"الحصول على الطلبات سيكون في وقتٍ مبكر؛ لأنه نظراً لقيود الإغلاق تنتهي خدمة التوصيل في منتصف الليل بدلاً من الساعة الرابعة صباحاً كالمعتاد".
وردت هذه الملاحظة في إعلان ترويجي يظهر على قصص تطبيق "واتساب" لبائعٍ أسكتلندي.
تومض جملة "عرض ترويجي" في الإعلان ويقدم الإعلان خصماً على عملية الشراء التالية إذا رشحت المنتج لخمسة عملاء آخرين.
لا يمكن تمييز لغة الإعلان في ذلك اليوم عن لغة مئات بائعي التجزئة الآخرين عبر الإنترنت، الذين يرسلون رسائل بريد إلكتروني تسويقية، ولكن المنتجات المعروضة للبيع مثيرة للدهشة: الكوكايين، والكيتامين، والإكستاسي.
كان من المنطقي بالنسبة لتجار المخدرات في غلاسكو تكييف استراتيجية التسويق والمبيعات لتلبية احتياجات المستهلكين العالقين في منازلهم أثناء الجائحة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وفي حين عانت المجالات الاقتصادية التي تتطلب التعامل وجهاً لوجه، مثل الضيافة والسياحة، من أضرار اقتصادية خانقة، فإن الترفيه في المنزل يزدهر. وقد شهدت مبيعات المشروبات الكحولية المنزلية ارتفاعاً حاداً.
بينما حصلت منصة "نتفلكس" على أكثر من 10 ملايين مشترك جديد. واستفاد جيف بيزوس، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة أمازون، كثيراً خلال الأزمة لدرجة أن بعض التقديرات تتوقع أنه سيكون أول تريليونير في العالم.
جائحة كورونا توفر فرصة للعصابات
وبالنسبة لجماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، كانت الأزمة أيضاً فرصةً اقتصادية هائلة. وكمجالٍ اقتصادي، تمثل الجريمة المنظمة قيمةً تتراوح بين 3.6 تريليون دولار و4.8 تريليون دولار في السنة، أي 7% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم. وتجارة المخدرات وحدها تُعادل قيمةً تتراوح بين 426 مليار دولار و652 مليار دولار سنوياً.
وفي حين تتوخى الكارتلات وعصابات الاتجار الحذر مثل أي شخص آخر بشأن التفاعل وجهاً لوجه أثناء الجائحة، فإن هذه المنظمات بالكاد مستعدة لترك مصالحها التجارية تتضاءل.
ومن المكسيك إلى جنوب إفريقيا، تستخدم كارتلات المخدرات جائحة كوفيد-19 لتعزيز وتنمية أعمالها، وتنويع أنشطتها، والقضاء على المنافسة في هذا المجال.
العنف تراجع ولكن المخدرات لا
هذا لا يعني أن السوق السوداء تعمل كالمعتاد. فمع عزل الكثير من سكان العالم لأنفسهم داخل منازلهم، تراجعت المظاهر المرئية للجريمة المنظمة بسرعة. وشهدت لندن انخفاضاً حاداً في جرائم الطعن. كما تراجعت الجرائم العنيفة بجميع أنواعها في فرنسا. وانخفضت اعتقالات المخدرات في شيكاغو بنسبة 42%. وفي لوس أنجلوس قبل اندلاع العنف بعد وفاة جورج فلويد، انخفضت الجرائم الرئيسية بنسبة 30%.
وفي غضون ذلك، يجري تخزين المخدرات والمال على جانبي الحدود الجنوبية الغربية للولايات المتحدة بحسب ما قاله متحدث باسم إدارة إدارة مكافحة المخدرات، وأبلغ العاملون في حقل التجارة المحلية عن ارتفاع أسعار الميثامفيتامين والكوكايين والهيروين على مستوى التجزئة والجملة. وقال المتحدث باسم إدارة مكافحة المخدرات إن هذه علامة على أن الإمدادات قد تنفد، على الرغم من أنه من الواضح أيضاً أن هذا يعد علامة على أن الطلب لم ينقص.
ووراء الكواليس، تجد مجموعات تهريب المخدرات حلولاً بديلة للتحديات والقيود اللوجستية. إذ يعتقد بعض الخبراء أن هذه التجارة في واقع الأمر أكثر مرونة وقدرة على الصمود مقارنةً بما يكشفه المجرمون عن أنفسهم.
وقال جيسون إيلي من المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود: "قال شارل بودلير إن أعظم خدع الشيطان هي إقناعك بأنه غير موجود. لقد رأينا ذلك في الكثير من المقابلات الصحافية، بما فيها المقابلات مع أعضاء كارتل مزعومين متباكين، وهم يدعون الضعف وعدم قدرتهم على الحصول على الإمدادات.
ويقولون: إنه وقت عصيب بالنسبة لنا، نحن نخسر المال. حسناً، ما هو الوقت الأفضل لتصوير نفسك على أنك ضعيف أكثر من الوقت الذي يكون فيه انتباه الشرطة ووكالات إنفاذ القانون مشتتاً، وعندما تصبح عملية مراقبة الحدود معقدة لأن التركيز ينصب على الوقاية من كوفيد-19 أكثر من الكشف على البضائع غير المشروعة واعتراضها؟ ما هو أفضل وقت لزيادة حجم التهريب، والتركيز على زيادة إنتاجك، والتسلل إلى السوق أكثر من وقت أزمة مثل هذه؟".
فرصة لرفع الأسعار، مع توفر خدمة التوصيل للمنازل
إنه أيضاً عذر مفيد للتلاعب بالسوق من خلال التظاهر بالندرة وتضخم الأسعار. إذ قال مارك جالوتي، المحاضر والكاتب عن الجريمة العابرة للحدود والأمن الروسي، إن الشيء نفسه يحدث في روسيا. "الهيروين وفير للغاية، ولكي نكون صادقين، هناك مخزونات داخل روسيا، أو عبر الحدود في آسيا الوسطى، احتفظت بها العصابات على وجه التحديد لأنها لا تريد إغراق السوق وخفض السعر".
ومع زيادة عمليات التوصيل للمنازل لجميع المنتجات في جميع أنحاء العالم، أصبحت مراقبة السلع غير المشروعة واعتراضها تحدياً لا يمكن السيطرة عليه. إذ تقول فيليا ألوم، وهي محاضرة كبيرة في جامعة باث، إنّ بعض عشائر كامورا في جنوب إيطاليا -المكافئ المحلي للمافيا الصقلية- بدأت في توصيل المخدرات إلى منازل المستخدمين الذين كانوا يشترون منتجاتهم سابقاً في الساحات المحلية.
والتوصيل إلى المنازل هو طريقة توزيع منخفض المخاطر، ويستخدمه التجار الأكثر حيلة لعقود من الزمان. ولكن قد يكون كوفيد-19 هو الدافع الذي يحتاجه المستخدمون والتجار التقليديون للابتعاد تماماً عن صفقات أزقة الشوارع.
وينطبق هذا أيضاً على عمليات التسليم الدولية والمسافات الطويلة. إذ أوضح ميشا غليني، مؤلف كتاب McMafia، أنه نظراً لأن شبكات التوصيل بدءاً من شركة DHL مروراً بمكاتب البريد إلى FedEx تعمل بأقصى طاقتها، فمن الآمن أكثر من أي وقت مضى توزيع المخدرات عبر هذه القنوات دون جذب الانتباه. وقال إنه "ليس هناك شك في أن الزيادة الكبيرة في النشاط على الإنترنت المظلم منذ بدء الإغلاق ستعزز الأسواق الإجرامية المعتمدة على الإنترنت".
إنهم أكثر قدرة على الابتكار من أمازون حتى إنهم يستخدمون طائرات مسيّرة
بينما قالت فاندا فيلباب براون، من معهد بروكينغز، إن المبالغ الضخمة من رأس المال المتاحة لمجموعات الجريمة المنظمة تعني أن لديها أيضاً "سيولة غير عادلة للاستثمار في الابتكار". ويتسبب خطر افتضاح أمرهم أو اكتشاف شحناتهم في وجود حوافز لديهم، أكثر من زملائهم المبتكرين في أمازون أو Uber Eats، لتطوير طائرات بدون طيار وتقنيات توصيل أخرى للحزم الصغيرة بدون اتصال مباشر مع المرسل إليه.
وتعمل عصابات الجريمة المنظمة أيضاً على ابتكار طرق لتقصير سلاسل التوريد والحد من التعرض للمخاطر على طول الطريق. وأحد الأمثلة على ذلك هو تصنيع نسخ تركيبية من المخدرات داخل بلد مستهلك، مثل الفنتانيل كبديل للهيروين. وهذا يلغي الحاجة إلى نقل البضائع عبر الحدود الوطنية، ولكن هناك مبرر اقتصادي أيضاً. إذ قالت فاندا: "هذه المخدرات تسبب الإدمان بشكل كبير. وهو أمر مفيد أيضاً للجماعات الإجرامية، طالما أنها لم تتسبب في قتل الكثير من المتعاطين نتيجة الجرعة الزائدة".
ولا تواجه المؤسسات الإجرامية، غير المقيدة بمضايقات مثل حقوق العمال ومطالب النقابات والناخبين الذين يريدون إجابات، نفس المعضلات التي تواجهها الحكومات أو حتى الشركات المشروعة عند اتخاذ قرار بشأن دعم قوتها العاملة أثناء جائحة مثل كوفيد-19. فبعض العصابات الروسية، بحسب توضيح جالوتي، لديها عدد من رجال العصابات أكبر مما تحتاج إليه حقاً في كشوف المرتبات.
والمتاجرون في البشر يستغلون ضحاياهم في إنتاج الكمامات
ولكن بشكلٍ خاص، هناك مشكلة متعلقة بضحايا الاتجار بالبشر والعبودية الحديثة.
كثير من هؤلاء كانوا يعملون بشكل استعبادي لتوفية دَينهم لدى الشركات المستخدمة كواجهة لغسل الأموال.
والآن، أغلقت محال تقليم الأظافر وغسيل السيارات ومواقع البناء كلها نتيجة حالة الإغلاق العام. وانخفض العمل في مجال تجارة الجنس بشكل كبير، حسبما قال نيل جيليس، مدير قسم الوقاية القائمة على المعلومات في حملة Stop the Traffik لوقف الاتجار بالبشر.
ويعتقد جيليس أن العديد من الأشخاص الذين نُقِلوا إلى المملكة المتحدة بشكل غير شرعي من أجزاء أخرى من أوروبا قد عادوا بسرعة في بداية الجائحة. أما أولئك الذين لم يغادروا، فمن المرجح أن يُنقلوا إلى مزارع القنب السرية، أو يُعاد نشرهم كعمال متعاقدين في صناعات قانونية مثل إنتاج الغذاء وخدمات التسليم. وأشار جيليس إلى أن هذين القطاعين قللا من الحواجز التي تعترض الدخول من أجل مواجهة الارتفاع في الطلب. وفي خضم الفوضى، فمن غير المرجح أن يُلاحظ دخول موظف جديد تحت سيطرة الجماعات الإجرامية أو جماعات الاتجار بالبشر.
كما توفر استراتيجيات تنويع الموارد التي اتبعتها جماعات الجريمة المنظمة أثناء الجائحة بعض الأدلة على المكان الذي ربما ذهبت إليه القوى العاملة الزائدة. إذ قالت لوسيا بيرد رويز-بينيتيز دي لوغو، المحللة البارزة في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، إنّ الطلب على أقنعة الوجه الطبية يؤدي إلى زيادة في العمل الجبري، وذلك بسبب تدافع الشبكات الإجرامية والمنتجين غير الرسميين على المشاركة في عملية التصنيع.
وبعض العصابات تقوم بأعمال خيرية أثناء الجائحة
وفي حين تتباهى الشركات الكبرى بالمكافآت التي يحصل عليها عمالها الأوفياء في أوقات الأزمات، مثل الجائحة الحالية، فهنا أيضاً تحذو جماعات الجريمة المنظمة حذوها.
ففي ريو دي جانيرو وكيب تاون بجنوب إفريقيا، نصبت عصابات المخدرات نفسها كحماة للمجتمع المحلي. إذ فرضت قواعد صارمة، ووزّعت طرود الغذاء على الأسر. وفي المكسيك نشرت ابنة رئيس الكارتلات السابق سيئ السمعة، خواكين "إل تشابو" غوزمان، مقاطع فيديو لوسائل الإعلام الاجتماعية أثناء توزيع "حزم تشابو" التي تضمنت سلعاً أساسية ووُزِّعت على المجتمع، محاكين بذلك حملة مساعدات Walmart التي كانت بعنوان "مكافحة الجوع. شرارة تغيير".
ما المزعج في ذلك؟ يقول غليني إن مثل هذه الجماعات المتوحشة "تعتمد أيضاً على درجة من الدعم المجتمعي".
إذ إنّ الاختلاف الحقيقي الوحيد بين إمبراطورية تجارية مشروعة وبين عصابة كبرى للجريمة المنظمة هو أن إحداها يتطلع إلى تعظيم مصالحه إلى أقصى حد ممكن ضمن حدود وثغرات القانون، بينما يبذل الآخر قصارى جهده لتجنب إشراف القانون عليه. وهذا يعني أن الصناعات غير المشروعة هي في الأساس تجارب في رأسمالية السوق الحر الخالصة وغير المنظمة. وقد أظهرت الأشهر الستة الماضية مدى مرونتها وقدرتها على التكيف مع ضغوط الأسواق الناشئة. وتبين أيضاً مدى الضرر الذي يُلحقه هذا النموذج بالقوى العاملة القابلة للاستغلال وغير المحمية والمستهلكين، بسبب ارتفاع الأسعار والمنتجات ذات الجودة الرديئة لتعويض أي خسائر. وفي المجتمعات التي تهيمن عليها هذه المجموعات، يصبح الأغنياء أكثر ثراءً ويتعرّض الفقراء للضغط.