يقول المثل المصري "يا فرحة ما تمت.. خدها الغراب وطار"، كناية عن حدوث مفاجأة غير سارة أفسدت حدثاً سعيداً قبل أن يكتمل، وينطبق المثل الشعبي هنا على قضية التحرش في مصر، والتي شهدت زخماً كبيراً في الأسابيع الماضية، وتحركات برلمانية لتعديل القوانين لحماية من يتقدمون ببلاغات تساعد على عقاب المتحرشين، وهو ما فتح باب الأمل لمواجهة تلك الظاهرة القبيحة والمدمرة، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، ودخلت أجهزة الأمن على الخط، فتحول الأمل إلى رعب، فماذا حدث؟
القبض على شهود
كان تحرك النيابة المصرية، في 5 أغسطس/آب الماضي، بالإعلان عن فتح تحقيق حول مزاعم تعرض فتاة لواقعة اغتصاب جماعي في فندق فيرمونت بالقاهرة عام 2014، بعد أن ظهرت القصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في شهر يوليو/تموز، في إطار الجدل المحتدم حول التحرش، بمثابة تأكيد على نافذة الأمل التي لاحت في الأفق بشأن التصدي بحزم لما تتعرض له النساء في المجتمع.
وكان تحرك النيابة العامة بناء على كتاب من المجلس القومي للمرأة، مرفقاً "بشكوى قدمتها إحدى الفتيات إلى المجلس عن تعدي بعض الأشخاص عليها جنسياً عام 2014، داخل فندق فيرمونت نايل سيتي بالقاهرة"، وأشارت النيابة في بيان لها أنها تلقّت "شهادات مقدمة من البعض حول معلوماتهم عن الواقعة".
وكانت المزاعم حول واقعة اغتصاب جماعي في الفندق المذكور قد انتشرت على حساب يحظى بمتابعة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما أثار موجة جديدة من حملة #أنا_أيضاً في مصر، التي كانت قد تفجرت قبل ذلك بأسابيع، بعد أن تحدثت فتيات تعرضن لاعتداءات جنسية وأشكال أخرى من التحرش على يد شاب كان يدرس في الجامعة الأمريكية، وتحولت القصة لقضية رأي عام.
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً بعنوان "الأمل يتحول إلى يأس بعد قبض مصر على شهود واقعة الاغتصاب الجماعي في 2014″، نقلت فيه شهادات ناشطين رأوا في توقيف الشهود انتهاكاً للوعد بحماية من يتصدون للاعتداء الجنسي بأشكاله.
ألقت قوات الأمن المصرية القبض على 6 من الشهود الذين تقدموا للنيابة للإدلاء بأقوالهم في واقعة فندق فيرمونت، بينهم ثلاث سيدات، وهو الخبر الذي أوردته صحف محلية قالت إن ثلاثة من المقبوض عليهم أفرجت عنهم النيابة بكفالة مالية، وإن المقبوض عليهم خضعوا لكشوف عذرية واختبارات للكشف عن تعاطيهم المخدرات.
وكشف تقرير الغارديان نقلاً عن ناشطات وباحث في منظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية، قولهم إن قوات من الأمن الوطني المصري (أمن الدولة قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011) ألقوا القبض على واحدة من الشهود، لدى وصولها بسيارتها أمام المبنى الذي تسكن به، بينما ألقي القبض على شاهدة أخرى خارج القاهرة، حيث تقضي عطلة الصيف، بعد أن توجهوا لمنزلها في القاهرة ولم يجدوها.
وبحسب نفس المصادر ومحامين تواصلوا مع الشهود المقبوض عليهم، قام ضباط الأمن الوطني بتهديدهم بتهم "انتهاك قيم الأسرة المصرية"، و"الإضرار بسمعة مصر" و"ممارسة الرزيلة"، فيما وصف عمرو مجدي، الباحث في هيومان رايتس ووتش، ما حدث بكونه "لحظة مرعبة للناشطات النسويات وللمختلفين جنسياً".
السيدات الثلاث المقبوض عليهن كنّ قد أدلين بشهادتهن في تحقيق النيابة في واقعة الاغتصاب الجماعي المزعومة بفيرمونت، بينما تم القبض على رجلين آخرين معهن، والسادس هو منظم حفلات معروف أدلى أيضاً بشهادته بشأن نفس الواقعة والحفل الذي أقيم وقت وقوعها.
تحوّل مريب في التحقيق
قبل الكشف عن القبض على الشهود، كانت قد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات تزعم أن النيابة تتجه لتكييف قضية فندق فيرمونت على أنها "جنس جماعي"، وليست اغتصاباً جماعياً لفتاة تحت تأثير المخدر، في ظل كون المتهمين من أبناء أصحاب المال والنفوذ في البلاد، دون أن يصدر بيان رسمي من النيابة العامة ينفي أو يؤكد ذلك التكييف القانوني للقضية.
وكانت النيابة قد أصدرت أمراً بالقبض على المشتبه بهم في واقعة الاغتصاب الجماعي المزعومة، وطلبت من الإنتربول المساعدة في إعادة مَن هربوا منهم خارج البلاد، بعد أن وصلت مزاعم الاعتداء إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتم بالفعل القبض على ثلاثة منهم كانوا قد فروا إلى لبنان.
وقد أشادت منظمات حقوق المرأة والناشطين والناشطات بذلك التحرك من النيابة، خصوصاً بعد تحرك البرلمان لإقرار تعديلات قانونية تحمي سرية بيانات ضحايا الاعتداءات الجنسية، بغرض تشجيع النساء على الإبلاغ عمّا يتعرضن له دون الخوف من رد فعل المجتمع أو الأهل أو المعتدي نفسه، وكل هذا خلق جواً من التفاؤل والأمل في أنه قد حان الوقت بالفعل للتصدي لظاهرة التحرش والاعتداءات الجنسية التي وصلت إلى مستويات جعلت مصر من أسوأ الدول في مجال حرية المرأة وحقوقها وإحساسها بالأمان.
وبناء على ذلك، بدأ المجلس القومي للمرأة في مناشدة الفتيات والسيدات بالتقدم بالبلاغات في حال تعرضهن للتحرش دون خوف، في ظل وعود متكررة بالحماية والمساعدة، وهو ما أدى للقبض على المدعو بسام أحمد زكي، بعد مزاعم بتحرشه واعتدائه الجنسي ومحاولة اغتصاب أكثر من 50 فتاة وسيدة.
الأمل تبخر بعد تدخل الأمن الوطني
لكن لم تدُم لحظات الأمل طويلاً، بعد أن ظهر فجأة الأمن الوطني في الصورة في قضية فندق فيرمونت، المتهم فيها عدد من أبناء أصحاب النفوذ والمال في البلاد، فبدأ القبض على الشهود وتهديدهم، ووصلت الرسالة للناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ الصمت أو السجن.
وأدى ظهور الأمن الوطني بتلك الصورة النمطية والقبض على الشهود بعد أن أدلوا بشهاداتهم أمام النيابة بالفعل إلى زيادة المخاوف بشأن التوجه نحو تكييف القضية على أنها جنس جماعي وليست اغتصاباً جماعياً لفتاة تحت تأثير المخدر، بحسب المزاعم التي انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وعبرت عن ذلك إحدى الناشطات في حديثها للغارديان، طالبة عدم الإفصاح عن اسمها لأسباب أمنية: "في ظرف ساعات، تحول شعورنا من الإحساس بالفخر والأمل إلى الشعور بالرعب. أخشى أن المزيد من حالات القبض العشوائي ستقع قريباً، فهم يقبضون على الناس كي يخيفونا لنصمت، رسالة الدولة لنا واضحة: أردتن ثورة نسائية، هذا هو شكل تلك الثورة"، مضيفة أن البنات تدخلن فراشهن مرتديات ملابس الخروج خوفاً من وصول الأمن الوطني في أي لحظة لجرهن من الفراش.
بيان النيابة العامة الأخير جاء غامضاً، يحتمل تفسيرات متعددة، وأشار للشهود على أنهم متهمون، ما جعل الناشطات الخائفات يلجأن للمجلس القومي للمرأة، فكانت المفاجأة عدم وجود رد من المجلس، وتبخّرت وعود الحماية للضحايا والشهود والناشطات والمدافعات والمدافعين عن حقوق المرأة، وقالت ناشطة للصحيفة: "أشعر بالخيانة المطلقة (من جانب المجلس القومي للمرأة)، وأعتقد أن مايا موسى لا بد أن تستقيل فوراً (رئيسة المجلس)"، ولم تردّ موسى على طلب التعليق من الصحيفة البريطانية، والأمر نفسه تكرر مع إحدى عضوات المجلس.
اغتيال معنوي للناشطات
لكن الكارثة لم تتوقف عند توقيف الشاهدات والشهود والنشطاء، بل تم تسريب صور وفيديوهات شخصية على أجهزتهم المحمولة التي استولى عليها الأمن الوطني منهم عند القبض عليهم، إلى مواقع وصحف داعمة للحكومة بهدف تشويه سمعتهم واغتيالهم معنوياً أمام الرأي العام، وهو السلاح الأبرز الذي تستخدمه السلطات الأمنية المصرية منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
ناشط حقوقي وصف ما يحدث بأنه "رسالة صاخبة موجهة لمن يتكلم عن التحرش أو الاغتصاب عامة أو قضية فيرمونت تحديداً: لو تكلمت سندمر حياتك أو نسجنك"، مسترجعاً الرسائل المبكرة للشهود والضحايا بأنهم "ستتم حمايتهم وسرية بياناتهم"، ومقارنة ذلك بالرسالة الأخيرة من الأمن الوطني، مضيفاً: "من العاقل الذي سيبلغ عن متحرش أو مغتصب الآن بعد ما حدث؟"
وكانت الضجة الكبيرة التي أثارها تعرض عشرات الفتيات لاعتداءات جنسية واغتصاب وابتزاز من جانب المتهم المدعو أحمد بسام زكي، المقبوض عليه حالياً رهن التحقيقات في المزاعم الموجهة ضده، أثارت جدلاً ضخماً ما زال مستمراً في المجتمع المصري، وتخطى ذلك الجدل الحدود وتناولته غالبية الصحف ووسائل الإعلام المختلفة حول العالم، ونشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريراً مفصلاً حول القصة بعنوان: "اتهامات موجَّهة لمغتصب متسلسل تدفع مصر نحو الحساب"، لكن التطورات الأخيرة ربما تكون أغلقت باب الأمل مرة أخرى.