كان النفط وقود القرن العشرين: سياراته وحروبه واقتصاده والمجريات الجيوسياسية. الآن، العالم في خضم صدمة طاقة تسرع من تحوله إلى نظامٍ جديد عصر بدون نفط أو بحاجة أقل كثيراً له.
حين ضرب كوفيد-19 الاقتصاد العالمي في بداية هذا العام، تراجع الطلب على النفط إلى أربعة أخماسه تقريباً، وانهارت الأسعار. ومنذ ذلك الحين يمر الاقتصاد بتعافٍ متذبذب. لكن العودة إلى الأوضاع القديمة مستبعد على الأرجح، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
تُجبر الشركات المنتجة للوقود الحفري على مواجهة نقاط ضعفها، وقد تعرضت ExxonMobil للطرد من مؤشر داو جونز الصناعي، بعد استمرارها فيه منذ عام 1982. وتحتاج الدول النفطية مثل السعودية إلى سعر نفط يتراوح بين 70 و80 دولاراً للموازنة بين الإنفاق والدخل، في حين يقف سعر النفط عند 40 دولاراً.
هل نشهد عصر بدون نفط؟
حدث أن تراجعت أسعار النفط من قبل، لكن هذه المرة المختلفة. فالشعوب والحكومات والمستثمرون على وعيٍ أفضل بمخاطر التغير المناخي، وصناعة الطاقة النظيفة تكتسب المزيد من الزخم. وقد تحولت أسواق رأس المال أيضاً، فأسهم شركات الطاقة النظيفة ارتفعت بنسبة 45% هذا العام. ويدعم السياسيون خطط البنى التحتية الخضراء مع وصول معدلات الفائدة إلى صفر%. ويرغب المرشح الرئاسي جو بايدن في إنفاق تريليوني دولار على نزع الكربون من اقتصاد الولايات المتحدة.
هناك آمال واعدة بأن تصبح منظومة الطاقة في القرن الواحد والعشرين أفضل من عصر النفط، أفضل لصحة الإنسان وأنفع للاستقرار السياسي والاقتصادي. لكن التحول له مخاطر جمة. فإن تم دون تنظيم، يمكن أن يزيد من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في الدول النفطية ويركز التحكم في سلاسل التوريد الخضراء في الصين. والأخطر أن هذا التحويل قد يحدث ببطء شديد.
اليوم نجد أن الوقود الحفري هو مصدر 85% من الطاقة. لكن هذا النظام قذر، فالطاقة تسبب ثلثي انبعاثات الغازات الدفيئة، والتلوث من إحراقه الوقود الحفري يقتل 4 ملايين شخص كل عام، أغلبهم في المدن الكبرى في الدول النامية.
النفط تسبب في الاستبداد والتدخل الخارجي في العالم العربي
وأدى النفط أيضاً إلى زعزعة الاستقرار السياسي. فلعقود عانت الدول النفطية مثل فنزويلا والسعودية، التي ليس لديها أي حافز لتطوير اقتصاداتها، من سياسة المنح والمحسوبية. وفي الجهود الساعية إلى ضمان استمرار الإمدادات من النفط، سعت القوى الكبرى إلى التدخل في هذه الدول والتأثر عليها، وبالأخص في الشرق الأوسط، حيث تنشر الولايات المتحدة 60 ألف جندي. ويتسبب الوقود الحفري في تذبذب الاقتصاد أيضاً. فأسواق النفط تتصارع عليها جهات مختلفة، وتركز الاحتياطي النفطي في العالم يجعل الإمدادات عرضة للصدمات الجيوسياسية. ولا عجب أن تكرر انخفاض الأسعار بأكثر من 30% على مدار ستة أشهر 62 مرة منذ عام 1970.
وتتضح أكثر معالم منظومة الطاقة الجديدة. يمكن أن تزيد إمدادات الطاقة الكهربية المتجددة من الطاقة الشمسية أو الرياح من 5% اليوم إلى 25% بحلول عام 2035، لتصل إلى 50% بحلول عام 2050. وسينخفض استعمال النفط والفحم، لكن سيظل الغاز الطبيعي الأنظف في مركز منظومة الطاقة.
وهذه البنية ستجلب منافع ضخمة، أهمها أن نزع الكربون من مجال الطاقة سيجنبنا الفوضى العارمة التي سيتسبب بها التغير المناخي المتسارع، وما يمكن أن يتسبب فيه من جفافٍ مدمر ومجاعات وفيضانات ونزوحٍ جماعي للسكان. وما إن تنضج هذه المنظومة، ينبغي أن تجلب المزيد من الاستقرار السياسي أيضاً فعل تنويع إمدادات الطاقة جغرافياً وتقنياً.
وبدونه ستحاول الحكومات العربية فرض ضرائب وإصلاح منظومتها الاقتصادية
وستحاول الدول النفطية إصلاح نفسها، ومع زيادة اعتماد حكومتها على الضرائب، سيشهد بعضها المزيد من التمثيل في الحكومة. أما الدول المستهلكة، التي سعت إلى تأمين إمدادات الطاقة عبر التدخل في سياسات الدول المنتجة للنفط، فستنشغل بالتنظيم المعقول لصناعة الطاقة الداخلية.
وينبغي أيضاً أن تكون منظومة القرن الواحد والعشرين أكثر استقراراً من الناحية الاقتصادية، لأن أسعار الطاقة لن يحددها اللاعبون الكبار فقط، بل ستتحدد بالمنافسة والمكاسب في فعالية إنتاج الكهرباء.
ولكن الغرب سيصبح خاضعاً للصين في العهد الجديد
لكن مع ظهور منظومة طاقة أفضل، تلوح مخاطر سوء تنظيم التحول إلى المنظومة الجديدة. ومن بين هذه المخاطر يبرز اثنان. أولهما أن الصين الدكتاتورية يمكن أن تهيمن على منظومة الطاقة العالمية بفضل سيطرتها على مجال صنع مكونات رئيسية وتطوير تكنولوجيا جديدة. اليوم تنتج الشركات الصينية 72% من الوحدات الشمسية في العالم، و69% من بطاريات أيون الليثيوم، و45% من توربينات الرياح. وتسيطر الصين أيضاً على تكرير المعادن الحيوية لإنتاج الطاقة النظيفة، مثل الكوبلت والليثيوم. بدلاً من أن تصبح دولة نفطية، يمكن أن تصبح الصين دولة كهربية. في الأشهر الستة الماضية، أعلنت استثمارات في البنية التحتية للسيارات الكهربية والنقل، واختبرت محطة وقود نووي في باكستان ودرست تكديس الكوبلت.
أوروبا تحاول المنافسة
تتوقف أفضلية الصين على تحركات الاقتصادات الأخرى. تضم أوروبا الآن شركات عملاقة مطورة للمزارع الشمسية ومزارع الرياح، من بينها Orsted وEnel وIberdrola، التي تبني هذه المشاريع في أنحاء العالم.
وتقود الشركات الأوروبية السباق نحو تقليل الانبعاثات الحرارية أيضاً. وقد تأثر مسار الولايات المتحدة بصعود النفط والغاز الصخري، الذي جعلها أكبر دولة منتجة للنفط في العالم، وأيضاً بمقاومة الجمهوريين لإجراءات نزع الكربون. إن كانت الولايات المتحدة ستتحرك تجاه التغير المناخي، على سبيل المثال بفرض ضريبة الكربون وتجهيز البنية التحتية الجديدة، فإن أسواق رأس المال ومعامل الطاقة الوطنية والجامعات فيها ستجعلها قوة خضراء راسخة.
الخطر الآخر الضخم هو تحول الدول النفطية، التي تنتج 8% من الناتج المحلي العالمي ويسكنها نحو 900 مليون مواطن. مع تراجع الطلب على النفط، تواجه هذه الدول حرباً ضروساً للاستئثار بالحصة السوقية، التي ستربحها الدول التي تنتج خام النفط الأرخص والأنظف. ومع تعاملها مع الضرورة الملحة للإصلاح الاقتصادي والسياسي، قد تتراجع الموارد العامة اللازمة لتنفيذ هذه الإصلاحات. هذا العام، تراجعت عائدات الحكومة السعودية بنسبة 49% في الربع الثاني. العقود القادمة بالغة الخطورة.
في مواجهة هذه المخاطر، سيكون من المغري أن نقلل سرعة التحول إلى الطاقة الخضراء. لكن هذا سيجلب عواقب مرتبطة بالمناخ ستسبب زعزعة أكبر لاستقرار العالم. وكما يشير تقرير مجلة الإيكونوميست، الاستثمارات التي تخطط لها دول العالم أقل بكثير مما نحتاج عليه لإبقاء درجات الحرارة في نطاق درجتين فقط من المستويات ما قيل الصناعية، فضلاً عن نطاق درجة ونصف فقط الذي نحتاجه للحد من الاضطرابات البيئية والاقتصادية والسياسية التي سيتسبب فيها التغير المناخي. على سبيل المثال، ينبغي أن يصير الاستثمار السنوي في سعة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح 750 مليار دولار، اي ثلاثة أضعاف المستويات الحالية. وإن تسارع التحول نحو الطاقة المتجددة، وهذا ما ينبغي أن يحدث، فسيسبب هذا المزيد من الاضطرابات الجيوسياسية.
إن الانتقال إلى منظومة الطاقة الجديدة بالغ الأهمية، لكنه سيكون فوضوياً.