الظهور المكثف للرئيس الفرنسي على ساحة الأحداث في الشرق الأوسط أصبح مادة دسمة للدراسة من جانب المحللين السياسيين ليس فقط في المنطقة ولكن أيضاً في الأدبيات الغربية بشكل عام، وكانت زيارته الأولى للعراق بمثابة مؤشر آخر على تصاعد حدة التنافس بين فرنسا وتركيا، والسؤال على ماذا يراهن الرئيس إيمانويل ماكرون وهل يستطيع فعلاً تنفيذ طموحاته التي لم تعد خافية على أحد؟
بعد لبنان، جاء الدور على العراق
منذ الانفجار الهائل في مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس/آب الماضي، وزيارة ماكرون السريعة للبنان والتي ظهر خلالها بصورة المنقذ في نظر البعض والمستعمر في نظر البعض الآخر، لا تزال نتائج زيارتيه للبلد المأزوم لم تر النور، لكن زيارته لبغداد يوم 2 سبتمبر/أيلول الجاري حملت أيضاً رسالة مشابهة لرسالته في لبنان، وإن كانت أقل حدة.
أطلق ماكرون في بغداد مبادرته التي سماها "سيادة العراق"، والتقى هناك بالرئيس برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني، فيما رآه مراقبون على أنه فتح ساحة جديدة للعداء مع تركيا، بينما رأى فيه فريق ثان استغلالاً للفراغ الذي تركته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العراق ومحاولة لمد مخالب فرنسا في ذلك الفراغ، وفريق ثالث رأى فيه هروباً للأمام من مشاكل الرئيس الفرنسي الداخلية.
وقياساً على ما حققته مبادرة ماكرون في لبنان، أو بمعنى أكثر دقة ما لم تحققه تلك المبادرة – حيث لم يتم إعلان تشكيل الحكومة برئاسة مصطفى أديب رغم انتهاء مهلة ماكرون يوم 15 سبتمبر/أيلول الجاري، على الأرجح لن تنجح تحركات ماكرون في العراق في تحقيق ما يطمح إليه، بحسب سير الأمور بعد انتهاء زيارته.
ورغم ارتباط فرنسا قبل ماكرون بعلاقات أفضل مع أكراد العراق مقارنة ببغداد، لم يتوجه الرئيس الفرنسي إلى أربيل بل دعا رئيس إقليم كردستان بارزاني إلى القدوم للعاصمة الاتحادية، واعتبرت الدعوة رسالة من ماكرون مفادها أن إقليم كردستان جزء من العراق، وإظهار حكومة الإقليم على أنها في خندق واحد مع تركيا.
وبالتالي فإن زيارة بارزاني، الذي تربطه علاقات وثيقة مع تركيا، إلى أنقرة بعد يومين من لقائه بالرئيس الفرنسي في بغداد تعد رسالة في الاتجاه المضاد، والتقى بارزاني مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، مؤكداً عدم اصطفاف حكومة أربيل في أي حركة مناهضة لتركيا بالمنطقة.
كما تم التأكيد خلال زيارة بارزاني لأنقرة، على العلاقات المتينة بين الجانبين، وتحقيق التوازن ضد الضغط الممارس من طرف إيران على الإقليم، والجهود التي تبذلها منظمة "بي كا كا" للإطاحة بحكومة الإقليم.
هل طموح ماكرون أكبر من إمكانياته؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية تناولت هذا السؤال في تقرير لها بعنوان "ماكرون يريد أن يكون قوة عظمى في الشرق الأوسط"، رصد سعي الرئيس الفرنسي لإعادة تشكيل المنطقة، وسط تساؤلات بشأن طموحاته التي يبدو أنه يفتقد إلى القدرات اللازمة لتنفيذها.
ففي ظل الحديث عن الفراغ الذي بات واضحاً أن القوة العظمى الرئيسية في المنطقة على وشك أن تتركه والمقصود هنا بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت تظهر روسيا والصين في المنطقة بشكل لافت، وفي هذا السياق يريد ماكرون أن تكون فرنسا جزءاً من ذلك الحوار، بحسب تقرير المجلة الأمريكية.
ورصد تحليل المجلة زيارتي ماكرون إلى لبنان، مع التركيز على زيارته لبغداد بشكل خاص، وكذلك زيادة الوجود العسكري الفرنسي في شرق المتوسط مؤخراً، وإذا كانت تحركات ماكرون في لبنان يمكن تبريرها – بصورة أو بأخرى – في ظل تفجير المرفأ المدمر والحاجة لتقديم الدعم الإنساني للبلد المنكوب، فإن زيادة التواجد العسكري في شرق المتوسط لا يوجد ما يبرره أو يفسره سوى طموحات ماكرون في جعل فرنسا قوة عظمى في الشرق الأوسط كما كانت قبل قرن من الزمان.
وفي السياق ذاته نشر موقع VOANEWS الأمريكي تقريراً بعنوان "تمركز ماكرون في الشرق الأوسط يثير التكهنات"، رصد الصورة من منظور أعم وأشمل، حيث ركز على الأوضاع الداخلية في فرنسا منذ بدء معركة وباء كورونا وكيف أن ماكرون قرر تحويل أنظاره إلى الشرق الأوسط، وكان لافتاً أيضاً أن التصرفات "الدرامية" والتصريحات الكبرى على لسان الرئيس الفرنسي من حديثه عن التغير المناخي إلى استضافة اجتماعات كبرى بشأن الأزمات العالمية إلى ضرورة توحيد أوروبا عسكرياً واقتصادياً، تنطبق أيضاً على "مبادراته" الكبرى في الشرق الأوسط.
وتتراوح بشكل كبير رؤية المحللين للرئيس الفرنسي ومبادراته الكبرى، حيث يتهمه منتقدوه بأنه يتصرف بشكل فردي بعيداً عن أوروبا رغم حديثه عن ضرورة خلق تعاون أوروبي أكثر، إضافة إلى وعوده الكثيرة دون أن يحقق منها شيئاً يذكر، وفي هذا السياق يمكن فهم انتقادات الرئيس التركي أردوغان لنظيره ماكرون واتهامه له بنقص الخبرة والمؤهلات.
على ماذا يراهن ماكرون في العراق؟
بالعودة إلى العراق، نجد أنه منذ تولي الكاظمي رئاسة الحكومة أصبحت البلاد وجهة لحراك دبلوماسي مكثف، تزامناً مع تفاقم التوتر بين فرنسا وتركيا وتكثيف أنقرة لعملياتها ضد منظمة "بي كا كا" الإرهابية شمال العراق، إضافة إلى محاولات الكاظمي لاستقطاب الأكراد لكسر النفوذ الإيراني في البلاد، ومواصلة البحث عن حلول للخلافات بين بغداد وأربيل.
فبعد زيارة الكاظمي لواشنطن في 20 أغسطس/آب الماضي، والتصريحات الأمريكية بشأن تقليص عدد قواتها بالعراق، اكتسب الحراك الدبلوماسي المكثف بالبلاد أهمية خاصة على صعيد التوازنات الداخلية والإقليمية، ويمكن القول إن هذا الحراك الدبلوماسي يحمل العديد من الرسائل المهمة لكل من إيران وسوريا وتركيا، خصوصاً بعد لقاء ماكرون بقادة العراق.
وقد شكل الملف السوري أحد الدوافع الأبرز لزيارة ماكرون إلى بغداد، فرغم أن فرنسا كان لها تاريخياً نفوذ في سوريا، إلا أنها لم تكن نشطة بالملف، ولم تتخذ مواقف جادة تجاه الإطاحة بنظام بشار الأسد، مع بداية "الربيع العربي"، بحسب تحليل للأناضول.
وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى فقدان باريس لنفوذها في سوريا إلى حد كبير، لا سيما مع تقليص الولايات المتحدة بدورها نفوذها في هذا البلد، وعليه، يمكننا ربط زيارة ماكرون إلى بغداد برغبة فرنسا في تعميم مبادرتها في لبنان على الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا المجاورة للعراق.
إضافةً لذلك، لا يمكننا إغفال أن زيارة ماكرون إلى بغداد تأتي بعد تصريحات أمريكية بشأن خفض عدد قواتها في العراق، ومن هنا نستطيع قراءة الرغبة الفرنسية في "ملء الفراغ" الذي قد ينتج عن الانسحاب الأمريكي من العراق، ويأتي ذلك تزامناً مع بذل باريس مساع لتفعيل دور حلف شمال الأطلسي "الناتو" في العراق، حيث تقدم فرنسا عبر الحلف خدمات استشارية للجيش العراقي.
هل العراق ساحة جديدة للصراع؟
ومن المتوقع أن يساهم زيادة النشاط الفرنسي في العراق، بشكل كبير في تمهيد الطريق أمام باريس لإيجاد موطئ قدم لها في سوريا، ويمكن اعتبار المحادثات التي أجراها ماكرون مع الكاظمي حول مشروع محطة الطاقة النووية ومشروع مترو بغداد بمثابة رسالة موجهة إلى طهران، نظراً لاعتماد العراق على إيران في مجال الطاقة.
وضمن هذا الإطار، قام رئيس الوزراء العراقي، بزيارة محافظات أربيل ودهوك والسليمانية وحلبجة شمالي الإقليم، في خطوة غير متوقعة، خلال الفترة ما بين 10-11 سبتمبر/أيلول الحالي، وهدف الكاظمي من خلال هذه الزيارة إلى توجيه رسالة مفادها التأكيد على أن الأكراد جزء من العراق، في خطوة تظهر تناغماً مع خطاب ماكرون بشأن سيادة البلاد.
لكن رغم التوتر في علاقات الكاظمي مع تركيا على خلفية العمليات العسكرية التي تشنها أنقرة ضد معاقل "بي كا كا" شمالي العراق، يبقى تقليل نفوذ إيران في البلاد، أحد أكثر الأجندات تحدياً أمام حكومته، لذلك لا يريد رئيس الوزراء العراقي خوض مواجهة واسعة مع أنقرة، ويجنح إلى حل المشاكل معها من خلال اتباع طريق الدبلوماسية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن زيارة ماكرون إلى بغداد، ووصول رئيس الإقليم بارزاني إلى أنقرة مباشرة بعد مباحثاتهما في بغداد، وزيارات الكاظمي لمحافظات الشمال الأربع، كلها أمور لا غنى عنها للتوازن الإقليمي، لكل من بغداد وحكومة الإقليم، وتشكل كل هذه الأمور، إشارة مهمة على صعيد تحقيق زخم إيجابي في حل المشاكل المزمنة على صعيد العلاقات بين بغداد وأربيل.