قبل ثلاثة أشهر من بدء احتجاجات العراق في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي -حين نزل آلاف المتظاهرين إلى شوارع بغداد وجنوب البلاد للمطالبة بالقضاء على الفساد الحكومي- وعلى نحو 16 ألف كم في أوكلاند بنيوزيلندا، بدأت الفنانة الناشطة ياسمين في مشاهدة برنامجٍ سياسي ساخر عن العراق على يوتيوب.
وفتح البرنامج عيونها على بلدٍ فقدت كل علاقتها به؛ إذ تقول: "علاقتي بالعراق؟ ظننت بكل أمانة أنّني لم أعُد أكترث. إذ أعيش خارج العراق منذ 26 عاماً. وكنت سعيدةً للغاية لمعرفتي أنّه ما يزال موجوداً على الخريطة… وهذا كل شيء. كانت هذه هي علاقتي الوحيدة بالعراق"، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
لكن برنامج البشير شو الأسبوعي -المُشابه لبرنامج The Daily Show الأمريكي- الذي يُقدّمه الممثل الكوميدي العراقي أحمد البشير ويُسجّله في عمّان بالأردن، هو الذي أحيا اهتمام ياسمين بأخبار وطنها الأم من جديد.
وفي الحلقة التجريبية للبرنامج، يُخبر البشير مشاهديه كيف حاول العراقيون "بناء ديمقراطية يمتلكون داخلها الحق في الاختلاف مع الحكومة دون التعرض للتعذيب بالغرق أو توصيل الأقطاب الكهربائية بخصيتيهم من جديد".
وبدأت ياسمين في متابعته على تويتر، واطّلعت من خلال صفحاته في الشبكات الاجتماعية على احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول للمرة الأولى. وبعد أنّ فوجئت بالعنف المستخدم في قمع المسيرات، تقول: "صُدِمت من هول العنف الذي رأيته خلال الأيام الثلاثة الأولى من أكتوبر/تشرين الأول. وظللت أبكي لثلاثة أيام، ولم أتناول الطعام. وشاهدت مقطع فيديو اضطررت لإيقافه. إذ ظهر فيه رجلٌ يتحدّث إلى شخصٍ يحمل بندقية. وكان الرجل يقول: أنا لا أفعل أيّ شيء. وأثناء المحادثة، أطلق الشخص النار على رأسه مباشرةً وأرداه قتيلاً".
"بنهاية أكتوبر"
أشارت التقارير الحكومية الرسمية إلى مصرع 149 مدنياً خلال الموجة الأولى من الاحتجاجات، وغالبيتهم نتيجة أعيرةٍ نارية في الرأس. وحتى يومنا هذا لقي نحو 550 شخصاً مصرعهم في أحداث العنف، وأُصيب نحو 300 ألف شخص، وفقاً للتقديرات.
وحينها كانت ياسمين، التي تعمل بدوامٍ جزئي، تُجهِّز ألبومها الثاني الذي كان يُركز على موضوعات حول هويتها النيوزيلندية -ولم تكُن السياسة العراقية أبداً جزءاً من الخطة. ولكنّها لم تستطع نسيان ما شاهدته، وأثّر ذلك عليها بدرجةٍ دفعتها إلى البدء في كتابة الأغاني الاحتجاجية.
وجاءت مقاطعها الحزينة في أولى أغنيات الألبوم، وهي أُغنية مليئة بالشجن تحمل اسم "أكتوبر October"، إهداءً إلى جميع العراقيين الذين ماتوا خلال الشهر الأول من الاحتجاجات. وأطلقت على آخر ألبوماتها اسم "أغانٍ فوق بغداد Songs Over Baghdad"، لأنّها أرادت "أن يروي العراقيون قصة العراق، حتى يتمكنوا من محو الصورة العنيفة للقنابل المتساقطة فوق بغداد".
وتقول ياسمين: "أبهرني أولئك الأبطال [المتظاهرون العراقيون] بشجاعتهم، وذكائهم، وحبهم لبلادهم، وإنكارهم لذاتهم. إنّه أكثر شيءٍ مُلهم شهدته على الإطلاق… وأردت أن أقول إنّنا نرى شجاعتكم، وما تُحاولون فعله".
ولكن الأغنية هي أيضاً إهداءٌ لضحايا حادث إطلاق النار في مسجد كرايست تشيرش عام 2019، والذي أفضى إلى مذبحةٍ أودت بحياة 51 شخصاً على يد مُسلَّحٍ واحد.
أغاني البوب السياسي
حين يُقارنها البعض بمغنية السول البريطانية كورين بايلي راي، تقول ياسمين إنّ هناك بعض أوجه الشبه من ناحية الصوت، ولكن الموسيقى التي قدّمتها كانت عبارةً عن "ألبوم بوب سياسي بكل تأكّيد".
إذ تدفّقت الإهداءات إلى المتظاهرين العراقيين في ألبومها الذي أنتجته بنفسها، في محاولةٍ منها لتكون "جزءاً من الثورة".
أما أغنيتها الثانية "فتى بغداد Baghdad Boy"، التي صدرت في يوليو/تموز، فهي أغنيةٌ بوب حماسية تحوي قصصاً عن الشرف والشجاعة في خضم "العنف والقتل" الذي شهده المحتجون.
وتقول ياسمين إنّها "أغنيةٌ في حب المحتج السلمي… فتى بغداد الجديد".
يبدأ مقطع الفيديو بلقطات لشاب يأكل شطيرة، وهو مشهدٌ مُتعمّد لغرضٍ ما.
إذ إنّ هذا الشاب هو عمر، مُستخدم يوتيوب عراقي يُوثّق حياته اليومية إبان الاحتجاجات، وهو مصدر إلهام المقطع التالي في الأغنية: "لم أشهد شجاعةً من قبل، حتى شاهدت وجهك".
ومن بين الآخرين الذين ورد ذكرهم في الأغنية التوأم العراقي حسن وحسين، وكلاهما صحفي غنّت ياسمين عنهما حين قالت: "حين يُطلقون النار، نُواصل المشي. لم نعتد الهروب في مسقط رأسنا".
وينتهي فيديو الأغنية، الذي تم تجميعه من مقاطع يوتيوب، بتكريم "فتى بغداد" الشهير من احتجاجات العام الماضي. والفتى هو صفاء السراء، الناشط البارز، الذي مات أوائل احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول بعد إصابته في الرأس بقنبلة غاز مسيل للدموع.
لا تزال تُمطر بالقنابل في بابل
وُلِدّت ياسمين، التي تصف موسيقاها بـ"أغاني البوب الجذابة التي تدور حول الأحداث السياسية الراهنة"، في العراق خلال الثمانينات. وتركت عائلتها البلاد وهي في الثامنة من عمرها منتقلةً إلى الأردن، قبل الهجرة إلى نيوزيلندا لاحقاً.
وتقول إنّها كانت منفصلةً طيلة حياتها عما يحدث في مسقط رأسها.
وكانت بالكاد تتذكّر الأحداث التي وقعت في العراق حينها (إبان الغزو الأمريكي عام 2003)، حيث كانت تدرس من أجل الحصول على شهادةٍ في العلوم من جامعة أوكلاند.
إذ أوضحت: "أتذكر مشاهدة التلفاز مع عائلتي في المساء حين وقع الغزو، وكان اللون الأخضر يُضيء سماء بغداد كلما أُسقِطَت قنبلة. وكتبت عن تلك المشاهد في أغنية (بابل Babylon)".
والآن وهي في الثلاثينات من عمرها، تتذكّر "طفولتها السعيدة للغاية" خلال السنوات الأولى القليلة التي قضتها في العراق. ورغم أنّ إحدى أولى ذكرياتها كانت جمع فوارغ الرصاص من باحة منزلها الخلفية، لكنّها تقول إنّها لم تشعر بالخوف أبداً في طفولتها.
"ربما أمريكا هي السبب"
وتُؤكّد ياسمين أنّ ألبوم Songs Over Baghdad، المكتوب في ستة أسابيع فقط، لا يحتوي على أغانٍ عاطفية، ولكنه "يدور حول الهوية، وكل أغانيه سياسية". لكن مشاعر الحزن تُسيطر بالتأكيد على جزءٍ كبير من كلماتها.
بينما كتبت ياسمين أغنية "باريس الشرق الأوسط Paris in the Middle East"، المُهداة إلى بيروت، وكأنّ "المدينة تتحدّث عن نفسها".
وتقول ياسمين إنّه من الضروري أنّ يرى العالم الغربي أكثر مما تنقله وسائل الإعلام عن الشرق الأوسط: "أعتقد أنّ كل فنانٍ يتحدّث عن أمورٍ مماثلة، يهدف إلى النتيجة نفسها. إذ إنّ شعوب الشرق الأوسط هم بشرٌ أيضاً، ونحن لسنا مجرّد كائنات غاضبة في بحر الحياة".
ولكنّها تُدرِك أيضاً ضرورة المساءلة، في العراق وخارجه. لذا تُركّز أغنيتها المُقبلة التي ستصدر في أكتوبر/تشرين الأول، بعنوان "ربما أمريكا هي السبب Maybe it's America"، على هذه النقطة.
إذ تقول ياسمين: "على أمريكا تحمل مسؤولية الكثير من الأمور حين يتعلّق الأمر بالعراق. وكذلك هو الأمر معنا نحن العراقيين… في ما يتعلّق باللغة المثيرة للانقسام التي نستخدمها حين نتحدّث عن المسيحيين أو الشيعة أو السنة أو العرب أو الأكراد أو اليهود أو اليزيديين. كلنا عراقيون بنهاية المطاف. ولهذا تطرح الأغنية التساؤل: فربما كانت أمريكا هي السبب، وربما كنا نحن السبب".