فرنسا ستسجل سنة 2020 انكماشاً لناتجها الداخلي بنسبة 8،7٪. الموجة الثانية لفيروس كورونا أصبحت تهدد المنظومة الصحية المترنحة تحت تزايد ضغط الحالات المصابة. حركة السترات الصفراء تستعد لإطلاق حركات احتجاجية جديدة واسعة. هذه العوامل الداخلية مجتمعة تفسر تزايد مبادرات الرئيس ماكرون الخارجية بحثاً عن متنفس اقتصادي للشركات الفرنسية العاملة بقطاع الصناعات الدفاعية، البنيات التحتية والطاقة النووية.
تُعتبر هذه الديناميكية الدبلوماسية الدولية جزءاً كذلك من الاستراتيجية التي ينهجها الرئيس الفرنسي استعداداً لخوض الانتخابات الرئاسية المقررة سنة 2022، وهي انتخابات مفصلية لضمان ولاية رئاسية ثانية رغم تراجع شعبيته وخسارة حزبه LREM (حزب الجمهورية إلى الأمام) في الانتخابات المحلية الأخيرة، يونيو/حزيران 2020.
مبادرات باريس بالشرق المتوسط والعراق ولبنان تعتبر، من جهة أخرى، متنفساً اقتصادياً وسياسياً لماكرون ليس فقط بحثاً عن عقود أسلحة بل فرصة لإحياء إرث استعماري مندثر أمام تزايد القوة العسكرية والدبلوماسية والعسكرية لعدوه اللدود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
البحث عن متنفس خارجي للأزمة لمواجهة انكماش اقتصادي بمعدل 8.7٪
الرئيس الفرنسي يواجه تحديات داخلية مرتبطة بتداعيات جائحة كورونا على المستوى الصحي والاقتصادي. فحسب آخر إحصائيات البنك المركزي الفرنسي، سيسجل الناتج المحلي الإجمالي انكماشاً حاداً بمعدل 8،7% سنة 2020.
تفاقم الأزمة الاقتصادية بسبب الحجر الصحي دفع حكومة الرئيس ماكرون إلى إطلاق مبادرة "انطلاق فرنسا" بداية شهر سبتمبر/أيلول والتي خصصت لها ميزانية استثنائية بلغت 100 مليار يورو مع تحديد هدف خلق 160.000 ألف منصب شغل للحد من تفشي البطالة بسبب الركود الاقتصادي الناتج عن توقف النشاط الاقتصادي شهرين للحد من انتشار فيروس كورونا.
توالي المبادرات الطامحة لتنشيط عجلة الاقتصاد المشلولة لم يشفع لماكرون ووزيره الأول جون كاستل. فحسب آخر استطلاع رأي حول الرئيس الفرنسي أعده مركز إيلاب Elabe بداية هذا الشهر، تراجعت شعبية ماكرون بأربع نقاط لتصل لمستوى 35%. فحالياً نسبة 57% من الفرنسيين لا يثقون في قدرة رئيسهم على مواجهة وحلِّ تحديات الاقتصاد وتداعيات كوفيد 19.
رغم وعود البرنامج الحكومي الطموح لما بعد مرحلة كورونا، يشير العديد من المحللين الاقتصاديين أن فرنسا، ابتداء من خريف هذه السنة، ستواجه موجة كبيرة من عمليات تسريح العمال بمختلف القطاعات لدرجة أن الوضع الاجتماعي سيصبح قابلاً للاشتعال بسبب تسونامي البطالة الذي يزداد حدة كل شهر.
مؤشر عودة اضطرابات حركة السترات الصفراء يوم السبت 12 سبتمبر/أيلول بمدينة نانسي يؤكد عودة المطالب الاجتماعية لمقدمة الساحة السياسية، خاصة ما يتعلق بتحسين القدرة الشرائية للمواطنين والتي عرفت تراجعاً كبيراً نتيجة تداعيات جائحة كورونا.
تركز المطالب المركزية لحركة السترات الصفراء على تخفيض الضرائب على البنزين وعلى الشركات، إضافة إلى عدم تخفيض تعويضات التقاعد لتفادي وجود متقاعدين يعيشون تحت خط الفقر.
الأسابيع المقبلة، ستكون حاسمة لتجدد اضرابات السترات الصفراء على اعتبار أن الأزمة الاقتصادية لما بعد مرحلة كورونا أفرزت تزايد بطالة العمال والشباب وتدهور ظروفهم المعيشية.
إضرابات تأتي في ظل إقبال الرئيس ماكرون على المرحلة الأخيرة من ولايته الرئاسية الخماسية. ولعل الاستعداد لإعادة انتخابه لولاية ثانية سنة 2022، يفسر بحثه عن مبادرات داخلية وخارجية ترفع شعبيته المتأرجحة. فحسب استطلاع رأي أجراه مركز IFOP في شهر سبتمبر/أيلول 2020، حول توجهات الناخبين لسنة 2022، فإن 68% من الفرنسيين لا يريدون أن يشهدوا صراعاً ثنائياً فقط بين إيمانويل ماكرون ومنافسته الوحيدة من اليمين المتطرف، مارين لوبين.
فشل حزب ماكرون LREM (حزب الجمهورية إلى الأمام) في الانتخابات المحلية الأخيرة يشكل تحدياً في مسيرة الإعداد للانتخابات الجهوية والمحلية المرتقبة في مارس/آذار 2021، أي سنة قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية.
فرنسا بالمتوسط : ليس لديها أصدقاء بل فقط مصالح!
فرنسا ليس لديها أصدقاء، بل فقط مصالح. مقولة مشهورة للرئيس الفرنسي الجنرال ديغول هي ما تفسر ارتفاع وتيرة مبادرات ماكرون بالمتوسط. ولا يرتبط هذا الاهتمام بالمصالح الاقتصادية لباريس وحدها، بل يعد امتداداً للعداء التاريخي بين فرنسا وتركيا، عداءٌ ليس حديث العهد، بل نتاج تراكم ملفات خلاف تشمل دعم تركيا حكومة الوفاق الليبية ضد الجنرال حفتر، والدعم الفرنسي لتنظيمات PKK وYPG بسوريا، وملف الأرمن والمنافسة الاقتصادية التركية بالقارة الإفريقية التي تعتبرها فرنسا فضاء حيوياً تاريخياً لها.
وتتغذى مبادرات ماكرون بالمتوسط على ملفات العداء التاريخية بين البلدين وتندرج ضمن استراتيجية باريس الرامية إلى لعب دور قيادي بأوروبا في ظل غياب ألمانيا وانشغال أمريكا بمواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19 والاستعدادات للانتخابات الرئاسية الأمريكية المرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
التدخل المتزايد في الخلاف التركي اليوناني ومع قبرص اليونانية يفسر كذلك كفرصة لإحياء الصناعات الدفاعية الفرنسية، والتي أصبحت أقل تنافسية بالمقارنة مع الشركات الأمريكية والصينية. الدليل على ذلك، قرار اليونان شراء 18 طائرات رافال (Rafale) من ضمنها 8 جديدة والباقي مستعمل من الشركة الفرنسية داسو للطيران Dassault Aviation بهدف مواجهة التفوق العسكري التركي.
هذا العقد التجاري العسكري يعتبر متننفس أوكسجين جديد لضمان بقاء سلسلة إنتاج طائرات رافال والذي من الضروري إنتاج على الأقل 11 طائرة سنوياً، لكي يتسنى الحفاظ على بقائها بساحة المنافسة الدولية المتعلقة بإنتاج وبيع الطائرات الحربية.
نجاح العقد اليوناني لشراء الطائرات الفرنسية شكَّل خبراً ساراً للاقتصاد الفرنسي المترنح تحت ضغط كورونا، خاصة أن الأمر يتعلق بأول عقد شراء رافال من طرف دولة أوروبية.
الصفقة اليونانية تضم كذلك طلباً تجارياً لشراء أربع سفن فرقاطة وتحديث أربعٍ أخرى قديمة.
بالتوازي مع هذه العقود الحربية، قررت فرنسا تقوية حضورها البحري ببحر إيجة لدعم اليونان وقبرص اليونانية في صراعها مع تركيا، وكذا كل الدول المنزعجة من طموحات أنقرة للدفاع عن حقها في الموارد الطبيعية (البترول والغاز) بشرق المتوسط، ويتعلق الأمر بمصر، الإمارات وإسرائيل.
من جهة أخرى، أرسلت فرنسا منذ شهر أغسطس/آب طائرتي رافال وسفينتين حربيتين (فرقاطة لافاييت وحاملات الهليكوبتر طونير) لدعم اليونان عسكرياً. إضافة إلى ذلك، شاركت باريس في مناورات عسكرية بحرية بشراكة مع قبرص اليونانية، اليونان وإيطاليا. مناورات جاءت كرد فعل على المناورات التركية قرب سواحل قبرص التركية ومدينة أنامور التركية.
العراق: فرصة جديد لصفقات التسليح، البنيات التحتية والطاقة النووية
التموقع الفرنسي بالملف العراقي مرتبط كذلك بطموحات باريس للظفر بحقها من كعكة صفقات الأسلحة العراقية. وزيرة الدفاع فلورونس بارلي، والتي كانت رفقة الرئيس ماكرون بمختلف جولاته بالعراق ولبنان، عبرت عن استعداد فرنسا إعادة استئناف تدريب وتسليح القوات الأمنية والجيش العراقي لمواجهة التحديات الأمنية.
من جهة أخرى، وفي سعيه للبحث عن متنفس جديد للشركات الفرنسية المتضررة جراء تداعيات كورونا، استغل ماكرون زيارته للعراق لتقديم مقترح تعاون في مجال الطاقة عبر العمل على مشروع نووي يمكن من التغلب على النقص المزمن في الكهرباء وكذلك مشروع مترو بغداد، إضافة إلى تشجيع المستثمرين الدوليين والمانحين على التوجه إلى بلاد الرافدين للاستثمار فيها.
الحركية الاقتصادية والدبلوماسية الفرنسية تهدف في نهاية المطاف إلى محاولة الحد من تزايد نفوذ الشركات التركية، والتي أصبحت أكثر حضوراً بالسوق العراقية، خاصة لتلبية حاجات البلاد من الكهرباء والسلع الاستهلاكية.
الحنين إلى إحياء الإرث الاستعماري بلبنان
إن تسارع المبادرات الدبلوماسية الفرنسية ليس فقط فرصة للتقليل من ثقل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، بل هو كذلك فرصة ذهبية لضخ نفس المبادرات الرامية للحفاظ على مكاسب الإرث الاستعماري بالشرق الأوسط.
فزيارة ماكرون الأولى للبنان، في 6 أغسطس/آب 2020، بعد يومين مباشرة على انفجار مرفأ بيروت سلطت الضوء على طموح الدبلوماسية الفرنسية لاستعادة دورها التاريخي بالمنطقة عبر الضغط على كافة الأطراف السياسية من أجل القيام بإصلاحات اقتصادية واسعة وسريعة للحد من الفساد.
وأما الزيارة الثانية التي قام بها في فاتح شهر سبتمبر/أيلول، فقد صادفت الذكرى المئوية لانفصال لبنان عن الدولة العثمانية سنة 1920 لتدخل تحت الانتداب الفرنسي كبلد جديد تحت اسم لبنان الكبير.
محاولة ماكرون لإحياء الإرث الاستعماري بالمنطقة امتد إلى درجة اقتراح فرنسا عقد مؤتمر دعم دولي للبنان بتنسيق مع الأمم المتحدة شهرَ أكتوبر/تشرين الأول المقبل وكذا برمجته لزيارة ثالثة شهر أكتوبر/تشرين الأول، وزيارة رابعة في شهر ديسمبر/كانون الأول.
النشاط الدبلوماسي لباريس بلبنان يراهن على الدور التاريخي لفرنسا والتي تقدم نفسها كحامية وراعية لمسيحيي الشرق منذ حكم فرانسوا الأول، إضافة إلى أهمية حجم الجالية اللبنانية المقيمة بفرنسا، وخاصة المسيحية منها، التي يتراوح عددها ما بين 120 ألفاً و200 ألف شخص.
إن الحراك الدبلوماسي الفرنسي هو جزء من استراتيجية باريس الرامية إلى التضييق على النفوذ التركي المتزايد بلبنان ومحاولة تطويقه كما الحال في باقي مناطق الصراع الفرنسي التركي: ليبيا، والعراق، وشرق المتوسط وإفريقيا.
كل الموشرات تؤكد أن الرئيس ماكرون سيضاعف من ديناميكية دبلوماسيته الخارجية في الشهور المقبلة بليبيا، وشرق المتوسط والشرق الأوسط، لاقتناص كل الفرص الاقتصادية والعسكرية الكفيلة بمساعدة الشركات المصدرة والاقتصاد الداخلي لتخطي أثار كورونا على مختلف قطاعات الاقتصاد والفئات الاجتماعية بفرنسا.