إذا أردت أن تقول إن أكبر المستفيدين من الأزمات في الشرق الأوسط حالياً هو روسيا، فهذه المقولة ستجد بالفعل لها الكثير من الواقعية في ظل رغبة الرئيس فلاديمير بوتين في إعادة النفوذ الروسي في المنطقة في ظل تراجع كبير للدور الأمريكي بها.
ومع أن روسيا ليس لديها القدرات المالية والعسكرية في واقع الأمر لأن تُستبدل بالولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إلا أنها صارت بارعة في تثبيت أقدامها بقوة وسط الأزمات والصراعات ورسخت مكانتها بوصفها وسيطاً لا غنى عنه وبكلفةٍ منخفضة نسبياً. كان هذا جلياً على النحو الأبرز في سوريا وليبيا، حيث تدير روسيا والقوى الإقليمية الأخرى الديناميكيات السياسية والعسكرية المعقدة، بينما تركز الولايات المتحدة على عمليات مكافحة الإرهاب، بحسب تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
كيف تسلل بوتين إلى فلسطين ولبنان؟
غير أن أقل ما تجري مناقشته في الغالب هو محاولات روسيا من أجل أن تصير طرفاً رئيسياً في كلٍ من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولبنان. ولعل التطورات الأخيرة في هذين الميدانين تعطي روسيا المجال كي تجعل نفسها أخيراً طرفاً رئيسياً.
يعد التدخل الروسي الناجح في سوريا عام 2015 النقطة صفر للوجود الروسي الآخذ في التوسع. بالتزامن مع المحاولات الأمريكية الفاشلة لتشكيل تحالفاً مع روسيا ضد الجماعات الجهادية في سوريا في سبتمبر/أيلول 2016 -وهو اتفاق كفل ضمنياً لبشار الأسد الاستمرار في الحكم وأتاح لروسيا تحويل انتباهها نحو مكان آخر- عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استضافة قمة في موسكو بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
تطورت العلاقات بين الفلسطينيين والروس تطوراً دراماتيكياً، في أعقاب اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر/كانون الأول 2017، مما أدى إلى قطع السلطة الفلسطينية جميع اتصالاتها بالولايات المتحدة، بما في ذلك العلاقات الأمنية مع وكالة الاستخبارات المركزية (CIA). قاد عباس نفسه وفداً رفيع المستوى إلى روسيا في مطلع 2018 لمناقشة الشكل الجديد متعدد الأطراف من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وهي مفاوضات تحتل روسيا موقعاً مركزياً فيها.
وفي عام 2018، بدأت روسيا عقد لقاءات مباشرة لأول مرة مع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، التي تعد أحد وكلاء إيران ويقال إنها صُنفت في السابق جماعة إرهابية. زادت كذلك الاتصالات المباشرة مع حركة حماس، التي لم تصنفها روسيا جماعة إرهابية، وبلغت ذروتها في قمة بين الفلسطينيين شملت جميع الفصائل في غزة والضفة الغربية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، عُقدت في فبراير/شباط 2019. برغم أن روسيا فشلت في جعل حماس والجهاد الإسلامي توقعان على "إعلان موسكو"، الذي استهدف التصدي للإعلانات الأمريكية، استمرت المشاورات الوثيقة مع جميع الفصائل الفلسطينية، في ظل ضغط روسيا من أجل توحيدها تحت البرنامج السياسي الخاص بمنظمة التحرير الفلسطينية.
بينما يعد ذلك الهدف ممكناً على الأرجح، نجحت روسيا في مكالمة هاتفية خلال شهر يوليو/تموز 2020 في إقناع جبريل الرجوب، أمين سر اللجنة التنفيذية لحركة فتح، بعقد مؤتمراً مشتركاً عبر الفيديو مع حماس لتقديم جبهة موحدة. منذ أواخر أغسطس/آب، تشاورت روسيا بصورة شبه يومية مع أبرز القادة الفلسطينيين من عديد من الجماعات والحركات الرئيسية، وبلغت هذه المشاورات ذروتها في مؤتمر عبر الفيديو عُقد في 3 سبتمبر/أيلول بين 14 فصيلاً رئيسياً. كانت روسيا، قبل عقد هذا المؤتمر، بل ومنذ عقده على وجه التحديد، تضغط على جميع الفصائل لحضور قمة فلسطينية أخرى في موسكو من أجل المساعدة دفع جهود الوحدة.
تعد الفصائل متحدة فعلياً، على الأقل حول مركزية روسيا بالنسبة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد ذكر المسؤول البارز في حركة حماس موسى أبو مرزوق في يوليو/تموز 2019، أن روسيا وحدها قادرة على مساعدة الفلسطينيين ضد الولايات المتحدة، فيما قال وزير الشؤون الخارجية الفلسطيني رياض المالكي في يونيو/حزيران من هذا العام: "نحن نثق في الرئيس فلاديمير بوتين… فلسطين عازمة على عقد محادثات مع إسرائيل عبر مؤتمرات الفيديو في ظل رعاية روسية".
إلى لبنان عبر بوابة سوريا
يتدفق الوجود الروسي في لبنان عن طريق تدخلها في سوريا، التي صار لبنان متشابكاً معها منذ عقود تشابكاً يصعب تفكيكه. توصل تقرير استقصائي لصحيفة Novaya Gazeta الروسية إلى أن طائرة تجارية مرتبطة بيفغيني بريجوزين -المالك الرسمي لمجموعة فاغنر شبه العسكرية التي يسيطر عليها كلياً الجيش الروسي ومديرية المخابرات الرئيسية الروسية- كانت تنظم رحلات شهرية إلى بيروت منذ ديسمبر/كانون الأول 2016. ومن هناك، كانوا يسافرون إلى ميادين متعددة تنشط فيها عمليات مجموعة فاغنر، سواء في سوريا أو إفريقيا. إلى جانب الادعاءات التي تقول إن موت رئيس مديرية المخابرات الرئيسية الروسية إيغور سيرغون فجأةً في 2016 حدث في لبنان وليس في موسكو، ثمة أدلة ظرفية تشير إلى أن بيروت تشكل مركزاً عملياتياً للأنشطة الروسية في الشرق الأوسط.
فشلت في الغالب المحاولات الروسية لأن تصير طرفاً سياسياً رئيسياً في لبنان حتى 2018، عندما وافق لبنان على مساعدات عسكرية مهمة، وإن كانت رمزية، من روسيا بقيمة 5 مليارات دولارات. مع أن موسكو لم تستطع حتى الآن إقناع لبنان على التوقيع على مشروع اتفاقية عسكرية، صار الطرفان أكثر تقارباً على الصعيد السياسي منذ 2019، وصارت روسيا أكثر نشاطاً في قطاع الطاقة اللبناني.
غير أنه حتى وقت حدوث انفجار ميناء بيروت مؤخراً والاستقالة اللاحقة للحكومة، لم تكن روسيا بكل بساطة طرفاً ذا تأثير في لبنان. ولعل حالة الفراغ السياسي التي تطورت الآن، والعلاقات الوثيقة التي تحظى بها موسكو مع جميع الأطراف، تفتح باباً أمام النفوذ الروسي على السياسات في لبنان. على سبيل المثال، في 17 أغسطس/آب، أرسل رئيس الوزراء السابق سعد الحريري مستشاراً للتشاور مع المبعوث الخاص لبوتين في الشرق الأوسط، ميخائيل بوجدانوف، حول التطورات السياسية المستقبلية في البلاد. أجرى بوجدانوف كذلك مكالمات هاتفية مع الحريري ومع الزعيم الدرزي البارز وليد جنبلاط، وكذلك رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، والتقى في موسكو السفير اللبناني لدى روسيا والتقى كذلك أحد مستشاري الرئيس اللبناني ميشال عون، وعقدت المشاورات الختامية في 27 أغسطس.
ليس واضحاً ما إذا كانت العقوبات الساحقة التي فرضتها الولايات المتحدة على كل من إيران وسوريا، والتي أثرت بالضرورة على لبنان، بجانب الضغط الدولي الشديد من أجل الإصلاحات، سوف يعيق نفوذ روسيا أم سوف يساعدها في بسط هذا النفوذ. غير أن ما سوف يساعدها بكل تأكيد هي الشراكة الوثيقة على نحو متزايد مع فرنسا، التي اضطلعت بدور ريادي في لبنان بعد انفجار ميناء بيروت، عبر مجموعة من القضايا السياسية والعسكرية، إضافة إلى تحالفها مع إيران وسوريا وحزب الله، التي تشكل الأطراف الفاعلة الأكثر أهمية في لبنان.
وبينما يمضي لبنان قدماً نحو إعادة بناء عاصمته، يمكن لروسيا، التي تعد الدولة الوحيدة التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع جميع الأطراف المعنية الحكومية وغير الحكومية، أن تصير حكماً أعلى مثلما صارت فعلياً في سوريا وليبيا.