواقفها دون أي مؤشرات نحو انفراجة، خاصة فيما يتعلق بطريقة ملء سد النهضة وتشغيله، في الوقت تواصل فيه أديس أبابا ملء الخزان خلف السد الذي بدأ من يوليو/تموز.
ونقلت صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية عن مصدر مصري قوله، إن "القاهرة تواصل مشاوراتها الدولية بشأن المرحلة المقبلة، في إطار ما وصفه بتعاملها الدقيق مع القضية"، دون مزيد من التفاصيل.
لكن مراقبين مصريين حذروا من أن توقف المفاوضات دون بديل واضح، يتيح لإثيوبيا مزيداً من الوقت لمواصلة تشييد السد، عقب توقف فيضان النيل نهاية شهر سبتمبر/أيلول الحالي، والتجهيز للمرحلة الثانية من ملء الخزان.
وتعليقاً على جمود موقف الاتحاد الإفريقي بشأن مفاوضات سد النهضة وصمت الجانبين المصري والسوداني، قال الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الري والموارد المائية الأسبق، إن "الصمت الرهيب" هو شعار المرحلة الحالية للاتحاد الإفريقي حول مفاوضات سد النهضة.
هل تكون ندوات السفارات هي البديل؟
وأضاف علام، في منشور عبر صفحته الرسمية على موقع فيسبوك، أنه في الوقت الذي لا يخرج تصريح أو بيان من الاتحاد الإفريقي يسود صمت مصري سوداني، وهو ما اعتبره يحقق سعادة لإثيوبيا لاستنزاف الوقت وفرض سياسة الأمر الواقع.
وأشار وزير الري الأسبق إلى أن مصر تقوم عن طريق الخارجية بجهد دولي لشرح وجهة نظر مصر حول مباحثات "سد النكبة"، على حد وصفه، فيتم تنظيم ندوات عن طريق سفاراتنا مع السفارات الأجنبية والمراكز العلمية وكبار المتخصصين الدوليين.
ولكن علام اعتبر أن الجمود في مفاوضات سد النهضة غير مبرر وغير مفهوم، مؤكداً أنه لا يجب إهدار مزيد من الوقت، ولا بد من خطوة جدية.
وقبل يومين صرح السفير بسام راضي، المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية، بأن الرئيس عبدالفتاح السيسي استقبل جان كابونجو، مستشار رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، الذي سلم رسالة من الرئيس تشيسكيدي، تضمنت الإعراب عن دعم الكونغو الديمقراطية لمحددات الموقف المصري تجاه التعامل مع قضية سد النهضة.
نقل ملف المفاوضات من الاتحاد الإفريقي
وحول جمود مفاوضات سد النهضة، قال نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، إنه ينبغي نقل ملف سد النهضة من جنوب إفريقيا، موضحاً أن إثيوبيا تنسق معها لتجميد المفاوضات، وعدم إعطاء مصر والسودان أية حقوق.
وأضاف نور الدين، عبر صفحته على موقع فيسبوك: "السدود على الأنهار الدولية العابرة للحدود مشكلة دولية وليست إفريقية، لأن اسمها أنهار دولية، وبالتالي ينبغي نقل الملف بعد فشل وتجنيد جنوب إفريقيا إلى مجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي أو أمريكا أو البنك الدولي أو منظمة الأمم المتحدة للمياه، لا تتركوا الملف لإثيوبيا وحلفائها".
وفي مطلع شهر سبتمبر/أيلول الجاري، أعلنت الولايات المتحدة رسمياً أنها علّقت جزءاً من مساعداتها المالية لإثيوبيا، رداً على قرار أديس أبابا البدء بملء السدّ قبل التوصّل لاتفاق مع مصر والسودان.
احتمالان لمستقبل المفاوضات
وفي سياق الحديث عن مستقبل مفاوضات سد النهضة، أكد عباس شراقي، خبير المياه المصري، أن هناك احتمالين، هما إما إعلان فشل المفاوضات وكتابة تقرير إلى مجلس الأمن بذلك، أو سعي الدول المعنية لتقريب وجهات النظر والتوصل لاتفاق يرضي الدول الثلاث.
وقال شراقي، خلال تصريح لـ"RT"، إن الاحتمال الثاني هو الأقرب، إذ إن مصر تحرص دائماً على استمرار المفاوضات واتباع سياسة النفس الطويل حتى التوصل لاتفاق مرضٍ لمصر والسودان، ويحفظ حقوقهما، وفي الوقت ذاته يحقق مصالح إثيوبيا.
وتوافقت الدول الثلاث على أن تقوم كل دولة منفردة بإرسال خطاب إلى رئيس جنوب إفريقيا، باعتباره رئيس الاتحاد الإفريقي، يتضمن رؤيتها للمرحلة المقبلة، لكن الاتحاد الإفريقي لم يعلق حتى الآن.
وتدشن إثيوبيا "سد النهضة"، على "النيل الأزرق"، ويثير توترات مع دولتي مصب نهر النيل (مصر والسودان). وأُنجز نحو 75% من عملية بناء السد، التي انطلقت عام 2011. فيما انتهت أديس أبابا في يوليو/تموز الماضي، من المرحلة الأولى لملء الخزان، تمهيداً لتشغيله.
وأعلنت الدول الثلاث، عقب اجتماعها، في 28 أغسطس/آب الماضي، فشلها في دمج مقترحاتها بشأن قواعد ملء وتشغيل السد، بسبب خلافات واسعة حول عدد من النقاط القانونية والفنية، الأمر الذي تقرر على إثره قيام كل دولة منفردة بإرسال خطاب إلى رئيس جنوب إفريقيا (الذي يرأس الاتحاد الإفريقي)، يتضمن رؤيتها للمرحلة المقبلة، لكن الاتحاد الإفريقي لم يعلق حتى الآن.
ويتزامن الجمود الإفريقي مع صمت رسمي في مصر والسودان، و"سعادة إثيوبية لاستنزاف مزيد من الوقت وفرض سياسة الأمر الواقع"، كما يشير الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية المصري الأسبق، الذي قال إن "هذا الجمود غير مبرر وغير مفهوم… قد يكون لمصر تجاه آخر، خصوصاً أنها نشطت تحركاتها الدبلوماسية لدى واشنطن وغيرها، لكن لا يجب إهدار مزيد من الوقت، ولا بد من خطوة جدية".
وشدد علام على أن "إثيوبيا تنتظر نهاية فيضان النيل آخر سبتمبر/أيلول أو مطلع أكتوبر/تشرين الأول، لاستكمال عملية البناء، قبل التوصل إلى اتفاق، يلزمها بتجنب الإضرار بمصر والسودان".
ولا يعول السفير وائل نصر الدين، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق للشؤون الإفريقية، على مساعي الاتحاد الإفريقي للحل، قائلاً لـ"الشرق الأوسط"، إن "أديس أبابا ضغطت باتجاه اللجوء إلى الاتحاد الإفريقي، بهدف تعطيل المفاوضات، وثقتها في عدم الوصول إلى اتفاق".
وأكد نصر الدين أن مصر أقدمت على تلك الخطوة كي تؤكد للعالم أجمع مساعيها للحل السياسي في كل اتجاه، لكن إذا حاولت إثيوبيا الإضرار بالمصالح المصرية، فإن للإدارة المصرية بالتأكيد بدائل عدة.
وسبق أن اقترح وزير الري السوداني ياسر عباس، نهاية أغسطس/آب الماضي، رفع مستوى التفاوض إلى الرؤساء.
وأضاف: "لا بد من تعديل طريقة التفاوض، فالطريقة الحالية أصبحت غير ذات جدوى، والتعديل يكون بإعطاء المراقبين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي دوراً أكبر ليصبحوا وسطاء تحت مظلة الاتحاد الإفريقي".
ولكن في المقابل، من الواضح أن إثيوبيا مستمرة في سياستها الرامية إلى المراهنة على كسب الوقت، واستغلال كل فرصة لفرض الأمر الواقع، وكل التصريحات والمؤشرات في الفترة الأخيرة، تؤكد أنها ترفض مطالبات مصر والسودان بأن يكون أي اتفاق ملزم قانوناً فيما يتعلق بآلية فض المنازعات المستقبلية، وكيفية إدارة السد خلال فترات انخفاض هطول الأمطار أو الجفاف، وهو ما أدى إلى استمرار الخلاف حتى اللحظة، ووصل الأمر إلى حالة من الجمود، وفقاً لتوصيف الوزير السوداني.
ويرى الخبراء والمراقبون أن إثيوبيا تعمل كل لحظة على الدخول في المرحلة الثانية من ملء السد، دون تقديم أي التزامات، أو تعهدات تريح الطرفين المصري والسوداني وتحقق ما يوفر عامل الأمان لحقوق البلدين المائية، بعدما أكملت بالفعل المرحلة الأولى لعملية الملء، في حالة من التجاهل لكل الخلافات القائمة بين الدول الثلاث.
إثيوبيا تحاول أن تفرض أمراً واقعاً.. فهل نجحت؟
المعلومات المتاحة من داخل إثيوبيا، وما نقلته وكالات الأنباء تؤكد أن أديس أبابا أوشكت على الانتهاء من بناء السد "الإثيوبي"، وتراهن على أن كلاً من مصر والسودان ستقبلان بما يتم فرضه على الأرض، وهو ما أكدته مواقفها طيلة جولات التفاوض المتعددة، والتي تمت تحت رعاية الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي، وكذلك الاجتماعات الثلاثية، وجميعها لم تسفر عن حل للقضايا العالقة.
اللافت هو صمت الدبلوماسية المصرية على هذا الوضع، والاكتفاء بالندوات التعريفية التي تقوم بها السفارات، بينما توقفت مصر عن إبداء مواقف حازمة رغم تخطي إثيوبيا الخط الأحمر الافتراضي بإعلانها بدء ملء السد.
تجدر الإشارة إلى أن إثيوبيا أعلنت في 21 يوليو/تموز 2020، انتهاء المرحلة الأولى من ملء خزان سد النهضة بالتزامن مع قمة إفريقية مصغّرة برئاسة جنوب إفريقيا لبحث الأزمة بين مصر وإثيوبيا والسودان، شارك بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، ونظيره السوداني عبدالله حمدوك.
وعزا آبي أحمد في مؤتمر صحفي بعد القمة ملء السد إلى إرادة الطبيعة، إذ قال رئيس الوزراء الإثيوبي إن العوامل الطبيعية وهطول الأمطار حالياً كانت مواتية للتعبئة الأولى لسد النهضة.
وقالت رئاسة الوزراء الإثيوبية، إن هناك توافقاً في القمة المصغرة للاتحاد الإفريقي حول السد على مزيد من المشاورات الفنية، بشأن تعبئة السد تمهيداً لاتفاق شامل.
فيما كان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يؤكد خلال القمة نية بلاده الصادقة لحل الأزمة.
وتم التوافق في ختام القمة على مواصلة المفاوضات والتركيز في الوقت الراهن على منح الأولوية لبلورة اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، على أن يتم لاحقاً العمل على بلورة اتفاق شامل لكافة أوجه التعاون المشترك بين الدول الثلاث فيما يخص استخدام مياه النيل، حسب وسائل الإعلام المصرية.
تجدر الإشارة إلى أن نهاية موسم الأمطار بحلول الخريف، من شأنها تسهيل استئناف عملية ملء خزان سد النهضة بالنسبة لإثيوبيا.
وليس واضحاً هل هذا يخفي مفاوضات سرية لحل الأزمة، أم هو استسلام من القاهرة والخرطوم للمسار الذي رسمه آبي أحمد بدهاء.