“رحلة الموت”.. اللبنانيون في طرابلس يخاطرون بالهجرة عبر البحر المتوسط هرباً من جحيم لا يُطاق

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/09/17 الساعة 14:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/17 الساعة 23:04 بتوقيت غرينتش
مدينة طرابلس اللبنانية، رويترز

خلال طفولته التي أمضاها في طرابلس شمال لبنان، لطالما كان البحر منبعاً لمشاعر الأمل بالنسبة لخالد دبّول. أما اليوم، فأصبح الرجل البالغ من العمر 42 عاماً، لا يرى في البحر سوى وسيلته الوحيدة للفرار من المدينة التي سعى فيها بإخلاص للحفاظ على حياة كريمة وفشل في ذلك بالنهاية.

في حديثه لموقع Middle East Eye البريطاني، قال دبّول: "خلال نشأتنا، كنا فقراء دائماً، لكننا لم نشعر قط بالحاجة إلى المخاطرة بحياتنا من أجل توفير حياة أفضل. في عام 2020، لم يكن هناك مفرٌّ من المخاطرة بحياتي وحياة زوجتي وأطفالي الأربعة من أجل توفير أساسيات الحياة، وليس مجرد الحصول على حياة أفضل".

شراء الهروب

في التاسع من سبتمبر/أيلول، اتُّخذ القرار: انضم دبّول إلى أصدقاء طفولته بمنطقة الميناء في لبنان، وأجمعوا على أنهم قد طفح بهم الكيل، وقرروا التوجه إلى أوروبا عن طريق البحر المتوسط المحفوف بالمخاطر. قال دبّول: "لقد خططنا جميعاً لوجهتنا النهائية اعتماداً على أقاربنا الموجودين في عدة دول مختلفة، لكن السواحل الإيطالية كانت وجهتنا الرئيسية".

وتابع: "ابتعنا قارباً بمساهمة من الجميع. باع بعضنا مجوهرات زوجته، وباع آخرون أثاث منزلهم، وسياراتهم، واضطر كثير منّا إلى الاقتراض". وقال: "لقد بعنا كل ما استطعنا بيعه؛ لجمع المال مقابل شراء هروبنا".

بالحديث عن التحضيرات، تحمل كلمات دبّول معنىً يبدو أعمق من مجرد بيع الممتلكات. لدى سؤاله عما إذا كان الأمر يبدو كما لو كان يبيع حياته السابقة من أجل شراء حياة جديدة، أجاب الرجل بالإيجاب.

الأكثر تضرراً في لبنان

منذ ما يقرب من عامٍ تقريباً، كان لبنان يواجه أسوأ أزماته المالية خلال عقود. أثّرت الأزمة على معظم أفراد الشعب اللبناني، لكن سكان طرابلس، ثاني أكبر المدن في لبنان، كانوا من بين السكان الأشد تضرراً من الأزمة.

أصبحت المدينة الواقعة في شمال البلاد، بؤرةً للمتظاهرين أثناء الاحتجاجات المناهضة للحكومة، والتي استمرت عدة أشهر، وبدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وانتشرت بجميع أرجاء البلاد.

لكن حتى قبل الانهيار الاقتصادي، لطالما عانى سكان طرابلس من الفقر والإهمال، مع أن مدينتهم موطنٌ لأثرى الساسة في لبنان.

كان دبّول محاسباً في شركة شحن بحري ناجحة، لكن مع التخفيض التدريجي لقيمة العملة، والتضخم الحاد في البلد الذي يعتمد على الواردات، كان راتبه كافياً بالكاد لإعالة أسرته. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في أوائل عام 2020، سُرّح دبّول من العمل؛ عندما شهدت الشركة تخفيضاً في الميزانية، وأصبح البحر أملَه الوحيد.

"الجحيم الذي فرّوا منه للتو"

في الأسابيع الأخيرة، أبلغت السلطات اللبنانية والقبرصية عن العديد من قوارب المهاجرين التي تحمل كلاً من السوريين واللبنانيين الذين يحاولون أن يتركوا وراءهم لبنان وأزمته المالية التي زادت سوءاً بسبب جائحة كورونا، إضافةً إلى الانفجار الهائل في ميناء بيروت، الشهر الماضي.

كان عماد طرطوسي، وهو طاهي معجنات شهير في طرابلس، من بين الأفراد الثلاثة والثلاثين الذين حاولوا وفشلوا في الوصول إلى السواحل الإيطالية ومن بينهم دبّول وأسرته.

قال عماد: "كانت طرابلس مدينة فقيرة بالفعل، غير أن أولويات الشعب قد تغيرت بعد الأزمة، وأصبحت المعجنات ترفاً لا يستطيع الجميع تحمُّل ثمنه".

بالقرب من سواحل جزيرة قبرص المجاورة، اعترضت عاصفةٌ طريق القارب وأُجبرت المجموعة على إرسال نداء استغاثة. جاء حرس السواحل القبرصي لإنقاذهم، وأخذوهم إلى مدينة لارنكا مع وعدٍ بتيسير رحلتهم إلى إيطاليا بعد ذلك.

أما غسان حليمة، طالب الطب الذي يدرس في السنة الثالثة وكان أيضاً من بين أفراد المجموعة، فقد ادَّعى أن السلطات القبرصية قد خدعتهم. قال الشاب: "قالوا إنهم سوف يأخذوننا إلى السواحل الإيطالية كما هو مقرر، لكن عندما صعدنا إلى القارب القبرصي، أدركنا أنه كان متجهاً إلى السواحل اللبنانية".

وأضاف: "قفز بعض الرجال من القارب عندما أدركوا أنهم في طريقهم إلى الجحيم الذي فروا منه للتو"، لكنهم أُعيدوا بعد ذلك إلى القارب. تخضع المجموعة حالياً لحجر صحي بمنشأة طبية في قضاء الشوف بمحافظة جبل لبنان، في انتظار الانتهاء من اختبارات تفاعل البوليمراز المتسلسل PCR. وقال حليمة إنه سيفعل ذلك مرة أخرى إذا أتيحت له الفرصة، لأنه لا يمتلك خيارات أخرى.

وأضاف: "لا أستطيع تحمُّل تكاليف إكمال دراستي، وأريد أن أصبح طبيباً. وإذا كانت بلادي لا تعبأ بي فأنا على يقين بأن بلداناً أخرى لن تمانع الحصول على المزيد من الأطباء؛ لتوفير الخدمات الطبية لمواطنيها".

"رفاهية الوقت"

أجرى موقع Middle East Eye مقابلات مع العديد ممن شاركوا فيما وصفوه بـ"رحلة الموت"، وكان هناك إجماع على أن الأسباب التي منعتهم من الهجرة، من خلال السبل القانونية، كانت الافتقار إلى الأموال الكافية لدفع رسوم وثائق السفر. قال أحدهم: "لا نمتلك رفاهية الوقت لانتظار الإجراءات".

الآن، لم يعد لدى دبّول أي شيء بعد أن أنفق المدخرات التي جمعها طوال حياته، وثمن مجوهرات زوجته من أجل الاشتراك في شراء قارب الهروب. وقال: "في المنشأة الطبية، يُطعمونني أنا وأطفالي الأربعة. ولا أدري كيف سأُطعمهم بعد إطلاق سراحنا".

برغم المخاطر المعروفة للجميع والمستقبل المجهول الذي سيكون في انتظارهم، اتخذ أغلب أفراد المجموعة قرار مغادرة طرابلس استناداً إلى فكرة، مفادها أن لا شيء آخر قد يكون أسوأ من الظروف التي يعيشون فيها.

وعندما سُئِل كيف يريد وصف قراره الرحيل، قال دبّول: "عندما كنت طفلاً، كانت الرصاصات والقذائف تقبض الأرواح في غمضة عين. واليوم، وفي وقت السِّلْم، نموت عدة مراتٍ كل يوم".

علامات:
تحميل المزيد