أوشكت المهلة التي منحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لزعماء لبنان لتشكيل الحكومة برئاسة المكلف مصطفى أديب على الانتهاء دون أن يبدو أي تغيير على المشهد السياسي في لبنان، ما يطرح تساؤلات بشأن فرص نجاح تلك الحكومة، حتى لو تم الإعلان عن ولادتها في الموعد الذي حدده عرابها ماكرون؟
كيف امتصوا صدمة تفجير المرفأ؟
عندما وقع تفجير مرفأ بيروت قبل أكثر من شهر، بدا كما لو أن هول الكارثة ربما يؤدي إلى تغيير جذري في طريقة إدارة لبنان وأن الفرصة تبدو سانحة لتحقيق مطالب الثورة الشعبية التي اندلعت في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي رافعة شعار "كلن يعني كلن"، كناية عن رغبة الشعب اللبناني في رحيل الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990.
وعلى الفور ظهر الرئيس الفرنسي في المشهد بل وتصدره بتحركاته الشعبوية مثل زيارة الأحياء التي دمرها التفجير الهائل، وهو ما لم يجرؤ عليه سياسي لبناني وقتها، وزار ماكرون لبنان مرتين والتقى السيدة فيروز في بيتها، وأعلن عن خارطة الطريق التي من الواضح أنه فرضها فرضاً على الطبقة الحاكمة في لبنان ولم يجرؤ أحد على معارضته.
وتقدم رئيس الحكومة حسان دياب باستقالته بالفعل وتمت تسمية مصطفى أديب كرئيس للحكومة المقبلة، وهو الخيار الذي فرضه ماكرون وتمسك به، ورضخ الجميع لما يريد الرئيس الفرنسي الذي حدد مهلة منتصف سبتمبر/أيلول الجاري (الثلاثاء) موعداً لإعلان التشكيلة الحكومية كاملة، فماذا حدث؟
مع مرور الأيام، بدأت الأمور تعود لطبيعتها في أروقة السياسة اللبنانية وكأن شيئاً لم يحدث وبدأ كل طرف يعلن -بصورة خافتة في البداية ثم ارتفعت الأصوات- عن شروطه للانضمام لحكومة أديب، ومع تزايد ضغوط ماكرون، بدأت حدة الرفض من زعماء التيارات والطوائف تتضح أكثر من خلال التصريحات بعد أن امتصوا صدمة تفجير المرفأ.
ولادة قيصرية قد لا تتم أصلاً
ومساء أمس الأحد 13 سبتمبر/أيلول، قال مكتب ماكرون إن الرئيس يضغط على الساسة اللبنانيين للوفاء بوعودهم بتشكيل حكومة جديدة هذا الأسبوع والعمل على انتشال البلاد من أسوأ أزمة تشهدها منذ الحرب الأهلية، وذلك في إطار وعد القيادة اللبنانية ماكرون عندما زار بيروت أول سبتمبر/أيلول الجاري بتشكيل حكومة اختصاصيين دون ولاءات حزبية في غضون أسبوعين تقريباً لإنهاء الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تفاقمت بانفجار مرفأ بيروت يوم الرابع من أغسطس/آب.
وقال مصدر رسمي إنه من المتوقع أن يعرض أديب خطته لتشكيل الحكومة على الرئيس ميشال عون اليوم الإثنين في مسعى لتسريع العملية التي عادة ما تستغرق شهوراً بسبب الخلافات على تسمية الوزراء، وقال قصر الإليزيه دون أن يورد تفاصيل عن أي مناقشات "الرئيس (الفرنسي) يواصل اتصالاته مع مختلف اللاعبين السياسيين في لبنان".
وتوجه أديب بالفعل إلى قصر بعبدا اليوم الإثنين، حيث التقى الرئيس ميشال عون، دون أن يدلي بتصريحات صحفية قبل اللقاء، وسط تكهنات بأنه يحمل التشكيل الوزاري بالفعل وأن عون سوف يصدق عليه ليتم الإعلان عن ولادة الحكومة.
وقالت فضائية "mtv" اللبنانية الخاصة إن أديب وصل "إلى بعبدا، لتقديم تشكيلته الحكومية المؤلفة من 14 وزيراً إلى الرئيس ميشال عون"، مضيفة أن "هذه المرّة هي الأولى التي تقدّم تشكيلة لم تطلع على أسمائها الأطراف السياسية، وأن ردّ عون عليها هو التريّث لأيّام قليلة"، دون ذكر تفاصيل.
ونقلت الفضائية عن مصادر لم تسمها "احتمال ولادة الحكومة اللبنانية هذا الأسبوع"، لكن أديب قال، في تصريح للإعلاميين عقب ختام مشاوراته مع الرئيس: "التقيت الرئيس عون لمزيد من التشاور، وإن شاء الله كل خير"، ولم يذكر شيئاً عن اكتمال التشكيل الوزاري.
ما قصة حقيبة المالية؟
والحقيقة أن ما يحدث في لبنان في الأيام القليلة الماضية يشير بوضوح إلى أن فرص ولادة حكومة أديب -التي يصفها البعض بأنها حكومة ماكرون- تعد ضعيفة، ناهيك بالطبع عن فرص نجاحها في إنجاز أي شيء يصب في صالح حلحلة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يدفع ثمنها اللبنانيون.
ففي الساعات الماضية، برزت عقدة متمثّلة في حقيبة المالية، حيث يتمسك بها كل من رئيس مجلس النواب، نبيه بري، وجماعة "حزب الله" اللبنانية (شيعية) وقال النائب عن حركة "أمل"، محمد نصر الله لوكالة الأناضول: "نود المشاركة في الحكومة لنقوم بواجبنا في إدارة شؤون البلاد في (ظل) الإمكانيّات المتوفرة لدينا إن كان في المجلس النيابي أو في مجلس الوزراء".
"لكن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من خلال افتقادنا لحصتنا في وزارة المالية.. لا توجد أي محاولة لعرقلة الحكومة، ولكن قرّرنا عدم المشاركة. عدم المشاركة مربوط بعدم إعطائنا حصتنا الطبيعية في مجلس الوزراء وإذا أُعطينا حقنا طبعاً سنُشارك".
وعن سبب تمسّك حركة "أمل" بحقيبة المالية، ردّ نصر الله: "بالعرف العام ومناقشات اتفاق الطائف عام 1990 (الذي أنهى الحرب الأهلية)، جرى التوافق على أن تكون المالية للطائفة الشيعية؛ لأن المراسيم توقّع من رئيس الجمهورية (مسيحي ماروني) ورئيس مجلس الوزراء (مسلم سنّي) ووزير الماليّة، وعندها يكون هناك شراكة بهذه المراسم للطوائف الثلاث"، مضيفاً: "تنازلنا عن الحقيبة لمرتين أو أكثر لا يفقدنا حقنا فيها".
وحول إن كان نواب "أمل" سيستقيلون من البرلمان، أجاب "الاستقالة غير واردة، ولكنّ إذا الرئيس عون وقّع على تشكيلة الحكومة ستكون حكومة أديب موجودة وسنتعامل معها على هذا الأساس"، مستطرداً: "يمكن أن نمنحها الثقة في المجلس النيابي ونساعدها ونعارضها من المجلس في حال لزوم ذلك".
وزار سعد الحريري، رئيس الحكومة السابق، زعيم تيار المستقبل (سُني)، بري السبت، لحلّ مسألة حقيبة المالية وبحث مستجدات الملف الحكومي، لكن لم يتم التوصل إلى نتيجة.
"الاستقواء بالخارج"
إن كانت أزمة حقيبة المالية مؤشراً على شيء، فهي بالقطع ليست مؤشراً إيجابياً، فها هو رئيس مجلس النواب يعلن أن حركة أمل لن تشارك في حكومة دياب، والأمر نفسه أعلنه "التيار الوطني الحر" (حزب رئيس الجمهورية) وكان كل من "الحزب التقدمي الإشتراكي" وحزب "القوات اللبنانية"، و"تيار المستقبل" قد أعلنوا سابقاً عن عدم رغبتهم في المشاركة في الحكومة، والسؤال هنا من سيدعم حكومة دياب أو حكومة ماكرون؟
ويرى منير الربيع، كاتب ومحلل سياسي، أن "عون بات محرجاً، ولتجنّب المزيد من العقوبات على المقرّبين منه وعلى وزير الخارجية السابق، جبران باسيل، لن يكون قادراً على عرقلة تشكيل الحكومة وعدم التوقيع على تشكيلتها"، مضيفاً: "عون إمّا يوافق على التشكيلة في حال تضمّنت إحالة وزارة المالية إلى الطائفة الشيعية ووافق الثنائي الشيعي (حزب الله وأمل)، وإمّا يطلب الاستمهال لمزيد من التشاور والتعديلات على التشكيلة، وبالتالي كسب مزيد من الوقت".
وبشأن إن كان عون سيوافق على حكومة من دون الثنائي الشيعي، أجاب بأن "عون لا يفضل الذهاب إلى مواجهة أو صدام مع الثنائي الشيعي، ولا إلى قطع العلاقة مع حزب الله"، مستدركاً: "لكن إذا أصرّ أديب على تشكيلته، وسُلّمت التشكيلة بما فيها شخصية شيعية تتولّى وزارة المالية، فلا بدّ لعون أن يوقّع، وعندها ستذهب الحكومة إلى مجلس النواب لنيل الثقة".
ووفقاً لمصطفى علوش، عضو المكتب السياسي في تيار المستقبل، فإن "الكلّ يدرك أن المبادرة الفرنسيّة هي الوحيدة الموجودة هذه اللحظة، وتستند إلى أن يؤلّف الرئيس المكلف الحكومة، وإن لسبب من الأسباب يودون عرقلة الحكومة، سينهون المبادرة الفرنسية".
لكن اللافت هنا هو إشارة بري إلى وجود قلق من غياب المشاورات وما وصفه :بالاستقواء بالخارج" في تشكيل الحكومة، وذلك بعد أن اتصل به ماكرون هاتفياً في محاولة لتذليل عقبة تتعلق بتعيين وزير للمالية، والمصطلح نفسه "الاسقواء بالخارج" استخدمه جبران باسيل خلال كلمة ألقاها أمس الأحد.
في ظل هذه الأجواء، لا يبدو أن الحكومة التي يسعى الرئيس الفرنسي فرضها على لبنان تمتلك فرصة النجاح، هذا في حال رأت النور من الأساس، بحسب كثير من المراقبين.